عبد الله هاشم
لا تترك الهيئات الاقتصادية هذه الأيام مناسبة إلا وتؤكد تكرار رفضها سلسلة الرتب والرواتب للموظفين في القطاع العام. والخطير أنّ هذا الرفض يدخل في سياق معركة يخوضها موظفو القطاع العام لتأكيد حقهم في الحصول على السلسلة وغير مقسطة، فيما الحكومة تماطل في إقرارها وتحويلها في مشروع قانون إلى مجلس النواب. وربما ينتهي عمر هذه الحكومة مع استحقاق الانتخابات النيابية المقبلة، فتطير السلسلة أو ترحّل إلى العهد المقبل.
لقد كان مفهوماً أن تتصدى الهيئات الاقتصادية لتصحيح أجور موظفي القطاع الخاص، باعتبار أنّ هذه الأجور نظرياً تدفعها الهيئات مباشرة (وفعلياً تحمّلها لأسعار السلع والخدمات)، كما هو مفهوم أن تتصدى الدولة لعملية تصحيح الأجور برمّتها، باعتبارها رب العمل الأكبر في البلد.
فما هي قضية الهيئات الاقتصادية مع سلسلة الرتب والرواتب لموظفي القطاع؟ طالما أنّ هؤلاء الموظفين يعملون في الإدارة العامة، والدولة اعترفت على ألسنة مختلف مسؤوليها بأن رواتبهم هزيلة وتحتاج إلى تصحيح، وأن من شأن هذه السلسلة أن تزيل بعض الغبن عن أجورهم؟ ولا سيما أن معظم عمل موظفي هذا القطاع يذهب في خدمة الهيئات الاقتصادية بمؤسساتها وشركاتها. وهل القضية يمكن حصرها بـ«أجور مقبولة» من جانب هذه الهيئات، أم أن القضية تتجاوز ذلك إلى جوهر العلاقة التي تربطها بمؤسسة الدولة وفلسفة «دور» الدولة بقيادة البلد وتنظيم سير قطاعاته المختلفة؟ وهل حقاً تهدد كلفة السلسلة هذه الاقتصاد الوطني، فيما تمارس الهيئات الاقتصادية مع «أركان» الدولة حرصاً غير مسبوق لحماية الاقتصاد الوطني وتفادي تعريضه لأزمات أو انتكاسات؟
يكاد من يقرأ بيانات الهيئات الاقتصادية ومعهم أركان الدولة «الحريصون» على الاقتصاد الوطني أن يحار فعلاً في أمر هؤلاء، ولا سيما أنّ ممارساتهم في إدارة العملية الاقتصادية في البلد تتميز «بشفافية» مطلقة.
أولاً: يختلط باستمرار عندهم نشاطهم في القطاع الخاص بنشاطهم في القطاع العام. فالاثنان عندهم يصبح واحداً. وهنا نعرف أن مشاريعهم الخاصة في الالتزام من الدولة فوق القانون، ومشاريع الدولة هي مشروعاتهم التي تدرّ عليهم ذهباً من العمولات والأكلاف التي تتجاوز كل منطق وكل اعتبار.
من أنشأ «ليبان بوست» مثلاً؟ وكيف حلّت في خدماتها محل وزارة البريد والبرق والهاتف؟ ولماذا استمرت الدولة بدفع رواتب وتعويضات موظفي الوزارة الذين كانوا يناهزون الألف موظف، فيما أعمالهم تقوم بها جهة ثانية؟
ومن أنشأ شركة الخلوي؟ وبأموال من أنشئت هذه الشركات (معروفة بقصة الـ 500 دولار عن كل خط)؟ وكيف رخص لها باستخدام الفضاء اللبناني؟ فيما السائد أن كل رخصة يجب أن يعود حق استثمارها بمئات ملايين الدولارات على الخزينة؟ وكيف تجاوزت الأنظمة والعقود المبرمة معها مجاناً؟ وكيف؟ وبأي كلفة تم فسخ العقود معها؟ ومن دفع؟ ولحساب من؟!
ومن وضع يده على قطاع النفط؟ وكيف؟ وبأية عائدات على الدولة تم ذلك، وهو حق حصري «بالدولة»؟ وكيف استمرت الدولة بدفع رواتب وأجور وتعويضات العاملين في هذا القطاع؟ وكيف تركت مصفاتا الزهراني وطرابلس تهترئان، وقد وضع البعض يده على الكثير من خزاناتها واستخدمها لحسابه الخاص؟
ثانياً: من يتعدي صبح مساء على حقوق الخزينة والمالية العامة؟ أليسوا بالتكافل والتضامن أركان الدولة والفعاليات الاقتصادية؟!
من نظّم إيجارات عقارات تعود للدولة لـ 99 سنة ببدلات لا تساوي قيمة الطوابع الأميرية الملصقة عليها؟ ومن أصدر التشريعات والقوانين بالإعفاءات والتهرّب من دفع الضرائب للشركات الكبرى؟ ولحساب من؟ من أصدر القوانين والأحكام باستملاك عقارات البلد وردم البحر ووضع اليد على أملاك الناس بأسعار شبه مجانية؟ من وضع يده على الشواطئ البحرية والنهرية وقام بشفط الرمول منها وبيعها؟ ومن شرّع ورخّص لأصحاب الكسارات بتدمير جبالنا وتفتيت صخورها، ولقاء أية عائدات للدولة؟ ومن أصدر الأحكام بتعويض بعضهم بعشرات ملايين الدولارات، مقابل هذه «الإنجازات»؟ ومن ترك القضاة يذهبون الى بيوتهم معززين مكرمين، وفي جيوبهم شيكات الرشى أو التهديدات بالقتل؟ من حقق مع من؟ ومن حمى من؟!
ثالثاً: من هي الجهات التي تسبّبت بفشل نظام حماية المسنّين، بضرب قانون الشيخوخة، وتمتنع عن دفع حقوق المضمونين وتهدد صناديق الضمان الاجتماعي بالعجز والإفلاس...
ومن سرق ويسرق أموال وزارة الصحة ومرضاها معاً، وبعد ذلك يطلع علينا أصحاب المستشفيات في كل مناسبة بالتهديد بوقف استقبال المضمونين ومرضى الوزارة إذا لم ترفع الفاتورة... ومن الذي يروّج للأدوية الفاسدة والمزوّرة والمنتهية الصلاحية، ومن الذي يبيع المواد الغذائية الفاسدة، وكلنا يذكر فضائح اللحوم والأسماك الفاسدة... وإلى أية نتيجة انتهت الأمور؟
رابعاً: من الذي يستولي على معظم مشاعات الدولة؟ ومن الذي استولى على الفضاء اللبناني وأنشأ محطاته التلفزيونية؟ وبأي حق؟ وبأي مردود للدولة أو عائدات؟ ولأي القوانين تخضع هذه المحطات التي تطرق على رؤوسنا في كل وقت تبشّر بالانقسام والفتن والحرب على ألسنة هذه الجهات نفسها؟
خامساً: من الذي يزوّر المعاملات للتهرّب من دفع أموال الجمارك في المرافئ الجوية والبحرية وعلى الحدود؟ ومن الذي يتهرّب من دفع بدلات الخدمات من ماء وكهرباء وهاتف و... ومن يلهب الأسواق بالمضاربات المالية والعقارية ويشتري الشقق والمحالّ ويتلاعب بأموال المودعين ويمارس الإفلاس الاحتيالي وحتى... الهرب بأموال المودعين إلى الخارج؟ أليسوا هم المصرفيون وأصحاب الشركات المالية والعقارية؟ ألا يهدد ذلك الاقتصاد الوطني ويحمّل بالتالي الخزينة قيمة الودائع إذا كانت المؤسسة التي تم إفلاسها مصرفاً؟ وبالتالي، ما هو المردود الاقتصادي لكل هذه العمليات (في حال كانت سليمة) على مالية الدولة؟
سادساً: من الذي يزوّر في دفاتره وسجلاته تهرباً من دفع الضرائب المستحقة عليه للدولة، ويقدم للدولة دفتراً ويحتفظ بدفتره الأصلي؟!
سابعاً: من الذي أفلس البلد ورتّب عليه ديوناً تتجاوز الـ 60 مليار دولار؟ وهذه الأموال أليست في جيوبهم وفي صناديق مؤسساتهم؟!
بربكم، اسألوا من تزيّن أبراجه مدخل العاصمة الجنوبية، وتتهيأ ناطحة سحابه بعشرات الطبقات لحراسة مدخلها الشمالي؟ اسألوا هل دفع كل الضرائب المترتبة على هذه الصروح وغيرها في غير منطقة؟ واسألوه أيضاً، وهو إلى جانب كونه صاحب نظرية في الاقتصاد (أين منها نظرية كارل ماركس في عزّها) هل دفع متوجبات الخمس والزكاة على هذه الأموال، وهو المعروف أنه التقي الورع؟ أم أنّه هدد بقطع يده قبل أن يدفع، كما هدد بقطع اليد ذاتها قبل أن يوّقع قرار خفض سعر البنزين لسائقي السيارات العمومية؟!
ثامناً: وهل القطاع الخاص بهيئاته الاقتصادية في حالة «رضىً كامل» عن الدولة ودورها ووضعها، أم أنه يراها فاسدة، مترهلة، وعاجزة وفاشلة وقاصرة؟ وهل يريدونها غير ذلك؟!
تاسعاً: هل تريد الفعاليات الاقتصادية أن تكون الدولة قوية، قادرة وعادلة وتمتلك رؤى وإمكانيات على التنظيم للنهوض بكل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية؟! وكيف تقوم هذه الدولة برأي الهيئات الاقتصادية، فيما تقف هذه الهيئات بالمرصاد لكل مشروع اقتصادي ذي أبعاد اجتماعية حقيقية وواضحة إذا طاولت أكلافه نسبة من مساهماتها مثل ضمان الشيخوخة... إلى مشروع سلسلة الرتب والرواتب، الذي من شأن تنفيذه تصحيح أوضاع أكثر من 180 ألف موظف وعائلاتهم؟
إن مسيرة اللبنانيين الطويلة مع دولتهم وفعالياتهم الاقتصادية لا تشير مطلقاً إلى صدق ما يزعمه هؤلاء من حرص على اللبنانيين واقتصادهم الوطني. ولا يرون في ذلك إلا كذباً مفضوحاً بممارساتهم الخارجة عن كل قيد وكل مألوف. وإن أية مخالفة يرتكبها هؤلاء، وما أكثر مخالفاتهم، كفيلة بتغطية كلفة السلسلة زيادة. إن القضية الفعلية عند الفعاليات هي أنهم إنما يريدون أن يأكلوا وحدهم وأن يخدمهم موظفو القطاع العام والقطاع الخاص من دون أن يحصلوا حتى على الفتات! فرفقاً بنا، كفى دجلاً وفجوراً.
* صحافي لبناني
السبت ٢٠ تشرين الأول ٢٠١٢