ادمون صعب
«يكون في آخر الزمان قرّاء فَسَقَة،
ووزراء فَجرة، وأمناء أَخوة، وعرفاء
ظُلمة، وأمراء كَذبة».
عبد الله بن عمر
ارتاح شربل نحاس و«ريّح»؟ هكذا بدت الصورة أمس لبعض الذين حاربوا شربل نحاس وزيراً للاتصالات.
كذلك بدا ان الذين أراحتهم استقالة نحاس من وزارة العمل يلتقون والذين كانوا قد ارتاحوا من إزاحته في الحكومة التالية من وزارة الاتصالات إلى وزارة العمل، بصرف النظر عن توجهاتهم السياسية ومبادئهم الاقتصادية ونظرتهم إلى المواطن ـ الإنسان الذي أراد نحاس خدمته في وزارة العمل والمحافظة على حقوقه، وكذلك استرجاع ما سلب منها، كمثل بدل النقل الذي كان يُعطى خلال الخمس عشرة السنة الماضية من خارج الراتب واستنسابياً، بينما هو جزء من الراتب، وقد شكّل القشة التي قصمت ظهر البعيد. وقد أجمع فقهاء القانون، وفي مقدمهم المحامي الدكتور بهيج طبارة على أن «المبلغ الذي يُدفع كبدل نقل يجب أن يدخل في صلب الأجر»، مضيفاً أنه «عندما تقرر الحكومة زيادة غلاء المعيشة، فإنها تكون قد أخذت في الاعتبار الزيادة الطارئة على بدل النقل».
وبما أن الحكومة هي ائتلاف مال وأعمال وأمراء حرب، فقد أصرت على التصويت على مشروع مرسوم غير قانوني في هذا الشأن، ووضعت رقبة نحاس تحت المقصلة: توقّع أو نقطع رأسك! فأجاب: «لن أوقّع، وسيبقى رأسي مرفوعاً».
وكان ان تبارى أمس «الغيارى» على الدولة، وصلاحيات رئيس الحكومة وكذلك فعل الحرصاء على موقع «رئاسة الجمهورية» في الإعلان عن ربحهم معركة دفعه إلى الاستقالة ورفضه توقيع مرسوم يعتبره مخالفاً للقانون، من دون أن يُعطى فرصة لعرضه على مجلس شورى الدولة. ومن هو الخاسر.
البعض وضع الرئيسين ميشال سليمان ونجيب ميقاتي في خانة الرابحين، في مقابل خاسر كبير، إلى الآن، هو العماد ميشال عون، رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» الذي كان دعا نحاس إلى تمثيله في الحكم استناداً إلى اعتبارات علمية ومهنية وأخلاقية، ثم تخلّى عنه بطريقة غير لائقة، لا تشجع نظراء لنحاس على سلوك طريق الرابية إلا إذا كانوا من المستوزرين المتلهّفين للقب واللوحة إضافة إلى المرافقين، وما تفتحه الوزارة أمامهم من أبواب الاسترزاق، مع الأزلام والأتباع.
وإلى عون وتياره الذي تعرض للقضم يومياً، خصوصاً من جانب «القوات اللبنانية» التي كان رئيس هيئتها التنفيذية سمير جعجع يعلن شرعتها السياسية، استكمالاً لتنظيم حزبه، في الوقت الذي كان هناك في الرابية من يحاول سحب البساط من تحت قدمي شربل نحاس والتنكر للعهود التي قطعها له عون بعدم التخلي عنه وإن أدى ذلك إلى انفراط عقد الحكومة، في إشارة واضحة إلى عدم ثبات عون على مواقفه، والى خفة وتسرّع أحياناً في مواقف كان بعضهم يجدون فيها أعذاراً انطلاقاً من تقديرهم لشجاعته ونزاهته ونظافة كفه، وهي صفات غير كافية للقيادة السياسية التي تحتاج إلى تعقّل وضبط أعصاب ولسان، لما فوق الزنار وما تحته، فضلاً عن القدرة على اجتراح الحلول التي تنسجم مع القوانين ولا تخالف الدستور، كما تحترم الرأي الآخر، ولا تذهب بالحق في الاختلاف إلى فرض مواقف فيها الكثير من الانتقاص من الكرامة والحطّ من القدر العلمي والأخلاقي للإنسان. بعد عون وتياره، هناك الدولة، أي المجتمع الذي يضم جميع المنتجين، فكراً وغلالاً وصناعة، إلى العمال الكادحين والعاطلين عن العمل، وربات البيوت، والطلاب والطالبات، والشباب والشابات الطامحين إلى دولة تحترم القانون، وتحافظ على الحقوق، ولا سيما حقوق الكسبة الفقراء.
كذلك هناك الأحزاب ذات التوجه اليساري والديموقراطي ـ الاجتماعي المسلم والمسيحي، والمجتمع المدني الذي ينشط أفراده في المناطق المهمشة حيث الفقر يسحق.
وبمقدار ما خيّب عون آمال محبيه ومريديه، وأفرح أخصامه وأراح منتقدي سياساته ومواقفه، فإن شربل نحاس بتصرفه النبيل قد أنعش الآمال في نفوس مجموعات كبيرة من اللبنانيين الذين كانوا يراهنون على أمثاله ممن يضعون القانون فوق كل اعتبار، ولا يساومون على المصلحة العامة. وقد فاز هؤلاء في الرهان.
لقد وضع نحاس صدقية عون على المحك.
يبقى سؤال جوهري: ماذا؟ ومن أوصل البلاد إلى هذه الحال من التردي والتسيّب والشلل؟
ثمة جواب يُعتقد أنه شاف يعطيه أعضاء «لجنة العتالة» في الطائف، أي النواب الذين شاركوا في صوغ الميثاق الوطني الجديد الذي تحوّل دستوراً، وفي مقدمهم الوزيران السابقان ألبير منصور وادمون رزق العضو في «لقاء الوثيقة والدستور» الذي يضم 12 نائباً ممن شاركوا في الطائف، وهو ان المسؤولية الأساسية تقع على عاتق رئيس الجمهورية، ثم بدرجة أقل على رئيس مجلس الوزراء.
ويقول هؤلاء إن رئيس الجمهورية لم تكن له يوماً صلاحيات فعلية كتلك التي أعطيت له في الطائف، لأن الصلاحيات التي زُعم انها انتزعت منه وأُعطيت إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، كانت مقررة للمفوض السامي الفرنسي أيام الانتداب، ولم تمارس إلا نادراً بعد الاستقلال.
ويرون «ان اتفاق الطائف قد جعل لرئيس الجمهورية مقاماً دستورياً أعلى، ومرجعية سامية، لكن الممارسة حولت الرئاسة إلى فريق (منذ عهد الرئيس الياس الهراوي) وعرّضتها للتشكيك وهزّت مكانتها، فصدمت أماني الشعب وخيّبت آماله». ويضيفون: «إن رئاسة الجمهورية هي القيمة الثابتة في رصيد الأمة، وليس لأحد التفريط بها، أو الافتئات عليها».
والرئيس في الطائف «ليس عضواً في فريق، بل هو مرجع لكل الافرقاء، على قمة السلطات جميعها»، وان صلاحية الاطلاع على جدول أعمال مجلس الوزراء «قد وضعت حرصاً على التوافق المفترض ان يكون قائماً بين الشركاء في السلطة، على اختلاف درجاتهم». أما في موضوع الجدل حول الصلاحيات التي يطالب الرئيس بأن تعطى له حتى يستطيع فرض الحلول، على ما يردد، فيقول «العتالة»، ان هذا الموضوع هو «مجرد ملهاة»، لأن الرئيس هو «مرجع كل السلطات، وله ان يحتكم إلى الأمة في أزمات الحكم وقضايا المصير، فلا يمكنه التنصل مما يحصل في عهده بأي حجة أو ذريعة». كما أنه هو الذي يشكّل مجلس الوزراء مع الرئيس المكلف.
ويشيرون، في باب الصلاحيات، إلى «ان تعطيل دور المحاسبة في مجلس النواب، وشل القرار في مجلس الوزراء، وتزاحم الرؤساء على الصدارة والحصص والنفوذ (...) قد شكل نقضاً عملياً لمبدأ الفصل بين السلطات. فبدت المؤسسات أشبه بإقطاعات شخصية، وتحولت الوزارات والإدارات محميات حزبية ومذهبية. وبات كل مترئس يعتبر نفسه رئيساً أوحد، مما أسقط فكرة الدولة الموحدة».
ويأخذ «العتالة» على رئيس مجلس الوزراء سوء تقديره لصلاحياته الدستورية «فهو حيناً لا يمارس صلاحياته، وأحياناً يأخذ صلاحيات غيره، كما يتجاوز صلاحيات الوزراء».
ويرى الوزير السابق ألبير منصور، ان ما طبق منذ إقرار الإصلاحات الدستورية عام 1992 ليس الطائف الذي شارك في صوغه، إذ «أُحدثت بدعة الترويكا، فاختصرت المؤسسات، وجرى تحالف بين المال والسلاح، وتحول الوزراء موظفين عند الرئيس رفيق الحريري وأدى ذلك إلى قيام حكم خارج مجلس النواب، ومورس تشبيح لمصادرة الصلاحيات من فريق خلق كيانية رئاسية حلت محل الرئيس الذي يعترف الدستور به وحده.
وأوضح ان النظام الحالي ليس هكذا إذ اننا في «نظام قبلي، طائفي، ومذهبي، لا يساوي بين اللبنانيين، وهو تالياً بعيد عن نظام المواطنة».
واختصر أزمة الطائف بحجر كريم وأُعطي إلى سمكري بدل إعطائه إلى «جوهرجي»! والحل؟
بتطبيق الطائف الحقيقي، من دون زيادة أو نقصان، إذا شئنا ألا تتكرر مأساة شربل نحاس