تجري اتصالات بين عدد كبير من النقابات العمّالية والنقابيين لإطلاق تحرّك ينزع عن قيادة الاتحاد العمّالي العام الحالية صفة تمثيل العمّال. هذه الاتصالات تأتي كرد مباشر على ما سمّي بالاتفاق “الرضائي” مع هيئات أصحاب العمل
محمد زبيب
في منتصف كانون الأول الماضي، خرجت صرخة «مكبوتة» من نقابة عمال وأجراء مرفأ طرابلس: «عليكم يا قيادة الاتحاد العمّالي العام الاستقالة فوراً خدمةً لمصحلة العمال... آن الأوان لأن تستريحوا، كفاكم فشلاً وإخفاقاً، وكفاكم استخفافاً بعقول الناس... نريد أن نعلمكم، ونعلم الجميع، بأنه ليس لنا عداوة مع أحدكم، ولا نقصد الإساءة إلى أحدكم، بل نحن نتحدث عن أدائكم الذي هو أداء سياسي وحزبي بامتياز، وليس عملاً نقابياً بحتاً... لذا لن نسكت بعد الآن، لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، وسندافع عن الطبقة العاملة والمناضلة بلقمة عيشها».
هذه الصرخة لم تلق الصدى يومها، فما بقي من نقابات حقيقية ونقابيين حقيقيين، هم إمّا محبطون ومستسلمون لليأس، وإمّا مراهنون على أن تواطؤ قيادة الاتحاد العمّالي وتبعيتها السياسية المطلقة وانصراف أعضائها الى «نتش» مكاسب «هزيلة» من هنا وهناك... لا يمكن في أي حال أن تبلغ درجة تُقدم فيها هذه «القيادة» على المجاهرة علناً بوقوفها ضد العمّال ومصالحهم وحقوقهم الثابتة. اعتقد هؤلاء النقابيون أنهم أمام حالة شبيهة بالحالات السابقة، عندما كانت هذه «القيادة» تكتفي بالتفرّج وتمارس التقصير الممنهج وتغيب عن ساحات نضال العمّال الذين يتعرّضون كل يوم لهجمات تستهدف النيل من مكاسبهم، تماماً كما فعلت هذه «القيادة» عندما لم تتخذ أي موقف ضد إدارة شركة طيران الشرق الأوسط التي هددت الحق في الإضراب من خلال حسم أيام الإضراب من رواتب الطيارين!
ما جرى لاحقاً في ملف تصحيح الأجور، أعاد التذكير بصرخة نقابة عمال وأجراء مرفأ طرابلس، فقيادة الاتحاد العمّالي تخلّت عن «غيابها» لتنزل الى الساحة وتتحالف مع هيئات أصحاب العمل ضد مطالب العمّال، وذهبت، بإيعاز من مشغّليها، الى توقيع اتفاق «إذعان» يغطّي عملية قرصنة جزء حيوي من الأجر، يُسمّى بدل النقل، إذ إن رفض هذه القيادة اعتبار «بدل النقل» عنصراً من الأجر، لا يعني سوى قبولها أن يبقى نصف الأجراء في القطاع الخاص محرومين إيّاه، أي إنها قدّمت التغطية الكافية لتلك المؤسسات «المحمية» التي تسلب نحو نصف مليار دولار سنوياً من حقوق الأجراء، وتضيفها الى أرباحها غير المشروعة.
لعل وصف «الاتفاق الرضائي» بأنه تاريخي، هو وصف صحيح، إذ إنه لأول مرّة في التاريخ يقف من يدّعي تمثيل العمّال موقفاً منحازاً ضد تحسين مكاسب من يمثّلهم، فقيادة الاتحاد العمّالي تتمسك برفع الحد الأدنى للأجور الى 675 الف ليرة، وترفض رفعه الى 800 الف ليرة، بحسب ما يطرح «وزير العمل»، الذي هو في هذه الحالة يمثّل «السلطة»، أو هكذا يُفترض. وتتمسك بزيادة هزيلة مقطوعة على الأجر، وترفض تصحيح الأجور تصحيحاً فعلياً يعوّض جزءاً مهمّاً من خسائره التي مني بها نتيجة السياسات الجائرة منذ بداية عقد التسعينيات الماضي حتى اليوم، وتتمسّك بتشويه مفهوم الأجر، وترفض تحصينه وتحصين حقوق العمّال بالقانون! نعم هذا أمر لم يحصل في التاريخ.
في ظل هذا المشهد «السريالي»، بدأت تظهر ملامح تحرّك نقابي ضد هذه «القيادة»، إذ أخذت هيئة التنسيق النقابية المبادرة، ولا تزال، وباتت تتحدث باسم جميع العمّال والمستخدمين، وليس فقط باسم الأساتذة والمعلمين وموظّفي الإدارات العامّة. وهي في صدد الإعلان عن تحرك في الأسبوع المقبل، كما بدأت الاتصالات تتكثّف لإنشاء أُطر نقابية بديلة، ومن المقرر أن تلتقي مجموعة واسعة من النقابات والنقابيين في مقر الاتحاد الوطني لنقابات العمّال بعد ظهر الاثنين، لاستكمال البحث، كما بدأت تظهر دعوات من مجموعات شبابية مصدومة لاحتلال مقر العمّال، وطرد محتلّيه منه تحريراً لإرادة العمّال ومطالب الشباب المقصيّين من سوق العمل. وبدأت نقابات حقيقية ترفع الصوت عالياً «لأن السكوت أصبح جريمة بحق الطبقة العاملة وأصحاب الدخل المحدود»، وهو ما أعلنته نقابة موظفي المصارف في لبنان أمس، التي رفضت مساهمة الاتحاد العمّالي في نقل ملف الأجور الى الأروقة الضيقة، الذي كانت حصيلته «في إحدى الليالي الظلماء» تسوية همايونية، فقد رأت النقابة «أن الاتفاق الذي عُقد بين هيئات أصحاب العمل والاتحاد العمالي «غير مقبول»، مؤكّدة «أن ما تقدم به وزير العمل شربل نحاس لجهة بدل النقل هو مطلب «حقيقي»، واستغربت كيف تتمسك الهيئات ببدل النقل بعد الطعون التي تقدمت بها أمام مجلس شورى الدولة.
وأصدر رئيس مجلس المندوبين السابق في الاتحاد العمّالي العام أديب أبو حبيب بياناً وصف فيه رئيس الاتحاد العمالي بأنه «مدافع شرس عن مصالح أصحاب الأعمال»، واتهمه بالانحراف عن قرارات المؤتمرات النقابية لمصلحة الانسجام كلياً مع «الخلطة السحرية» للاتفاق المبتور بتصحيح الأجور. وأسف أبو حبيب لوقوف قيادة الاتحاد العمّالي ضد الاقتراحات التي تقدم بها وزير العمل بإعادة الاعتبار الى الأجور، مشيراً إلى «أنها فعلاً مهزلة ترتكب بحق تاريخ الحركة النقابية التي لم تساوم ولا مرة على حقوق العمال». ودعا النقابات والاتحادات إلى رفض الممارسات البهلوانية من قبل غسان غصن حفاظاً على تاريخ الاتحاد النضالي.
وكان الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين قد أعلن وقوفه الى جانب مشروع نحاس بخصوص الأجر الاجتماعي وضم بدل النقل، ودان موقف غسان غصن، «لكونه يراعي مصلحة أصحاب العمل والاحتكارات على حساب مصلحة الطبقة العاملة».
وتكررت المواقف المماثلة من عدد كبير من الاتحادات والنقابات العمّالية التي وجدت في موقف غسان غصن تماهياً مع الحملة الشرسة على وزير العمل، لكونه يقف إلى جانب العمال والموظفين، واستعادة حقوقهم الكاملة في الأجر الذي سرق منهم منذ عام 1995. فدعا اتحاد نقابات عمّال البناء والأخشاب الى قيام جبهة نقابية عمالية قادرة على استعادة الحقوق المشروعة للعمال. وصدرت سابقاً مواقف مماثلة من اتحاد نقابات عمّال البقاع واتحاد نقابات عمال الصناعات الغذائية واتحاد نقابات عمّال شركات الطيران (التي ينتمي اليها غصن نفسه). كذلك فعل الاتحاد العام لنقابات عمال لبنان، الذي أعلن «أن المعارضة العمالية النقابية أعطت التفويض الكامل لهيئة التنسيق النقابية للتفاوض في لجنة المؤشر، وأن الخطوات والتحركات المقبلة ستكون مشتركة».