لافتة جداً طريقة ممارسة تكتل التغيير والإصلاح للعمل الحكومي. ويستدل من تلك الطريقة أنّ ميشال عون قد حزم أمره، منذ أن قرر توزير شربل نحاس، على تبني مشروع إصلاحي حقيقي لمفاصل معينة من النظام اللبناني، وجعل هذا المشروع مشروعاً لزعامته المسيحية. يأخذ هذا الكلام طبعاً في الحساب أن ميشال عون، ومنذ أن بدأ العمل السياسي، لم يعمل إلاّ من ضمن «الحقائق» الطائفية في لبنان، ولم يسع بالتالي إلاّ إلى بناء زعامة مسيحية صرفة. لكن بالرغم من عدم اختلاف عون من هذه الناحية عن أي زعيم طائفي آخر، فإنّه يختلف اختلافاً جوهرياً عن باقي هؤلاء من ناحية إيجاد مشروع لتلك الزعامة، يقوم على محاولة إصلاحية (داخل حدود معينة) للنظام، بدلاً من العمل على بناء الزعامة من أجل الزعامة فقط. وقد ازداد ذلك الاختلاف أهمية بعد التطور الإيجابي الكبير الذي حدث في مشروع عون ما بين نسخته الأولى (الشديدة اليمينية) التي خاض الانتخابات النيابية في 2005 على أساسها، ونسخته الحالية التي تبلورت مع دخول شربل نحاس في الفريق الحكومي العوني. والمشروع يمثل الخطوة الاولى في رحلة الالف ميل بالنسبة إلى ما يحتاج إليه النظام اللبناني من نسف للأسس الطائفية التي يقوم عليها، لكنّه يبقى مشروعاً شديد الأهمية أولاً، لأنّه المشروع الإصلاحي الوحيد المطروح من أيّ من مكونات الائتلاف الطائفي الحاكم في البلد، وثانياً لأنّه يحاول تصويب نظام الدولة الاقتصادي، فتستعيد ممارسة وظائفها «الطبيعية» تجاه مواطنيها.فمشروع شربل نحاس الذي صدر عن «لجنة المؤشر» لتصحيح أجور العمال هو مشروع متكامل لا يصحح الأجور فقط، بل يشتمل أيضاً على تأمين التغطية الصحية لجميع المواطنين المقيمين، والانتقال إلى نظام للتقاعد بدلاً من نظام تعويض نهاية الخدمة، إلى جانب برنامج للاستثمارات العامة للنهوض بالتعليم العام، ولتوفير الخدمات الأساسية من كهرباء وماء واتصالات، ولإقامة نظام نقل عام حقيقي يؤدي إلى ربط أوصال السوق الداخلية.أما تمويل المشروع فيأتي من إصلاحات ضريبة شديدة الأهمية، فتفرض الضرائب على الأرباح الريعية بدل الضرائب على الاستهلاك التي تصيب الفقراء أو الضرائب على المؤسسات التي تصيب الإنتاج. ويدعو المشروع أيضاً، في ما يدعو إليه، إلى حوافز ضريبية للمؤسسات التي تشغل الباحثين عن العمل لأول مرة. أي إنّ المشروع يدعو إلى انخراط الدولة من خلال النظام الضريبي في توسيع سوق العمل لمتخرجي التعليم العالي والحد من هجرة هؤلاء المتخرجين، علماً بأنّ النزف من هذه الفئة هو الأعلى بين مختلف الفئات المهاجرة.إنّ استعادة الدولة لممارسة وظائفها، الممارسة حالياً من قبل «أنظمة الحكم» المذهبية التي توطدت وترسخت بعد اتفاق الطائف، والطريقة التي أنهى بها الحرب الأهلية، هي من الخطوات الأساسية المطلوبة لبدء أي إصلاح للنظام الطائفي المقيت الذي يطبق على أنفاس البلد منذ الاستقلال. فمع أنّ المشروع لم يتطرق إلى ممارسة الدولة لدورها على صعيد التوظيف في القطاع العام (وهو السلاح الامضى في أيدي زعماء الطوائف)، فإنّ تطرقه إلى لعب الدولة لدورها الطبيعي في تأمين الخدمات الأساسية لمواطنيها في المجالات الواردة أعلاه، يمثل خطوة أولى لسلب أباطرة الطوائف والمذاهب بعض الأسلحة الموجودة في أيديهم التي يستخدمونها للهيمنة على الأتباع من أبناء هذه الطوائف والمذاهب، وضمان خضوعهم للزعامة الطائفية وتمسكهم بالهوية الطائفية بدل هوية المواطنة الجامعة. ويفسر هذا الأمر العداء الشديد الذي قوبل به مشروع شربل نحاس أخيراً، ومحاولة تخريب المشروع من قبل جميع أباطرة الطوائف في البلد، سواء من حلفاء ميشال عون أو من أخصامه. فما قام به أقطاب 8 آذار من محاولة وأد ذلك المشروع، لا يختلف كثيراً عما قام به أقطاب 14 آذار، أو ما قام به أقطاب الوسطية الجدد على هذا الصعيد.فقد جاءت الضربة الأولى للمشروع من نبيه بري الذي استشعر بالخطر المحدق «بإقطاعتيه» في الضمان الاجتماعي ووزارة الصحة، فرد بتدبيج مشروع «ضمان صحي» خاص به على عجل، وبتحريض الاتحاد العمالي العام (وهو هيكل خاو لا يمت للعمال بصلة، معقودة رئاسته لقوى 8 آذار منذ سنوات)، على الوقوف ضد شربل نحاس ومشروعه ومقاطعة «لجنة المؤشر» من أساسها. أما وليد جنبلاط فقد رد على المشروع بتحويل ميشال عون إلى عدوه الأول، وتدل الشراسة التي تكلم بها جنبلاط أخيراً، خلال مقابلته على قناة المنار عن شربل نحاس على شدّة تخوفه من الخطر الذي يمثله مشروع نحاس على النظام الطائفي في لبنان. ومن المؤكد أنّ جنبلاط وبري ليسا وحيدين في استنفارهما تجاه هذا الخطر، فرئيس الحكومة نجيب ميقاتي حاول التخلص من نحاس بإشهاره الفيتو على توزيره أثناء تأليف الحكومة، ثم عاقبه بإقصائه عن وزارة الاتصالات «ونفيه» إلى وزارة العمل، عندما لم يتمكن من إقصائه عن الحكومة بمجملها. ومعروفة جداً المصالح الهائلة في قطاع الاتصالات. لكن «رب ضارة نافعة» كما يقول المثل، فهذا النفي إلى وزارة العمل هو بالضبط ما جعل شربل نحاس يتمكن من انتهاز فرصة تفعيل «لجنة المؤشر» تحت رعايته، من أجل التقدم بمشروعه.لكن إذا كان الخطر الواضح على مصالح الزعامات الطائفية، القديمة منها والمستحدثة، يعطي تفسيراً للحرب التي اندلعت بين جميع هذه الزعامات من جهة، وشربل نحاس ومشروعه وميشال عون من خلفهما من جهة أخرى، فإن المرء لا يجد تفسيراً لوقوف حزب الله موقف المتفرج من كل ما يجري. فالحزب صاحب مصلحة أكيدة في إصلاح النظام الطائفي في لبنان، لأنّ النظام الطائفي هذا هو العامل الأساسي الذي يوفر الأرضية الصلبة للانقسام المذهبي ويذكي الصراع المذهبي القائم في البلد. وإسرائيل وأميركا، بعدما جربتا القضاء على حزب الله عسكرياً، وفشلتا في حرب تموز 2006، لم يعد في أيديهما من سلاح ضد الحزب سوى محاولة عزله عن محيطه بواسطة الصراع المذهبي. ويجري العمل ليل نهار على تسعير الصراع المذهبي السني ــ الشيعي، سواء في لبنان أو في باقي أرجاء المنطقة العربية، والعمل على أبلسة الحزب في عيون السواد الأعظم من الرأي العام العربي، بواسطة هذا الصراع.والخطوة الأولى التي يمكن أن يخطوها حزب الله في مواجهة هذه الحرب هي العمل على تخفيف الحدّة المذهبية في المنطقة انطلاقاً من تخفيفها في لبنان. ويجب الاعتراف هنا بأنّ الحزب حاول تخفيف الحدّة المذهبية في لبنان بواسطة محاولة استرضاء زعماء الطوائف تارة ومحاولة اختراق تلك الطوائف تارة أخرى. لكن الحزب فشل حتى الآن، للأسف، في تخفيف الحدّة المذهبية في البلد بواسطة أي من تلك الطرق. فالطريقة الوحيدة لتخفيف تلك الحدة هي في إضعاف مراكز القوى و«أنظمة الحكم» الطائفية والمذهبية في البلد. وقد جاءت الفرصة الآن إلى الحزب لإضعاف هذه القوى على طبق من فضة، وليس هناك من حجة يمكن أن تبرر عدم التقاط الحزب لتلك الفرصة. والحقيقة أنّ الحجة التي أوردها السيد حسن نصر الله في مقابلته الأخيرة في المنار، والمتمحورة حول قلة التنسيق مع حلفاء الحزب في الحكومة، ومن بينهم تكتل التغيير والإصلاح، وضيق الوقت للاطلاع على تفاصيل المشاريع المقدمة إلى الحكومة، تدل بكلّ صراحة على قلّة اهتمام وقلّة كفاءة من قبل الحزب بإدارة الملفات الداخلية. فالحزب لم يتقاعس فقط عن مساندة مشروع شربل نحاس الاقتصادي، بل اتخذ حتى الآن موقف غريباً جداً من اللامبالاة تجاه مشروع اعتماد النسبية في الانتخابات النيابية، وهو مشروع آخر يمكن أن يؤسس لبداية إصلاح النظام الطائفي اللبناني ويساهم بالتالي بإبعاد خطر العزلة عن الحزب.إن ما قاله عون خلال خلوة تكتله الأخيرة من أنّه «ليس هناك إصلاح من دون مقاومة، وليست هناك مقاومة من دون إصلاح» هو كلام دقيق جداً، يستحق آذاناً صاغية من حزب الله. فمشروع الإصلاح المطروح من قبل عون لا يمكن أن يمر، من خلال ميزان القوى المذهبي المتحكم بالبلد حالياً، من دون مساندة المقاومة. أما المقاومة فلا يمكن أن تنجح على المدى البعيد، ولا يمكن أن تنجو من العزلة من دون إضعاف النظام الطائفي في لبنان بواسطة الإصلاح.إنّ العمل على إضعاف أباطرة الطوائف بخطة طويلة المدى للإصلاح مبنية على مشروع شربل نحاس، إلى جانب اعتماد النسبية في قانون الانتخابات النيابية، هو الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تؤدي إلى تخفيف الاحتقان المذهبي، وبالتالي ضمان عدم تعرض المقاومة إلى عزلة قاتلة على المدى الطويل. ومن غير الجائز لحزب الله بعد اليوم أن لا يقدم على استغلال هذه الفرصة، بدلاً من محاولاته البائسة والعقيمة لاختراق الطوائف بواسطة «سرايا مقاومة» من هنا و«لجان عمل مقاوم» من هناك. فاستحداث خلايا استخبارية جاهزة للتحرك عند الطلب لن يستحدث جماهير مؤيدة للمقاومة في أي من الطوائف المستهدفة، بل العكس هو الصحيح. لكن إصلاحاً يخلص الناس من قيود الطائفية على المدى الطويل لا بد من أن يحمي المقاومة من العزلة لأنّه الطريق الوحيد لبناء رأي عام معاد لإسرائيل على المستوى الوطني بدلاً من «الآراء العامة» المذهبية الموجودة حالياً التي يعميها الاستنفار المذهبي القائم عن رؤية إسرائيل العدو الدائم.