الاثنان على حق

فداء عيتاني

نادرة هي اللحظات الشبيهة بلحظة التوحّد اللبناني خلف منتخب كرة القدم أمس. نادرة ومؤقتة وموضعية. وسيراجع كل لبناني نفسه، سواء ضمّ لبنانياً آخر من طائفة أخرى في لحظة حماسة كروية نادرة، أو ابتسم لمشاهدة رئيس الجمهورية في الملعب، أو استمع إلى تعليقات شاشة تنتمي إلى طائفة أخرى. واليوم سيكون يوماً آخر، أشبه بباقي الأيام اللبنانية. الأيام اللبنانية العادية تشبه حلقة برنامج «بموضوعية» للزميل وليد عبود، الذي عبّر بأقل ما يمكن عن الحوارات اللبنانية التي سادت البلاد في الأعوام الأخيرة، والتي اشتدت مع بداية الثورة السورية، وستستمر بالتصاعد من اليوم إلى أن يقضي الله أمره في البلاد. سيختفي الهياج الخفاق حول الوحدة ومشاركة الأرزة في لعب الفريق الكروي، لنعود إلى الانقسام. وهذه المرة يجد الانقسام سبباً إضافياً: الوقوف إلى جانب الثورات في المنطقة العربية أو اعتبارها محض مؤامرة غربية لتصفية محور المقاومة. وكما هي العادة، فإن هذا الانقسام لديه أسبابه المحلية الضيقة، من تنازع أهلي على السلطة وعلى ربط لبنان بجهة أو جهات إقليمية ودولية للاستفادة من دعمها في إحكام سيطرة طائفة (وممثليها) على السلطة. لا جديد في المشهدين. ومشهد حلقة وليد عبود بين النائب السابق مصطفى علوش والوزير السابق فايز شكر أصدق تعبير عن النزاع الوطني. ها هما الضيفان يتحاوران «بموضوعية»، وكلّ يدافع عن وجهة نظره، ويرتديان ربطتي عنق ويتخاطبان متبادلين تعبير «يا دكتور» حتى حانت لحظة الحقيقة، فعبّر كلّ منهما عن مكنونات نفسه تجاه الآخر، وكما يرغب كل طرف ويشاء. إنه التعبير اللبناني الصادق عن قبوله للآخر، ومحبّته للطرف الثاني. ومن حاول الهجوم وفشل ليس وحده المعني بالعنف، فالآخر حاول اللحاق بزميله الذي يمثل طرف العنف، وتلقينه درساً في فنون القتال، ولكنه فشل. لا شك في أن هذه العبارات وغيرها هي ما يقدمه كل طرف لمناصريه في توصيف الخصم؛ فالخصم، «الشريك في الوطن»، هو كل الصفات التي سمعناها أول من أمس عبر الإعلام اللبناني، والكل يرى أن الآخر هو المخطئ أو البادئ أو المرتكب، أو الفاشي حتى. الانتشار السريع للمشهد الصاخب، من نزاع وتراشق بكوب ماء وتبادل شتائم واستعراض لفنون قتال تبدأ بالكرسي ويعلم الله أين تنتهي، مثَّل رغبة الجمهور في وقوع وحصول ما شاهده. الجمهور يتفهّم ضرورة مراعاة اللياقات على الشاشات، ولكنه في الشارع يتصرف تماماً كما شاهدنا علوش وشكر يتصرفان. ولحظة حصول الموقعة التلفزيونية، كانت كل وسائل التواصل الإلكترونية في لبنان تتبادل المشهد والخبر. فها قد ظهر شيء حقيقي، ويعبّر عن حقيقة الوحدة الوطنية في البلاد، ويظهر ماهية الانقسام وشكله وأفقه المستقبلي حتى. الانقسام اللبناني سيستمر إلى أن يأكل أصحابه، وهو يشبه ما حصل في الحلقة. بعد الموقعة، سيتابع اللبنانيون الكذب على النفس، والادّعاء أن هناك مجالاً دائماً لمتابعة الحوار الحضاري، سواء على طاولة وليد عبود أو على طاولة رئاسة الجمهورية في مؤتمر الحوار المعطّل حالياً، أو على طاولات البرلمان التي سبق أن شهدت تبادلاً للشتائم أيضاً على خلفية الانقسام حول سوريا. ولكن ما الذي يمنع اليوم أي مجموعة من التصدي بالعنف لأي مجموعة أخرى في الشارع؟ وكل من وزّع اللحظات الحامية على الإنترنت كان يتبنّى موقف هذا الطرف أو ذاك في حلقة التشاتم التلفزيوني. ولا رادع من أن يتحول العنف من الشاشات إلى الشارع، بدل نقل الخلافات من الشارع إلى المؤسسات من برلمان ومجلس وزراء. نهاية الصراعات التي نشاهدها ونعيشها هي في انفجارات داخلية مذهبية. فإن كان هناك من يراهن على «حرب نظيفة» مع العدو الإسرائيلي، أو ينتظر نزول الجنود البيض على سواحلنا لدعم سوريا، أو تدخل غربي لحماية اللاجئين السوريين في بلادهم أو فوق أراضينا فهو واهم. وإن كان هناك من يعتقد بأن الغرب سيشنّ حرباً ضروساً لتسليمه مقاليد الحكم في لبنان، وينتظر خلف شاشة IPAD محاوراً مناصريه عبر تويتر حتى يأتيه أمر حاكم الشام فيعود هو إلى حكم «ولاية لبنان»، فهو أيضاً قاصر. ما سيجري هو نسخ موسّعة عمّا شاهدناه على التلفزيون وعلى يوتيوب، وهنا كلا الشخصيتين على حق، وللأسف فإننا لن نتمكن من إدامة لحظات جمع الجمهور اللبناني في الملاعب.

الأكثر قراءة