فداء عيتاني
سيستذكر من اليوم فصاعداً الشيوعيون والقوميون السوريون وعدد من القوى انطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وهي ذكريات تبهت مع تعاقب الأجيال، وكلما بهتت الذكرى تعاظم الدور المتخيل لانطلاقة المقاومة ومساهمة كل طرف فيها، وموقعه منها.
في الأيام الأيلولية من عام 1982 كانت بيروت، التي صمدت، تودع الفلسطينيين المغادرين للعاصمة، بعد أشهر ثلاثة من الحصار، والكل قد تخلى عنها، السوفيات حينها سألوا الوفد الفلسطيني الذي زار موسكو طالباً الدعم، مستشهداً بستالينغراد «نحن انتظرنا الجيش الأحمر في معركتنا، وأنتم في بيروت من تنتظرون؟». والموقف العربي كان أشد تخلياً، الجيش السوري هُزم أمام القوات الغازية، وصمد جنوده في بيروت بمفردهم، أهل العاصمة وسكانها تخلوا عنها، وحدها بيروت التي قاومت ببضعة آلاف من أبنائها ودّعت الفلسطينيين بالدموع والرصاص.
في 16 أيلول، مع دخول الجيش الإسرائيلي الى العاصمة أصدر محسن إبراهيم، الأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي، وجورج حاوي، الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني، بياناً سياسياً يدعو أهل لبنان الى قتال الغزاة بالأظافر والأسنان. في 20 أيلول نُفّذت العملية الأولى لهذه القوى.
الحزب السوري القومي لم يكن أقل شأناً، ومهما قيل عن أن خالد علوان نفذ عمليته بمفرده، فقد افتتح هذا الشاب العمل المقاوم في يوم 24 من شهر أيلول نفسه في عملية الويمبي، التي أقل ما يحكى عنها أنها بسيطة وجسورة حد البطولة.
وعلى خلاف المزاج الشيعي، الذي استقبل الإسرائيليين في الجنوب بالأرزّ طمعاً في التخلص من «الممارسات الفلسطينية»، رأت حركة أمل حينها أن معركة خلدة هي بدايتها الفعلية في عمل المقاومة، وأنها أساساً تحمل فكر المقاومة في منهجها السياسي، وبحسب أدبياتها وذاكرة رموزها، فهي نفذت عدة عمليات في نهاية عام 1982.
وبخلاف الشائع، فإن اليسار والقوى التي اعتمدت تسمية جبهة المقاومة لم تنشئ هيكلية تنظيمية أو غرفة عمليات مشتركة، بل راح كل طرف يعمل منفرداً، والحد الأقصى للتنسيق كان بضم مجموعات مشتركة مع قوى فلسطينية أشد خبرة في التخطيط، لكنّ ذلك أيضاً جرى تجاوزه، إذ كان كل حزب قد أنشأ جهازاً مقاوماً يعمل مستقلاً، ويفضل العمل بمفرده، بعيداً عن الاختراقات الأمنية والتسرب المعلوماتي.
لم يكن حضور حزب الله واضحاً للعيان في تلك المرحلة الممتدة حتى عام 1985، لا في الجنوب ولا في بيروت، كان الحزب من شدة غموضه يبدو أقرب إلى جهاز أمني هجين، مغلق، سري، يعمل خارج السياق، مع أن كل من مر فوق الجبال في تلك الحقبة كان يكتشف استحكامات عسكرية ونقاطاً مدشمة زرعها حزب الله (وخاصة ما بعد عام 1984) في أقصى النقاط التي تمكّن من الوصول اليها. وهي في تلك المرحلة كانت تنمّ عن اعتماد الحزب تكتيكات غير متوافقة مع حرب الأنصار أو حروب العصابات.
في العديد من العمليات الأولى اعتمد الحزب أسلوب الموجات البشرية، كانت تلك التكتيكات تؤدي الى سقوط العشرات من الشهداء لاقتحام مواقع صغيرة، لا تضم أكثر من عشرين فرداً من جيش العملاء، يفر معظمهم خلال الاشتباك .
في العامين الأولين كان العائق الفعلي أمام عمل المقاومة هو الرأي العام، وخاصةً في الجنوب، حيث كان السكان ـــــ شيعة ومسيحيين ـــــ بأغلبيتهم المطلقة، يفضلون الخيار الإسرائيلي، وكانت هذه الأغلبية مستعدة بطيبة خاطر للإبلاغ عن أي حركة للمقاومة، وكان يمكن سماع اسم «الجيش الشيعي» وغيره من الأسماء لمجموعات من العملاء في القرى الشيعية، الذين تطوعوا لـ«حماية» مناطقهم.
في المقابل، ذهب مئات من الشبان من مختلف مناطق لبنان، ومن مختلف طوائفه، حاملين أفكاراً أيديولوجية متنوعة لقتال العدو، معظمهم يعرفون عن الجنوب اسمه فقط، ويقاتلون من أجل «وطن» تخيّلوه أفضل مما عاشوه، ومما أصبح عليه اليوم، ومات المئات من المسيحيين والسنّة وأبناء عكار وإقليم الخروب، وأبناء الجبل الدروز، وغيرها من المناطق والطوائف دفاعاً عن أرض «وطنهم»، وهم يحلفون باسم سعادة، أو يحلمون بتحالف العمال والفلاحين الأبدي. وكان محمد سعد قد برز قائداً مقاوماً.
لم يكن لحزب الله في البدايات الكثير. كان الشيخ راغب حرب يناضل لتعديل المزاج الشيعي، وكان الحزب يبحث عن أطره وشكله وتنظيمه وأساليب عمله، قبل أن يتحول الحزب الى القوة الأولى، ومن ثم الوحيدة، في المقاومة. ولم تعط له هذه المكانة، بل أصر على المقاومة من دون شروط، ولو أدى ذلك الى حرب شيعية ـــــ شيعية بأمر من سوريا ولمدة ثلاثة أعوام.
اليوم يمكن كل طرف أن يقول ما يشاء، لكنّ توسيع دائرة التحالف لا يكون بالإغراق في تمجيد الذات، ولا بالنحو في المنحى المذهبي الانعزالي.