بعد تدميره، كثرت التكهنات والشائعات بشأن مصير مخيم نهر البارد. قيل إن الدولة ستقتطع جزءاً منه ليصبح قاعدة عسكرية بحرية، كما قيل إنه سينقل الى جرود عكار، ليتبيّن أن النية الحقيقية والموثقة «ويكيليكسياً»، كانت بنقل أبنائه إلى مدينة «روابي» المستحدثة في ….الضفة الغربية
قاسم س. قاسم«أخيراً، أفصح دوبر* عن «معلومات حساسة» حصل عليها السفير الروماني في بيروت، (وهي) تتعلق بخطط لنقل مخيم نهر البارد إلى الضفة الغربية. قال دوبر إنّ خطة نقل المخيم خارج لبنان حصلت على مساندة سعودية، وشدد على الظروف السيئة التي يعيش فيها ما يزيد على 35 ألف لاجئ في المخيم. وسأل إذا كان لدى الولايات المتحدة معلومات تتشاركها مع الآخرين». هذا هو النص الحرفي لإحدى وثائق ويكيليكس الصادرة عن السفارة الأميركية في بوخارست في 15/5/2008. فالمعلومات التي طلبها مايكل دوبر، مسؤول شؤون الشرق الأوسط وأفريقيا في وزارة خارجية رومانيا من أحد الدبلوماسيين في السفارة الأميركية في بوخارست كانت بهدف التنسيق مع وزارة الخارجية الأميركية، كون نظيرتها الرومانية «تريد رأياً أميركياً حيال تلك القضايا (المتعلقة بسياستها في الشرق الأوسط) وكي لا تخرج عن سياق التنسيق معنا أو تطيح المفاوضات الجارية»، يقصد بذلك عملية السلام. وفي الوثيقة نفسها، طلب الدبلوماسي الأميركي من وزارته توجيهات بخصوص ثلاث قضايا طرحها عليه دوبر، وهي: «اتفاق التعاون العسكري مع السلطة الفلسطينية، رأي حول مصالح السلطة الفلسطينية في الشراكة المتوسطية (MPC) أو أي اتفاقات إقليمية أخرى، وأخيراً موضوع مخيم نهر البارد للتشارك في المعلومات حوله مع حكومة رومانيا. نهاية التعليق».
هكذا إذاً! لم يكن الأمر مجرد شائعة، بل كانت هناك مبادرة من جهة ما، لنقل فلسطينيي البارد الى الضفة الغربية، وكانت هناك موافقة سعودية على هذه الخطة التي كان يجري التداول بشأنها على الأقل بين أربع جهات: الحكومة اللبنانية برئاسة فؤاد السنيورة وقتها، والسلطة الفلسطينية والإدارة الأميركية والسعودية! بذلك، يصبح الشعار الذي أراده رئيس الوزراء الأسبق فؤاد السنيورة مطمئناً لأهالي البارد حول أن «الخروج مؤقت والإعمار مؤكد والعودة حتمية»، بشهادة هذه الوثيقة، ضرباً من الاحتيال على الأهالي. فتطمينات السنيورة وعباس زكي، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية خلال الحرب على المخيم، ساعدت على خروج الآلاف من أبنائه تاركين الساحة خالية من المدنيين، ما سمح للجيش اللبناني بعملية تدمير ممنهج للمخيم بهدف معلن، هو القبض على عناصر فتح الإسلام.أبناء البارد تركوا مخيمهم. شاهدوا عملية تدميره على شاشات التلفزة ثلاثة أشهر ونصف. وبعد مرور هذه الأشهر وما أعادت إحياءه في الذاكرة الجماعية للفلسطينيين من عمليات تدمير سابقة كانت قد حصلت لمخيمات لجوئهم، أعلن الجيش اللبناني انتهاء عملياته العسكرية على الأرض، معلناً المخيم منطقة عسكرية. انتظر أبناء البارد اللاجئين الى مخيمات أخرى لحظة السماح لهم بالعودة الى البارد للاطمئنان على ما بقي من أملاكهم، فوجدوا أن مخيمهم أصبح «ع الأرض». هنا ارتفعت «الصرخة» لضرورة إعادة إعمار ما تهدم لأن المخيمات الأخرى لم تعد تستطيع استيعاب حاجات اللاجئين من البارد وتأمينها. في انتظار عقد المؤتمرات الدولية من أجل إعادة إعمار المخيم، حضرت سيناريوات عدة لحل أزمة البارد. عقدت اجتماعات ومؤتمرات محلية قبل الدولية، لوضع تصور جديد للطريقة التي سيبنى بها المخيم. شكلت لجان من مهندسين محليين ودوليين، إضافة إلى مهندسين من الجيش اللبناني. الدولة اللبنانية أرادت أن لا يعاد بناء المخيم كما كان سابقاً. الطرقات يجب أن تكون أوسع لتسهيل مرور الآليات العسكرية فيها بحال حصول أي مواجهات مستقبلية. آخرون طرحوا على مسامع بعض المسؤولين الفلسطينيين الذين رفضوا التصريح بأسمائهم، العمل على نقل المخيم الى مكان آخر كلياً. النقل هنا لا يعني بالضرورة داخل الأراضي اللبنانية، إذ كانت الصيغة المطروحة العمل على نقل المخيم الى الضفة الغربية، كما تشير وثيقة ويكيليكس رقم 08BUCHAREST374.في الفترة الممتدة بين انتظار عقد مؤتمر فيينا (حزيران 2008) وبدء عملية إعادة الإعمار، جرى الترويج لعملية نقل المخيم. فبحسب أحد المسؤولين الفلسطينيين الواسع الاطلاع على ملف نهر البارد، أنه خلال لقائه بأحد وزراء حكومة السنيورة (رفض تسميته) جرى البحث معه في«إعادة لاجئي مخيم نهر البارد الى الضفة الغربية (!!)، ونقوم نحن كحكومة بالضغط على المجتمع الدولي، كما فعلنا عندما قامت إسرائيل بترحيل بعض الفلسطينيين الى منطقة مرج الزهور، وبذلك نكون قد ساهمنا في تطبيق حق العودة للشعب الفلسطيني»! طبعاً تجاهل الوزير أن سكان البارد هم من لاجئي عام 1948، وأنهم إذا «عادوا» الى أراضي السلطة الفلسطينية، فإن ذلك سيسقط عنهم حق العودة الحقيقي الى أرضهم المحتلة أي أراضي 1948. لكن لنسلم جدلاً أنه سيتم نقل 35 ألف لاجئ من مخيم نهر البارد الى الضفة الغربية، فأين سيعيش هؤلاء؟ وخصوصاً أن الضفة الغربية «اللي فيها مكفّيها» لجهة الكثافة السكانية. تطرح سؤالك على مسؤول بارز في تحالف القوى الفلسطينية، كان شريكاً في مفاوضات وضع لاجئي البارد خلال الحرب عليه وفي ما بعد. يؤكد الرجل، الذي رفض ذكر اسمه، أنه كان قد تلقى مثل هذه الاقتراحات. وعند سؤاله أين كان سيعيش 35 ألف لاجئ في الضفة الغربية؟ يجيبك ضاحكاً «ما تخفش عم بعمّرولهم مدينة». مدينة؟ إي مدينة؟ كان الرجل يقصد مشروع مدينة «روابي» التي يجري بناؤها على مثلث بين رام الله، نابلس والقدس المحتلة. على الموقع الإلكتروني لتلك المدينة يتبين ـــ للصدف ربما ـــ أنها تتّسع لـ 40 ألف شخص. يضيف المسؤول البارز قائلاً «كان الحديث يدور حول إعادة لاجئي البارد الى تلك المدينة، حينها يمكن القول إنه تم تطبيق حق العودة الى فلسطين، ما يسهل الأمر ويخفف الضغط عن إسرئيل».نتوجه الى بشار المصري، رئيس مجلس إدارة شركة «بيتي» التي تقوم ببناء المدينة بأسئلة عبر البريد الإلكتروني، لكنه ينفي ما يتم تداوله عن أن المدينة تبنى لتوطين اللاجئين «اللبنانيين». ويتابع «مدينة روابي كمثيلاتها من باقي المدن الفلسطينية، ليست لتوطين اللاجئين. فهي ستشيّد لسد النقص الحاد في الطلب على الشقق السكنية في فلسطين حالياً، (أراضي السلطة)، حيث قدرت دراسات البنك الدولي هذا النقص بأكثر من 200 ألف وحدة سكنية، والذي من المتوقع أن يصل إلى 400 ألف وحدة خلال السنوات العشر المقبلة».هل يعني فشل «الخطة» أن النية لم تكن موجودة؟ هل يعني ذلك أن الحكومة اللبنانية لم تكن تبحث في قبول هذه المبادرة التي لا نعرف من بادر إليها من الجهات الأربع التي كانت تعمل عليها؟ هل يكفي نفي المصري للقول إنها لم تكن احتمالاً وارداً؟ الجواب بلا قد يكون أقرب الى الحقيقة، بدليل، مرة أخرى، الويكيليكس. لكن السؤال الذي قد لا نرغب في تصور الإجابة عنه هو الآتي: لو عرض الفيديو الذي يصور مدينة «روابي» الفخمة على أهل البارد، فهل كانوا سيرفضون هذا «الحل».* مايكل دوبر مسؤول شؤونالشرق الأوسط وأفريقيا في وزارة خارجيّة رومانيا
تعاني مدينة روابي من معوّقات عدّة تؤخر عملها، ومنها الطريق الرئيسية التي ستربطها بالمدن الفلسطينية، إذ تم ربط هذه الطريق بالمفاوضات السياسية ولم تُعطَ الموافقة على إقامتها بعد. بالإضافة الى ذلك، هناك مشكلة استيراد مواد البناء الأساسية من إسرائيل والتي يستخدمها الفلسطينيون في كل أعمال البناء، ومثال على ذلك أن 95% من الاسمنت والرمل اللذين يستخدمهما المقاولون الفلسطينيون في البناء يجري توريدها من الجانب الإسرائيلي، الذي بدوره يتحكم بكمياتها، سواء كان المورّد هو أو أي جهة أجنبية أخرى