«يــا فضيــحة» الأمــن اللبنــاني

حسن عليقللمرة الأولى، منذ زمن، يتفق الأمنيون اللبنانيون على جملة واحدة: «لا نعرف». لا تنافس بين استخبارات الجيش وفرع المعلومات. ولا تسعى المديرية العامة لأمن الدولة إلى حشر أنفها في ملف لا طاقة لها على الدخول في تفاصيله، ولا المديرية العامة للأمن العام تكرر معلوماتها «البايتة». كلهم كانوا سواء. لا أحد يدري بما يجري.عند السابعة من صباح أمس، اتصل أمنيون فرنسيون بنظراء لبنانيين لهم، ليبلغوهم بأن قضية الأستونيين «ستنتهي اليوم» (أمس). وبعد نصف ساعة، ورد الاتصال الثاني: عثرنا عليهم. بعد ذلك بنحو ساعة: صاروا في السفارة. الاتصالات جرت من باب أخذ العلم لا أكثر. لكن الأمنيين اللبنانيين يزيدون من حجم الفضيحة، إذ يؤكدون أن أي موكب للسفارة الفرنسية لم يُرصَد بعد الاتصال الأول. واستنتجوا من ذلك أن الأستونيين كانوا قد وصلوا إلى قصر الصنوبر، منذ ما قبل الساعة السابعة صباحاً. فالفرنسيون والأستونيّون لا يثقون بالأجهزة الأمنية اللبنانية. رأوها بأمّ العين تتصارع طوال الأشهر الأربعة الماضية، على ملف الأستونيين. كانت الدوريات تتصادم في البقاع خلال المداهمات. وإذا نصب أحد الأجهزة الأمنية كميناً للمشتبه فيهم، دهمته دورية من جهاز آخر. وأكثر من ذلك، كان مسؤولون فرنسيون وأستونيون يسمعون من ضباط لبنانيين تشهيراً بزملاء لهم في الأجهزة الأخرى. الخلاصة أن «الشرشحة» وصلت إلى ذروتها أمام «الاجانب». وهؤلاء الأجانب كانوا أسياد الساحة أمس. لا سيادة في لبنان أمام حياة أوروبي واحد. فكيف إذا كانوا سبعة؟وزير الخارجية الأستوني أوماس باييت، كان شديد الصراحة في تصريحه للمؤسسة اللبنانية للإرسال. صراحته لم تكن في المعلومات التي كشفها، بقدر ما هي تكمن في إغفاله لذكر السلطات اللبنانية، عندما عدّد من ساعدوا بلاده في الإفراج عن مواطنيه. قال إن العملية تمّت «بمساعدة فرنسية وألمانية وتركية مع جهات أخرى».«لا نعرف شيئاً، ولا غيرنا يعرف». عبارة رددها ضباط من قوى الأمن الداخلي ومن استخبارات الجيش بصراحة تامة. معلومات الضباط كانت متقاطعة ودقيقة، مفادها أن الفرنسيين والأستونيين تفاوضوا مع الخاطفين خلال الأشهر الثلاثة الماضية، في غفلة من الأجهزة الأمنية اللبنانية. كان الضباط الأستونيون، وزملاؤهم الفرنسيون الذين يفتحون لهم أبواب ثكن الأمن والجيش، يصولون ويجولون في لبنان. ومن بيروت ينتقلون إلى دمشق. لكنهم، وكعاملين في الأجهزة المحترفة، لم يكونوا يزوّدون الأجهزة الأمنية اللبنانية سوى بفتات المعلومات، بهدف تحصيل معلومات إضافية من الطرف اللبناني لا أكثر.التحفظ الأستوني تواصل يوم أمس. بدأ منذ ساعات الصباح الأولى: موعد تسلم المخطوفين كان سرياً، وكذلك المكان ووسيلة الاتصال بالخاطفين وهوياتهم. وعندما سأل الطرف اللبناني عن المزيد، لم تكن الإجابة سوى بالمزيد من الكتمان، والكذب أحياناً في سبيل الحفاظ على سرية العملية. فأحد المراجع الأمنية اللبنانية تلقى من الفرنسيين والأستونيين إجابة مفادها بأن المعلومات عن مكان وجود المخطوفين وساعة تسلمهم كانت تصل تباعاً من أعلى المراجع الأمنية في العاصمة الأستونية. وعندما ألحّ آخر لمعرفة التفاصيل، قيل له إن الخاطفين اشترطوا أن تكون الأجهزة الأمنية اللبنانية بعيدة عن الملف. وحين حاول ضابط لبناني أخذ معلومات من أحد أصدقائه الفرنسيين، أتاه الجواب أن دور السفارة الفرنسية اقتصر على تأمين موكب السيارات التي تحمل لوحات دبلوماسية للأمنيين الأستونيين لا أكثر.أبعد من ذلك، عندما طلبت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي حضور المخطوفين إلى مقرّها العام في الأشرفية، رفضت السفارة الفرنسية ذلك. حتى إن السفارة الفرنسية رفضت أن يخضع الأستونيون لاستجواب الشرطة اللبنانية، سامحةً وحسب لقاضي التحقيق فادي صوان بالاستماع إلى إفاداتهم. وصوان كان قبل ظهر أمس يسأل عن صحة المعلومات التي تتداولها وسائل الإعلام عن تحرير المخطوفين، وكذلك فعل القضاة المعنيون بالملف، من دون أن يضعهم أحد بصورة ما يحصل. فالأستونيون والفرنسيون تصرفوا كما لو أنهم نيابة عامة وضابطتها العدلية في آن معاً، ولم يجدوا سبباً مقنعاً يدفعهم إلى إبلاغ القضاء اللبناني بغزوتهم البقاعية.وعندما أراد وزير الداخلية مروان شربل نسبة إنجاز لطرف لبناني، جرى الاستناد إلى التوقيفات التي أجراها فرع المعلومات قبل أكثر من ثلاثة أشهر، والتي شملت عدداً من المشتبه في مشاركتهم في عملية الاختطاف. فلا توقيفات جديدة. ولا فرع المعلومات كان يعرف ما يعدّ له الفرنسيون والأستونيون. وطوال يوم أمس، كانت قيادة قوى الأمن الداخلي معنية بسؤال وحيد: كيف سينظر المسؤولون اللبنانيون في عيون أبناء المؤهل راشد صبري، الذي قضى قتلاً في بلدته مجدل عنجر، خلال عمله على جمع معلومات عن الأستونيين المختطفين؟

الأكثر قراءة