طلال سلمان... وأخيراً، هبّت عواصف الطبيعة على لبنان، والمنطقة من حوله، ثلوجاً ورياحاً عاتية ومطراً غزيراً، بعد موسم الحرائق الذي ذهب ببعض أخضره، قبل أيام.ولقد جاءت تلك العواصف، بتوقيتها، وكأنها تواكب عواصف سياسية عاتية يمكن قراءة مقدمات نتائجها المدمرة في غير دولة عربية، وإن تصدّرها العراق بعد الإنذار الانفصالي الذي أطلقته قيادة الكرد في شماله، يليه السودان الذي سلمت سلطته العسكرية بانفصال جنوبه مع وعيها بأنه سيكون مقدمة لانفصال جهات أخرى فيه عن دولته المركزية، وقبل اليمن المهددة دولته جميعاً وليس وحدته السياسية فحسب... والبقية تأتي!بديهي أن يزيد ارتجاج الكيانات السياسية في المنطقة العربية، التي أنشأها بخرائطها التي نعرفها المستعمر الأجنبي، من مخاوف اللبنانيين الذين تعصف بهم الخلافات السياسية بعيداً عن استقرار وطنهم الصغير بتركيبته البشرية الفريدة في بابها، دينياً وطائفياً ومذهبياً، وبعضها مصنوع وبعضها الآخر قابل للارتجاج...على أن مصدر الخطر الداهم يعود إلى أن قوى سياسية قد وجدت في استثمار جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري فرصة ذهبية للاستقواء بما يسمى «المجتمع الدولي» والذي هو في حقيقته «الهيمنة الأميركية»، وصياً على هذا الوطن الصغير، يقرّر لأهله ـ في غيابهم ـ ما يرى فيه «مصلحتهم الوطنية العليا» ومن ضمنها ضرورة «تأديب» الخارجين على القانون من حملة «السلاح غير الشرعي»، ومحاكمتهم بوصفهم قتلة يعملون لحساب الغير، وإن موّهوا «تمرّدهم» بشعارات المقاومة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، بتحرير الأرض والإرادة وتعزيز ثقة الإنسان بنفسه وبقدرته على إنجاز ما يحمي كرامته الإنسانية وغده المهدّد بالضياع.منذ ست سنوات إلا قليلاً والشعب اللبناني جميعاً في قفص الاتهام: فُتح بطن دولته فاستخرجت منها الوثائق السرية والبيانات الشخصية لعموم أفراد شعبه، وصولاً إلى طلاب الجامعات وتوزعهم على الطوائف والمذاهب وميولهم وتوجهاتهم الحزبية، فضلاً عن النساء لا سيما الحوامل منهن ومواعيد الحيض والحمل وأسرار الأزواج وأين يغيبون ولماذا؟ ومتى يحضرون ولأي سبب، وطبيعة مهماتهم وأين إلخ؟!داخل هذا القفص من الأغراض الدولية التي تعيد صياغة القوانين بما يلائمها، يتعارك «شعب لبنان العظيم»: يتهم بعضه بعضاً، يقاضي بعضه بعضاً، يدين بعضه بعضاً، بحيث تمّ تدمير العلاقات الإنسانية الطبيعية كالأخوة وسائر درجات القرابة والمصاهرة والصداقة والود المتوارث عن الآباء والأجداد، فضلاً عن المصير المشترك... من قبل أن تتوفر عناصر اليقين!أُفسد الهواء. صار الناس يتنفسون سموماً وهم محاصرون في أقفاص الاتهامات والاتهامات المضادة بعدما انعدمت ثقة الأخ بأخيه والقريب بنسيبه وشريك مصيره.تباعد الناس حتى لم يعودوا مستعدين لسماع بعضهم بعضاً. استعادوا من تراث انشقاقات الماضي البعيد وخلافاته التي بدأت سياسية ثم توغلت في المشاعر والعواطف والقيم المشتركة فشرخت وحدة المؤمنين وقسمتهم أحزاباً متصادمة، بينما الجريمة التي هم بصددها الآن قد أضرت بالجميع وأفسدت على الجميع حياتهم وتطلعاتهم إلى مستقبل أفضل.بات كل يتربص بالآخر فيعطي لسلوكه أو لكلامه مدلولاً غير الذي يعرف، بداهة، أنه يقصده. صارت الريبة هي الأساس، وحوم الشك بالذات وبالآخر كرتل أسود من البوم الدولي والغربان الإسرائيلية الناعقة، بلغات شتى بينها العربية، على مدار الساعة.أما أهل النظام العربي فقد أخذوا ولاء معظمهم للصديق الكبير في واشنطن إلى المجاهرة بعدائهم لكل أنواع المقاومة والرفض والاعتراض. تسلحوا بالجريمة والدم المهدور ظلماً، ووظفوها في مواجهة هؤلاء «المنشقين الخارجين على إرادة المجتمع الدولي»، المناهضين «لعملية السلام»، المغامرين المندفعين إلى توريط أهل الحكمة والاعتدال في مواجهة لا يريدونها ولا يطلبونها قطعاً مع إسرائيل... خصوصاً أنهم يرونها تجنح إلى السلم، بدليل اندفاعها إلى استقدام المزيد من المستوطنين من أي مكان وكل مكان في الدنيا، وتهديم المساجد والبيوت وتجريف البساتين وحقول الزيتون، وتطرد من أجلهم المزيد من الفلسطينيين المعاندين ممّن أصروا على البقاء فوق أرضهم، ولو كرهائن، قد يفرض عليهم في يوم قريب أداء «قسم الولاء» لدولة اليهود الديموقراطية.كل هذا لا يهم، فواشنطن قد تعهدت بابتداع حل، ولو من دون أرض، أو من دون شعب، قد يتأخر إنجازه ولكنه آت لا محالة... فليصبر الفلسطينيون وليفاوضوا ويفاوضوا ويفاوضوا حتى تتعب إسرائيل فتسلم بحقوقهم في دولة من هواء!صار الأميركي مصدر العدالة.. وهو هو محتل العراق ومدمر دولته، رمز وحدة شعبه، شريك إسرائيل في شطب فلسطين عن خريطة المنطقة وشريكها في اجتياح لبنان أكثر من مرة، والذي ما زال اللبنانيون يجتهدون في مسح آثار حربه الأخيرة عليهم، قبل أربع سنوات، وإن كانت مستمرة بشبكات التجسس وباختراق شبكة اتصالاتهم والتنصت على مكالماتهم الشخصية والعائلية، السياسية والأمنية، الاقتصادية عموماً والمالية خصوصاً.[ [ [لم يكن اللبنانيون بحاجة إلى وثائق «ويكيليكس» ليتأكدوا من ضلوع العديد من أهل النظام العربي في استغلال جريمة الاغتيال والتآمر على وحدتهم وتسليمهم إلى «المحكمة الدولية» لتقتص منهم على الارتكاب المتكرر لسابقة مقاومة المشروع الإسرائيلي للهيمنة على المنطقة، في ظلال الراية الأميركية.لقد لمسوا بأيديهم وعيونهم وعقولهم هذا التواطؤ، ومن موقع دوني، مع الإدارة الأميركية لكي تكون المحكمة الدولية الطريق إلى إرهاب «الرعايا العرب» جميعاً وفي مختلف دولهم.«العدالة الدولية» تغني عن الاحتلال العسكري وتحقق ما يعجز عنه!في ظل «العدالة الدولية» يمكن تهديد سوريا بضربة عسكرية أميركية (أو إسرائيلية لا فرق) بذريعة أن لديها منشأة غير محددة الغرض، قد تكون نووية وقد لا تكون، ولكنها في الحالين قد تشكل خطراً على أمن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وعلى أمن الاحتلال الأميركي للعراق.ومن قبل أن يحصر الاتهام في جريمة الاغتيال بأطراف لبنانية، كانت «العدالة الدولية» قد ركزت اتهامها على سوريا، شعباً وجيشاً وقيادة، ولم تسحبه إلا بعد أربع سنوات من خروج الجيش السوري من لبنان بطريقة غير لائقة.فقد انتبهت «العدالة الدولية» إلى أن اتهام المقاومة وأهلها، ولو بطريقة مواربة (أفراد غير منضبطين!!) يطال سوريا ومن خلفها كل من يفكر بمقاومة الاحتلال (أميركياً في العراق، إسرائيلياً في فلسطين) وصولاً إلى إيران العاصية على التفاهم النووي!... وها هي قيادة إقليم كردستان في العراق تلجأ إلى «العدالة الدولية» لتقرر إجراء استفتاء شعبي «لتقرير مصير» هذا الإقليم الذي تبلغ مساحته سبع مرات مساحة لبنان، والذي يُراد لعدد سكانه أن يكون أربعة ملايين ونصف المليون، خصوصاً مع الرغبة العلنية بضم كركوك الغنية بالنفط إليه (4 في المئة من مجموع الاحتياطي العالمي!!).... بينما يستعد شعب السودان، وبإشراف العدالة الدولية، للعملية الجراحية التي ستجعله شعوباً مقتتلة في «دول» مفتوحة على أعداء الشعوب جميعاً، وفي الطليعة منها إسرائيل ومعها الولايات المتحدة الأميركية وبالعكس![ [ [مع كل هذا، وبرغم كل هذا، سيظل شعب لبنان مؤمناً بعروبته، مسانداً وداعماً ـ حتى بالدم ـ لحقوق الفلسطينيين في أرضهم، ومناصراً لقضايا التحرر والعدالة والديموقراطية في مختلف أرجاء الوطن العربي... وسيظل حافظاً لأهله، لا يفرّط بسلامتهم أو بحقوقهم.سيظل أقوى من «العدالة الدولية» بقضاتها الذي لم يُعرف عنهم حبهم للعرب، ولا نزاهتهم التي لا يطالها الشك، وتسليمهم بحقوق هذه «الشعوب المتخلفة» بأن تبني غدها الأفضل بدمائها وجهودها واندفاعها إلى العلم والانتماء إلى عصر التقدم الإنساني.فغداً يصطدم المضللون والمندفعون بالحماية أو باللوعة أو بالعاطفة أو بالغرض بحقيقة هذه العدالة الدولية التي تحاكم فيها «الدول» ـ بالقيادة الأميركية ـ الإسرائيلية ـ الشعوب المستضعفة، تمهيداً للهيمنة على قرارها وشطب «استقلالها» و«سيادتها»... واسترهانها عند العدو الإسرائيلي، الذي سيظل عدواً مهما قدم لها أهل النظام العربي من تنازلات في فلسطين وفي لبنان وحتى في بلادهم ذاتها.فالشهيد شهيدنا، ونحن أولى من هؤلاء جميعاً، وبالتأكيد، بكشف قتلته، وأغراض هؤلاء القتلة ذوي الكفاءة الدولية العالية في مجال الاغتيالات وتدمير أوطان الآخرين.أليست بديهية العدالة السؤال: مَن المستفيد؟!... كيف إذن الحال وكل اللبنانيين، وبالمطلق، بين المتضررين مادياً ومعنوياً، وفي الحاضر والمستقبل، وعبر أجياله جميعاً، لأي دين انتموا، وبأي عقيدة التزموا!الشهيد شهيدنا، ونحن أهل الحزن والعزاء،.. ولتذهب العدالة الدولية إلى الجحيم!