ثمة ظاهرة لافتة توطّنت منذ البداية في جسم الحركة الوطنية الفلسطينية، وفكرها السياسي، وهي ظاهرة العنجهية والتعميم و"الأستذة"، رغم أن هذه الحركة تفتقد للموارد الذاتية، وشعبها منتشر في بقاع الدنيا، ويعاني ويلات الاحتلال والحرمان من الهوية، ومن الخضوع لسلطات متعددة ومختلفة، ورغم أن هذه الحركة أحوج ماتكون لاستقطاب التعاطف معها، عربيا ودوليا، للتعويض عن مكامن ضعفها، ولمواجهة عدوها؛ الذي يتمتع بشبكة دعم دولية واسعة.
في مرحلة سابقة انطلى على هذه الحركة فكرة أنها "طليعة الثورة العربية"، وأن "الكفاح المسلح" ليس فقط سيحرر فلسطين، وإنما سيغير الأوضاع في هذه المنطقة أيضا؛ فهو ليس ضد الصهيونية فحسب، وإنما ضد الامبريالية والرجعية أيضا! وفي مرحلة لاحقة اعتبرت الانتفاضة بمثابة مقدمة للنهضة العربية الحديثة، وحتى أن بعض المفكرين اعتبرها بمثابة انتفاضة ضد العولمة أيضا!
بالمحصلة فإن هذه الادعاءات لم تثبت في حيز التجربة، وتبيّن عدم صحتها، فالفلسطينيون شعب صغير وممزق ولا يسيطر على حياته، ولايعتمد في نضاله على موارده؛ مع أن قضيته محورية عند القوميين ومقدسة عند الإسلاميين، وتحظى بأهمية دولية (بسبب اليهود الإسرائيليين). أيضا، حملت هكذا ادعاءات الفلسطينيين فوق طاقتهم، وأدخلتهم بصراعات جانبية استنزفت قواهم، وأضرّت بقضيتهم وبحركتهم الوطنية، فضلا عن إنها أصابتهم بعدوى العنجهية والوصاية على الأحزاب العربية (كما حصل في تجربتها في لبنان مثلا).
الأنكى أن معظم قادة هذه الحركة لم يتعلموا من مسيرتهم المؤلمة والباهظة، ولم يستنبطوا العبر من إخفاقات تجاربهم الكفاحية، سواء المسلحة أو التفاوضية، وفي المنظمة أو السلطة، وكلها بيّنت تدني مستوى إدارتهم للعمل الوطني. ويبدو أن هؤلاء مازالوا، رغم تدهور أحوال شعبهم وقضيتهم وحركتهم الوطنية، تأخذهم العنجهية، وتستهويهم التهويمات المجانية. هكذا ففي أسبوع واحد كان المشهد الفلسطيني على موعد مع تصريحات لاداعي لها، وليست في محلها، فضلا عن إنها تنم عن جهل مطلق بالمفاهيم وبحركة التاريخ.
فقد أدلى محمود الزهار (القيادي في "حماس")، بتصريحات (29/10) هاجم فيها العلمانية والعلمانيين والدول الغربية، في تعميمات مطلقة، في وقت تعاني فيه إسرائيل من عزلة، وضغوط دولية، لدفعها لوقف الاستيطان والتجاوب مع حقوق الفلسطينيين. ومما قاله الزهار: "من حقنا أن ندير حياتنا بالطريقة التي يحددها ديننا وليس دينكم. أنتم لا دين لكم. أنتم علمانيون.. لا تعيشون كبشر. بل إنكم (حتى) لا تعيشون كالحيوانات. تقبلون المثلية.. والآن تنتقدوننا.. نحن من يحترم النساء ويقدرهن.. وليس أنتم.. انتم تستغلون النساء كالحيوانات. للمرأة زوج واحد ومئات الآلاف من العشاق. أنتم لا تعلمون من هم آباء أبنائكم".
هكذا اختلطت الأمور، فاعتبر الزهار العلمانية ضد الدين، وهي ليست كذلك، مثلما إنها ليست وصفة جاهزة، وإن تضمنت عدم قبول توظيف الدين بالشأن السياسي (أي لأغراض السلطة)، وترك إدارة شؤون البلاد للقوانين الوضعية باعتبارها شأنا دنيويا؛ وهو تيار ظهر في وجه السلطات الكنسية والملكية المطلقة والمستبدة في الغرب. علما أن معظم الدول العلمانية تحترم الدين ولا تتدخّل بالحيز الديني لمجتمعاتها، بما فيه أديان الأقليات التي تعيش بين ظهرانيها (بريطانيا والولايات المتحدة مثلا). كذلك خلط الزهار بين نقد الآخرين لكيفية إدارة حركته الأحادية والاقصائية لقطاع غزة، وبين ما اعتبره تدخلا في شؤون الناس.
وبغض النظر عن هذا الجدل فإن معظم المجتمعات الغربية علمانية، بهذا المستوى أو ذاك، والفلسطينيون هم الذين بحاجة لدعمها في كفاحهم ضد الصهيونية والممارسات الإسرائيلية، فهل سيواجهون الادعاءات الدينية ("التوراتية") لإسرائيل في الغرب بالايدولوجيا الدينية، وبإظهار الصراع وكأنه ليس على الأرض والحقوق وإنما هو صراع ديني وسماوي وابدي؟ ثم هل هكذا تصدّ الحركة الوطنية الفلسطينية مطالب إسرائيل بالاعتراف بها كدولة يهودية؟
أيضا، كان الأجدى لـ"حماس"، التي تتعرض لحصار لكونها حركة إسلامية ومتطرفة، أن تتجنب هكذا نقاشات مضرة، وأن توضح نفسها كحركة تحرر وطني. أما النقاش بشأن العلمانية فهو نقاش فلسفي وثقافي، ويفترض انه مجال للتجاذب الداخلي بين التيارات الفلسطينية، وليس له علاقة لا بمهاجمة الغرب ولا بتصنيف أخلاقه، وتوصيف نمط حياته. علما أن اتهام الغرب باللااخلاقية ينم عن جهل وسطحية وانتقائية، فمن هذا الغرب بات الشعب الفلسطيني يستمد قدرته على الاستمرار في مواجهة العنصرية وجرائم الحرب والاستعمارية الإسرائيلية، وإلا ما معنى نشوء شبكات المتضامنين الدوليين، وحملات المقاطعة الدولية، وأساطيل الحرية، والحملات الإعلامية في الفضائيات وشبكات الانترنت؟
التصريح الآخر كان لعزام الأحمد، أحد قادة "فتح" (الحركة المتنافسة والمتنازعة على السلطة مع "حماس")، والذي تضمن تهكما واستخفافا بقوى اليسار الفلسطينية. وكان حريَ بالأحمد، بدلا من ذلك، أن يتخوّف على وضع حركته "فتح"، التي وصلت إلى هذا الدرك من ترهل بناها، وتآكل مصداقيتها، وغياب مرجعية سياسية لها، فضلا عن إخفاق الخيارات التي ذهبت إليها، سواء في الانتفاضة أو المفاوضة، كما في بناء المنظمة أو السلطة. ويبدو أن الأحمد نسي أن حركته، وبرغم ماتتمتع به من قوى عسكرية وإمكانيات مادية، وبرغم هيمنتها على الساحة الفلسطينية بمنظمتها وسلطتها ومواردها، خسرت الانتخابات التشريعية وقطاع غزة بصورة مهينة (2006ـ2007)؛ بدون أن تراجع ماحصل.
وما يلفت الانتباه في تلك التصريحات إنها تنم عن ضعف شعور بالمسؤولية، وعن جهل بالواقع، فلو تمعن الأحمد في الأمر لتبين له أن احتكار حركته لقيادة الساحة الفلسطينية، وتخلف إدارتها للمنظمة والسلطة، واعتمادها على علاقات الزبائنية والفساد، هي التي أدت إلى خسارتها مكانتها القيادية والتمثيلية في مجتمعها، وصعود حركة "حماس" إلى سدة القيادة والسلطة. بمعنى أن قيادة "فتح" هي التي تتحمل المسؤولة عن هذا التمحور المضرّ بينها وبين "حماس"، وعن تدهور دور قوى اليسار، وتدهور حركة "فتح" ذاتها.
إزاء هذا الواقع، يصحّ حقاً التساؤل: أين هي "فتح"، تلك التي كانت فيما مضى تشبه فعلا شعبها، وتستمد روحها من وجود التنوع والتعددية داخلها؟ ثم ألم تفقد "فتح" روحها، وجزءا كبيرا من حيويتها، بسبب تحولها إلى حركة التيار الواحد، وهو تيار السلطة والتسوية اليوم؛ لاسيما بعد ان باتت تفتقد لتيار اليسار الذي كان يضفي عليها حيوية فكرية وسياسية وصدقية وطنية ونضالية؟
عدا عن ذلك، ثمة حقا ما يثير الاستغراب إزاء هذا التنكّر، وهذا القصر في الذاكرة، لمن عايشوا التجربة الفلسطينية من بداياتها (كالأحمد)، إذ لا يمكن لأحد أن يفسر صعود "فتح"، من الستينيات إلى الثمانينيات، بدون أن يربط ذلك بنهوض اليسار الدولي، والأحزاب الشيوعية، وبمعين من الاتحاد السوفييتي.
وربما أن تصريحات كهذه (من الزهار والأحمد) من علامات تدهور الساحة الفلسطينية، وفقرها وضياعها السياسي والفكري. ولنتذكر بأنه في زمن مضى فإن أباء الحركة الوطنية الفلسطينية، من الحاج آمين الحسيني (المفتي)، مرورا بأحمد الشقيري وصولا إلى ياسر عرفات، لم يدخلوا حركتهم الوطنية في مجادلات ثقافوية أو دينية، وعملوا مع علمانيين ويساريين وشيوعيين، على أساس أن "الدين لله والوطن للجميع"، أي على أساس التعددية والتنوع في الحركة الوطنية باعتبار ذلك الأفضل والأجدى لوحدة الشعب ومواجهة المشروع الصهيوني.
بقلم: ماجد كيالي