«خلِّ الزبالة تطمركم»، قالها سعد الحريري، أوّل من أمس، منهياً النقاشات في شأن عقود شركة سوكلين وشقيقاتها، التي استهلكت الجزء الأكبر من جلسة مجلس الوزراء الأخيرة. فهذه العبارة لم تفلت منه في لحظة غضب، بل جاءت لتختصر نهجه في العملمحمد زبيبلم تكن جلسة مجلس الوزراء (أول من أمس) «عادية»، على عكس جدول أعمالها الرتيب. فمحاضرها احتوت على توثيق ممتاز لواحدة من أكبر عمليات نهب المال العام، وتضمّنت توصيفاً جيداً جداً لطريقة عمل منظومة الفساد. لا شك أن الوزراء لم يتوقّعوا أن تنتهي هذه الجلسة الى ما انتهت إليه. فما كان يسعى إليه بعضهم هو ممارسة دوره المفروض عليه دستورياً، فأصرّ على الاطلاع على نحو واف على تفاصيل العقود الموقّعة مع مجموعة AVERDA (سوكلين وشقيقاتها) ومناقشة كلفة هذه العقود ومدى تناسبها مع الأكلاف الحقيقية ومقارنتها مع عقود مماثلة لشركات أخرى في لبنان وفي الخارج... وذلك قبل اتخاذ القرار المطروح، والرامي الى تمديد هذه العقود لأربع سنوات أخرى، في مقابل القبول بخفض الأسعار بنسبة 4 في المئة فقط لا غير، بحسب العرض الذي قدّمه الرئيس سعد الحريري.لم يتصرّف الحريري إزاء هذا المطلب «الطبيعي»، بصفته رئيساً لمجلس الوزراء، بل بدا كما لو أنه يخوض في مسألة شخصية، فرفض رفضاً قاطعاً تسليم الوزراء نسخاً عن العقود التفصيلية التي وقّعها مجلس الإنماء والإعمار مع المجموعة منذ نحو 15 سنة، كما رفض إعلام مجلس الوزراء بالقيمة الإجمالية لكل عقد، بل رفض كذلك تحديد كلفة كل طن من النفايات تحديداً واضحاً ودقيقاً... وردّ مع وزرائه على أسئلة الوزراء الآخرين واستفساراتهم وملاحظاتهم الكثيرة والكبيرة بأن هذا هو الموجود، فاقبلوا به أو ارفضوه... ونقطة على السطر.لكن ما كشفت عنه النقاشات كان أكبر من قدرة مجلس الوزراء على تجاوزه. فالإصرار على إضفاء طابع «السريّة» على عقود إدارية يفتح المجال واسعاً أمام التشكيك بسلامة هذه العقود ومدى تناسبها مع الشروط والأحكام القانونية. كما أن الحرص على عدم التصريح عن قيمة هذه العقود يؤكّد الشكوك الراسخة بأنها تنطوي على فساد كبير وسرقة موصوفة وتطاول على أموال البلديات لمصلحة جماعة تُثرى بوسائل غير مشروعة يعاقب عليها القانون، وربما تسخدم ريوعها صناديق سوداء في تمويل مجموعات سياسية لأغراض سوداء أيضاً.ليس هذا فحسب، فقد اكتشف الوزراء أن العقود «الرضائية» مع مجموعة AVERDA لم توضع وتُقرّ وتُنفّذ وفقاً للأصول المعهودة في مثل هذه الحالات. كما أن حسابات الدولة لا تتضمن أي إشارة الى الأموال التي تتقاضاها المجموعة والشركات المرتبطة بها أو بأعمالها. وبمعنى أكثر وضوحاً، ليس هناك أي كشف حساب مع هذه المجموعة، إذ يجري «اقتطاع» الأموال لمصلحتها من الأموال العائدة للبلديات قبل تحويلها الى ما يسمّى الصندوق البلدي المستقل، فلا تسجّل هذه الأموال كواردات لمصلحة البلديات ولا كنفقات مترتّبة عليها، إلى درجة أن أحداً (من غير «العصابة») لن يعلم كم دخل من هذه الأموال وكم خرج! علماً بأن هذه الآلية «الفضائحية» تمثّل انتهاكاً لحقوق البلديات وتجاوزاً لقانونها الناظم، فعقود مجموعة AVERDA لم تصادق عليها السلطات المحلية المعنيّة، وهي صاحبة القرار أولاً وأخيراً، فضلاً عن أن تسديد أموال البلديات الى المجموعة يتّسم بأولوية مطلقة على ما عداها من حاجات البلديات، فما يجري توزيعه عليها هو ما يبقى بعد «اقتطاع» الأموال للمجموعة، وهذا أخطر ما في الأمر، إذ إن أموال البلديات التي تجبيها الإدارات العامّة لمصلحتها هي «أمانات» بعهدة وزارة المال والوزارات الأخرى، ولا يجوز التصرّف بها بأي شكل من الأشكال إلا بقرار من أصحاب الحق. فكيف إذا كانت وضعية «الصندوق البلدي المستقل» هي مخالفة للقانون أصلاً، إذ تبيّن أنه ليس هناك حساب خاص للصندوق، بحسب ما ينصّ عليه القانون، بل جرى دمج هذا الحساب بحسابات وزارة المال، وجرى إخضاع الصندوق الوهمي لوصاية وزارة المال، فيما القانون يضعه تحت وصاية وزارة الداخلية والبلديات!كل هذه العناصر الجرمية الواضحة جعلت من الصعب على وزراء كثر أن يوافقوا على عرض الرئيس الحريري الرامي الى تمديد العقود وخفض أكلافها بنسبة هزيلة جداً، وهذا ما جعل الحريري يخرج عن طوره ويهدد بإغراق الشوارع بالنفايات، بقوله «لنصوّت إذاً، من مع تمديد العقود؟ ومن مع إجراء استدراج عروض جديد؟ وخلِّ الزبالة تطمركم»... فانقسم مجلس الوزراء، وصوّت 14 وزيراً لمصلحة الحريري، بينهم الوزير يوسف سعادة، فيما صوّت 14 وزيراً مع إجراء استدراج عروض جديد، بينهم 3 وزراء من فريق رئيس الجمهورية ميشال سليمان، ووزيران من الحزب التقدمي الاشتراكي... فانتهى الأمر الى «لا قرار»، وهو ما استدعى استكمال النقاش لإيجاد مخرج، فبدأت جولة أخرى من التهويل، استُخدم فيها رئيس مجلس الإنماء والإعمار نبيل الجسر، الذي استُدعي الى الجلسة للاستماع إليه.فحصيلة التصويت تعني سقوط قرار تمديد عقود مجموعة AVERDA لمدّة 4 سنوات إضافية، علماً بأنها تنتهي في 17/1/2011، (بعد تمديدها سابقاً مرّات عدّة «على العمياني»)، وهذا ما حاول الحريري بمساندة الجسر أن يستخدمه للإيحاء بأنه بعد هذا التاريخ لن يكون هناك أي متعهد جديد لتأمين استمرارية العمل على كنس النفايات وجمعها ومعالجتها وطمرها، إلا إذا جرى تمديد العقود الحالية... وهذا ما اضطرّ أحد الوزراء الى تذكير الرئيس الحريري بأن القوانين اللبنانية تفرض على المتعهد مواصلة تسيير الأعمال حتى إجراء التلزيم الجديد، وإلا تُصادر أدوات العمل والتجهيزات كلّها لضمان الاستمرارية... فانتقلت عملية التهويل الى جانب آخر، إذ أقرّ مجلس الوزراء في جلسة سابقة خطّة لإدارة النفايات تقوم على استخدام تقنية «التفكك الحراري» وتحويل النفايات الى طاقة كهربائية، فقال الجسر إن أي شركة ستتقدم الى استدراج العروض الجديد ستأخذ بالحسبان أن عقوداً ستكون فقط للفترة الفاصلة قبل إنجاز هذه الخطة، وبالتالي ستفرض أسعاراً أعلى من الأسعار الحالية، نظراً إلى حاجتها الى الاستثمار في شراء وتأمين معدّات وأدوات العمل. وأشار الى أن مجلس الإنماء والإعمار يحتاج الى أكثر من 3 سنوات من أجل تحضير دفاتر الشروط وإجراء استدراج العروض وتنفيذه من أجل تلزيم معامل «التفكك الحراري»... عندها انتفض أكثر من وزير بسبب عدم اطّلاعهم على هذه التفاصيل عندما جرى إقرار خطة النفايات، ما فتح الباب أمام شروح فنّية أظهرت أن إنشاء معامل «التفكك الحراري» مسألة في غاية الصعوبة وتقارب إنشاء «المفاعل النووي» على سبيل المثال، ما يعني أن النيّة كانت معقودة أصلاً على إبقاء عقود مجموعة AVERDA الى ما لا نهاية، من دون التحوّط لمشكلات مطمر الناعمة الذي استنزف أكثر من طاقته.لقد انتهت الجلسة الى طلب تقرير مفصّل من مجلس الإنماء والإعمار يتضمّن مقارنة بين إيجابيات وسلبيات تمديد عقود المجموعة أو استدراج عروض جديدة، ويوضح أسعار العقود الحالية بدقّة، تمهيداً لاتخاذ القرار النهائي في جلسة لاحقة.هذه النقاشات والسجالات المدوّنة في محضر جلسة أول من أمس تكشف عن طريقة عمل فريق سياسي تحكّم بالمال العام منذ اتفاق الطائف حتى اليوم، وهي طريقة تقوم على أخذ المواطنين رهائن لضمان مصالح مالية خاصة على حساب المال العام، فإمّا أن تفعلوا ما أريد، وإمّا أفعل بكم ما لا يخطر على بال... فلتطمركم النفايات إذاً، تماماً كجبل النفايات في صيدا الذي كبر وارتفع لسبب وحيد هو إفشال مجلس بلدية صيدا السابق، إذ إن مشروع معالجة هذه المشكلة الخطيرة لم يبدأ إلا بعدما فاز المجلس الحالي التابع بالكامل لتيار المستقبل. وهذا ما حصل أيضاً في مجال الكهرباء، فإمّا الخصخصة التي تدرّ أرباحاً بمئات ملايين الدولارات سنوياً لمصلحة «العصابة» وإمّا أن نُغرق البلاد في العتمة الشاملة، وهذا ينطبق على المياه والصرف الصحي والضمان الاجتماعي... وحاجات وخدمات أخرى لا تقل أهمية، كمشروع وزارة الاتصالات لتمديد كوابل الألياف البصرية الذي سينقل قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الى مستوى أعلى بكثير من المستوى الحالي. فالعصابة نفسها التي تنشط في بيع خدمات الإنترنت والاتصالات الرديئة وغير الشرعية بأسعار خيالية ستخرج من السوق بعد إنجاز هذا المشروع، ولذلك شهدت جلسة أول من أمس فصلاً جديداً من فصول عرقلة هذا المشروع، من زاوية الاعتراض على عقد إشراف مع شركة خطيب وعلمي، علماً بأن الجلسة نفسها أقرّت عقداً مماثلاً مع الشركة نفسها لإجراء دراسات إنشاء القاعدة البحرية على شاطئ مخيّم نهر البارد!الغريب في نقاشات مجلس الوزراء أول من أمس، أن من دافع عن عقود مجموعة AVERDA وتحمّس لتمديدها مجدداً «على العمياني»، لم يناقش التقرير الذي عرضه مجلس الإنماء والإعمار في الجلسة نفسها، والذي تضمّن معلومات جزئية عن أكلاف هذه العقود، لكنها مهينة أيضاً، إذ اعتمد التقرير مصطلح «الأرقام التقريبية» في مقارناته مع أكلاف العقود المماثلة لشركات أخرى في لبنان، واعتمد عبارة «مع التحفّظ على صدقيّة ودقّة المعلومات» في مقارناته مع الأكلاف في دول أوروبية مختارة... وعلى الرغم من ذلك، كشف التقرير عن الحقائق الآتية:أوّلاً، عدم إرفاق العقود الموقّعة مع AVERDA، باعتبارها من أهم المراجع، أمر يثير الاستغراب، ولا سيما أن تقرير مجلس الإنماء والإعمار تضمن، تكراراً، عبارة «زادت هذه الأسعار بنسبة حوالى 15% من عام 2007 وحتى عام 2010 نتيجة تطبيق معادلة مراجعة الأسعار التعاقدية»... وبالتالي كشف التقرير من دون قصد عن أهم سبب لإبقاء العقود سرّية، إذ تبيّن أنها تنطوي على مراجعة دورية للأسعار، وهذا ما يفرض أن يكون مجلس الوزراء مطّلعاً على الشروط والأحكام التي تتضمنها هذه العقود لكي تتسنّى له مناقشة الأكلاف ومستوى العدالة فيها.ثانياً، إن الكلفة التقريبية لجمع طن النفايات في بيروت تبلغ 26.56 دولاراً وترتفع الى 34.55 دولاراً في بقية المناطق التي تشملها عقود مجموعة AVERDA، فيما تنخفض هذه الكلفة لدى الشركات الأخرى الى 24 دولاراً في صيدا وضواحيها، و22 دولاراً في طرابلس و18 دولاراً في زحلة... وهذا أمر يتناقض مع أي منطق، إذ إن مناطق «سوكلين» هي الأكثر كثافة سكانية، وبالتالي الأكثر إنتاجاً للنفايات، ما يجعل هذه المعطيات عناصر لانخفاض الكلفة لا الى ارتفاعها، واللافت أن «سوكلين» تتقاضى 17.59 دولاراً لجمع ما يسمّى المخلفات الكبيرة، فيما الشركات في الخارج تشتري هذه المخلفات لما تنطوي عليه من أرباح هائلة، فهي عبارة عن معادن أو آلات أو معدّات أو أخشاب أو ركام!ثالثاً، إن الكلفة التقديرية لطمر النفايات في مكبّ طرابلس تبلغ 29.30 دولاراً للطن، وتبلغ 22 دولاراً في مطمر زحلة، لكنها ترتفع ارتفاعاً فاقعاً في عقود مجموعة AVERDA لتبلغ 54 دولاراً في مطمر الناعمة و30.94 دولاراً في مطمر بصاليم! ولا تقتصر دلالات الكلفة المنفوخة على المقارنة مع الأسعار المحلية، بل تشمل المقارنة مع دول أوروبية أوردها التقرير نفسه. فكلفة الطمر في إسبانيا مثلاً لا تتجاوز 7 يورو للطن، وترتفع الى 25 يورو في سلوفينيا و30 يورو في إنكلترا وفنلندا، علماً بأن الكثير من هذه البلدان تستخدم معدّلاً ضريبياً مرتفعاً على التخلّص من النفايات عبر الطمر، بهدف رفع الأسعار وحثّ المعنيّين على اللجوء إلى أساليب أخرى تتفاوت بين إعادة التدوير (Recycling) وتحويل النفايات إلى طاقة (Waste to Energy). إلا أن تقرير مجلس الإنماء والإعمار أهمل كل ذلك، فأجرى مقارنات بين أكلاف عقود مجموعة AVERDA والأكلاف في دول أوروبية مختارة من دون حسم الضرائب الضخمة غير المفروضة في لبنان، وذلك بهدف إبراز كلفة غير مرتفعة كثيراً في لبنان، بالمقارنة مع الدول الاسكندينافية. ففي الدنمارك مثلاً، التي أورد التقرير الأكلاف فيها، تبلغ كلفة طمر النفايات 88 يورو للطن الواحد، غير أنّ هذا المبلغ يتضمّن ضريبة تبلغ 50 يورو، أي 56.8% من السعر. وبالتالي فإنّ السعر الأساسي يكون 38 يورو فقط، وفقاً لأسعار عام 2007. وحتّى على صعيد دقّة الأسعار، كان التقرير مخطئاً، إذ ذكر أنّ السعر هو 43 يورو، وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ 7% فقط من النفايات في الدنمارك تُطمَر، فيما يُعاد تدوير 37% من النفايات، ويحوّل 68% منها إلى طاقة.عدد الجمعة ٢٢ تشرين الأول ٢٠١٠