استعادت لجنة المال والموازنة النيابية أمس بعضاً من الدور الرقابي المفقود، إذ تحولت جلسة الاستماع إلى وزيرة المال ريا الحسن ورئيس ديوان المحاسبة القاضي عوني رمضان في شأن حسابات الدولة المالية إلى جلسة «اعتراف»؛ فالجميع، بمن فيهم الحسن، اعترفوا بأن هذه الحسابات، منذ عام 1993، غير صحيحة وغير مدققة وليست قانونيةرشا أبو زكيفاجأت وزيرة المال ريا الحسن ونواب تيار المستقبل الجميع أمس بالإقرار بأن «الحسابات المالية للدولة منذ عام 1993 حتى اليوم ليست دقيقة، وأن هناك أخطاءً وثُغَراً وتجاوزات خطيرة في أداء وزارة المال تستدعي التحقيق!». بل إن النواب المحسوبين على الفريق السياسي المسيطر على الوزارة ذهبوا إلى اقتراح تكليف شركة عالمية للتدقيق بالحسابات! إلا أن أعضاء اللجنة فضّلوا عدم اتخاذ أي قرار قبل استكمال النقاش في الجلسة المقبلة، وطلبوا من وزيرة المال تقريراً مفصّلاً عن الوضع في وزارة المال، وطلبوا من ديوان المحاسبة تقريراً عن الحسابات التي تسلمها، ونسخة من الرسائل المتبادلة في هذا الشأن بينه وبين وزارة المال لتحديد المسؤوليات بدقّة.جاء ذلك في جلسة الاستماع التي عقدتها لجنة المال والموازنة النيابية أمس، برئاسة النائب إبراهيم كنعان، وحضور لافت لأكثر من 30 نائباً يمثّلون كل الكتل النيابية. وانتهت هذه الجلسة إلى إعلان نيّة النوّاب استكمال هذا الملف حتى النهاية، وتقرر أن تُستكمل الجلسة يوم الثلاثاء المقبل،خلصت الجلسة إلى أن الانتهاكات موثَّقة والأرقام المعلنة تقابلها حسابات مُخفاةوجلسة أمس السرية، هي الأولى من نوعها منذ اتفاق الطائف، وكانت مخصّصة للاستماع إلى وزيرة المال وديوان المحاسبة، إثر شيوع أنباء عن وجود تلاعب في الحسابات لدى وزارة المال، وهو ما دفع بمجلس ديوان المحاسبة إلى عقد جلسة طارئة له منذ أسبوعين، وأصدر بياناً أعلن فيه أنه لم يتسلم حسابات المهمّة منذ عام 2001، وأنه تسلم قطع حسابات 2005 و2006 و2007 من دون تدقيق بسبب عدم وجود حسابات المهمّة، لافتاً إلى أن قطع حساب 2005 ورد إليه مرتين؛ إذ جاءت النسخة الثانية مغايرة للأولى، موحياً بعدم الجدّية في التعاطي مع أكثر الملفات حساسية، وهو ملف المال العام.وقد وصف النوّاب جلسة أمس بأنها كانت صاخبة بالملفات، وكل ملف كان يفضح ارتكابات مرعبة لوزراء المال المتعاقبين، إلا أنها فُضحت في ظل ولاية الحسن، وخلصت الجلسة إلى نتيجة واحدة: الانتهاكات موجودة وموثقة، والأرقام المعلنة تقابلها حسابات مُخفاة، والتلاعب بمالية البلد أكيد، والمطلوب أن تعلن وزارة المال تفاصيل الإنفاق خلال الأعوام الماضية في جلسة الثلاثاء المقبل.وبحسب أعضاء في اللجنة، فقد تبيّن أن مخالفات وزارة المال انقسمت إلى حقبتين تاريخيتين:1ـــــ الحقبة الأولى: من عام 1993 حتى عام 2000، إذ أشار ديوان المحاسبة خلال الجلسة إلى أن جميع حسابات المهمة التي أرسلتها وزارة المال إلى الديوان حملت مخالفات استدعت من الديوان التحفظ عليها وعدم دمغها بالموافقة، وعلى الرغم من ذلك لم تعمل وزارة المال خلال هذه الحقبة على تصحيح الخلل الذي يظهر في معظم الأحيان فروقات كبيرة بين الأرقام الواردة في قطع الحسابات والأرقام الواردة في حسابات المهمة.2ـــــ الحقبة الثانية: امتدت بين أعوام 2001 حتى اليوم: حيث لم ترسل وزارة المال أصلاً حسابات المهمة إلى ديوان المحاسبة، ما أدى إلى منع الديوان من إجراء أية تدقيق فعلي على الحسابات المالية للدولة خلال 9 سنوات كاملة.وخلال هاتين الحقبتين، كان مجلس النواب يقر قطع الحسابات من دون أن يُعرض عليه التقرير النهائي الذي يجب أن يصدره ديوان المحاسبة، وكان آخرها في عام 2005، إذ أقر مجلس النواب قطع حساب عام 2003 من دون أن يصدر ديوان المحاسبة بيانه النهائي في الحسابات المالية لهذا العام.وعلّق نواب كتلة التنمية والتحرير، خلال الجلسة، على ضرورة إيجاد حل للأزمة. وأشار النائب علي حسن خليل بعد الجلسة إلى أن الكتلة أشارت إلى وجود أزمة حقيقية في ما يتعلق بالتناقض الحاصل في الأرقام الواردة في قطع حساب عام 2005 الذي أرسل منه نسختين متناقضتين من مدير المحاسبة العامّة السابق في وزارة المال أمين صالح الذي استقال من منصبه، وآخر من المديرة رجاء الشريف التي أعفتها الحسن أخيراً... ورأى الخليل أن موضوعاً كهذا يشير إلى وجود «إرباكات» ضخمة في وزارة المال، فيما غياب حساب المهمة منذ عام 2001 هو ثغرة كبيرة، ورد على سؤال لـ«الأخبار» عن وجود تلاعب في أرقام المالية العامة للدولة، فقال: «إذا لم نقل بوجود تلاعب، فعلى الأقل ثمة سوء إدارة في الوزارة»، لافتاً إلى أن «إقالة الشريف من منصبها هو دليل واضح على وجود ارتباك في الوزارة، وخصوصاً أن الحسن أشارت خلال الجلسة إلى أن الفروقات الحاصلة في قطعي الحساب لموازنة عام 2005 تعود إلى أن ما أرسلته الشريف هو الأرقام المدقق فيها، في حين أن ما أرسله صالح لم تُدقّق فيه الوزارة»!وطرح نواب كتلة الوفاء للمقاومة موضوع علاقة الوزارة بديوان المحاسبة، مطالبين بإصدار تقريرين منفصلين عن الإنفاق خلال الأعوام الماضية من وزارة المال من جهة، وديوان المحاسبة من جهة أخرى. وقال النائب علي فياض إن الجلسة هي بداية لتصويب الخلل بين وزارة المال وديوان المحاسبة. وأشار لـ«الأخبار» إلى أن حزب الله سيكمل في هذا الملف حتى نهايته، وخصوصاً أن الخلل في عمل وزارة المال خطر متفشٍّ، والجداول التي قدمتها الوزارة على أنها قطع لحسابات الإنفاق خلال الأعوام ما بين 2006 و2009 ناقصة وغير كافية ولا توفر أية معطيات أو معلومات عن كيفية الإنفاق خلال هذه الفترة ووفق أي قاعدة قانونية أو محاسبية.ديوان المحاسبة أبدى تحفظه على حسابات المهمة من عام 1993 حتى عام 2000أما تيار المستقبل، فقد بدأ مناقشاته في الجلسة عبر استعراض المشكلة الواقعة، وربطها بالحرب الأهلية وتداعياتها على عمل وزارة المال. وأشار النائب جمال الجراح لـ«الأخبار» إلى أن الأزمة تعود إلى وجود مشكلة تقنية منذ عام 1993؛ إذ لم تحل هذه المشكلة بصورة جذرية، ما أدى إلى استمرارها، ولفت إلى أن كتلة المستقبل في اللجنة ستعمل في هذا الملف تحت شعار «لا تسويات على حساب المال العام»، لافتاً إلى أن الكتلة طالبت خلال الجلسة بإنهاء الإشكالات التقنية في الوزارة التي انطلقت مع عدم وجود حسابات ابتدائية منذ انتهاء الحرب الأهلية، وقال إن «الكتلة ستستمر في هذا الملف حتى النهاية، حتى لو ظهر أنّ ثمة هدراً للمال العام من قبل الوزارة»، وتابع: «لا نستطيع تحميل وزيرة المال ريا الحسن مسؤولية كل ما حدث خلال الفترة الماضية، وخصوصاً أنها قامت بعملها كما يجب... فالموضوع ليس سوءاً في الإدارة».هكذا، انتهت الجلسة بتوافق على وجود أزمة، مع اختلاف التبريرات. وطالبت الحسن اللجنة بإمهالها حتى جلسة الثلاثاء المقبل للإجابة عن الأسئلة الكثيرة على طرحت عليها من النواب، أما التسويات فلا مكان لها وفق رئيس اللجنة إبراهيم كنعان، الذي أشار بعد الجلسة إلى أنه «لا تسوية ولا لفلفة، في جلسات الرقابة البرلمانية»، مشيراً إلى وجود أسئلة كثيرة ومفصلة طرحت في الجلسة، وباتت وزيرة المال على علم بها. كذلك طلبت اللجنة من ديوان المحاسبة وثائق تتعلق بمراسلاته مع الوزارة منذ عام 2008 التي تتناول موضوع حساب المهمة...فالهدف النهائي، وفق كنعان، هو تحديد المسؤوليات، وفي الوقت نفسه الخروج «من هذا النفق ومن عنق الزجاجة، ويهمنا أن يفهم الرأي العام اللبناني أن لجنة المال والموازنة تمارس مهماتها الرقابية المطلوبة، ولم تمارسها بخلفية سياسية، والمطلوب سحب هذا الموضوع من التجاذب السياسي قدر الإمكان للوصول إلى نتائج تسمح لنا بتصحيح المسار».وعن قضية تنحية الموظفة رجاء الشريف، قال كنعان إنه جرى التطرق لهذا الموضوع من باب اتصاله بالموضوع الأساسي، وهو قطع حساب المهمة، «وهناك شيء اسمه سلطة الوزير في وزارته، ولا أحد هنا ينتقص من دور الوزير وحدود صلاحياته، لكن الموضوع يتصل بقطع الحساب ومهمة الموظفة التي سألت عنها، وهي معنية مباشرة بموضوع قطع الحساب».وأكد كنعان أن جميع النواب أعضاء اللجنة مصممون على معالجة هذا الأمر، وقال إن هناك إجماعاً على المقررات التي أفضت إليها جلسة أمس، لجهة طلب تقريرين تفصيليين من ديوان المحاسبة ومن وزارة المال، ولجهة الإقرار بوجود مشكلة في ما يتعلق بالحسابات المالية للدولة.استدعاء وزراء المال السابقينلأن المخالفات المكتشفة في وزارة المال كثيرة، ولأن تقاذف المسؤوليات كان هو السائد خلال جلسة لجنة المال والموازنة أمس، تقدم نائبا كتلة التغيير والإصلاح في اللجنة سيمون أبي رميا وحكمت ديب باقتراح خطي ينص على استدعاء جميع وزراء المال الذين تعاقبوا على الوزارة منذ عام 1993 حتى اليوم، وهم: فؤاد السنيورة، جورج قرم، إلياس سابا، دميانوس قطّار، محمد شطح، وجهاد أزعور، ليقدموا تعليلاتهم للسبب الذي منعهم خلال فترة وجودهم في الوزارة من التزام النصوص القانونية الواضحة المتعلقة بالموازنة وقطع الحساب وحساب المهمة، على أن يُبَتّ هذا الاقتراح في جلسة الثلاثاء المقبل. وأشار أبي رميا لـ«الأخبار» إلى أن الجلسة كانت مخصصة لبحث سبب عدم إرسال الوزارة حساب المهمة إلى ديوان المحاسبة منذ عام 2001، إضافة إلى الارتباك الحاصل في قطع حساب عام 2005 «واكتشفنا أن حالة الفلتان، باعتراف من وزيرة المال، متراكمة من عام 1993، فكان لا بد من طلب استدعاء الوزراء من موقعنا كنواب مؤتمنين على المال العام».عدد الثلاثاء ١٩ تشرين الأول ٢٠١٠ |