سامحنا يا محمد أننا لم نكن هناك عند باب بيتك، وأننا لم نزر والدتك ولم نسألها عما اذا كُنتَ تُدوّن مذكراتك. الكلام لا ينفذ يا رفيقي، لكن إرادة القول والصدق الذي ينسج إيقاع الحروف، يخور ويشتدُّ مع تعب الأيام ولامعقولية الواقعة .
يُنظّف أبو محمد المقبرة منذ عقود، يُعلّم ابنه محمد قراءة أنواع الخط العربي المعماري والكوفي والريحانيّ التي ترسم ألم الوداع على الشواهد. كبر محمد بلسان عربي يسأل عن قصّة حياة الأسماء التي على الشواهد. حفظ محمد الأسماء وأخرجها من المجهول الذي يحاصر سؤال الأبديّة فيها، يُخرج الموتى عن صمتهم بضحكه وصراخه وكلماته الأولى وبكائه وهمسات إخوته وهم يركدون حول الحجارة. فكنتَ اذا اقتربت من المقبرة خلت أن موتاها أحياء، لأن محمدَهم هو شاهد شواهدهم المنسية. أصبح محمد الذاكرة الحية لمعاني الأسماء، أصبح يقاوم شريعة النسيان. في 29 من حزيران 2019 استنفر جُندُ النظام اللبناني – جند النسيان، فاطلقوا الرصاص وسقط محمد جريحا وساد الصّمت القبور، وكأنه بكاء الموتى ينهش في عشب نمى بين شواهد بيروت.
في تلك البقعة من بيروت شاهد لقبر باحثة ، كانت في زهر شبابها ترتاد مبنى يقع في شارع السادات مقابل خيمة اعتصام جوج عبدالله اليوم . كانت الوفود الاستعمارية تتعثر بذاك المبنى، في كل مرة تجوب فيها مسافة الهضبة بين صرحي الإمبريالية الأولين : الجامعة الامريكية في بيروت أسفل التل والجامعة اللبنانية الأمريكية أعلاه. كان هذا المبنى الذي عكّر صفو الإطباق الجغرافي ذاك، يسمى بمركز الأبحاث الفلسطيني الذي أسسته الثورة الفلسطينية بأيدي عمال ومزارعي صفد وعكا وطبريا ودرعا وصيدا وصور... كان المركزُ صرح الإنتاج المعرفي الأول، الذي جعل لمفهوم الممارسة (praxis) حجارة وقبوا للطباعة وملجأ للمنفيين، فكان العامل والمقاتل عند الصفوف الأمامية يصعد إلى الطابق الثالث، حيث يكتب عن نضالاته وخواطره بصيغ نثرية حينًا وبحثيةٍ حينا آخر. في بيروت شاهدٌ لتلك الباحثة التي اغتيلت عند الثامنة صباحًا على باب المركز، إثر انفجار قنبلة كانت قد زُرعت بأيادي ميليشيات اليمين الانعزالي في ليل تشريني عام 1983. اغتيلت ونستها شوارع رأس بيروت ولم يبقى لها سوى محمد يحفظ لها ذكراها.
في تلك البقعة من بيروت دُفنت الأممية بصيغة شواهد ثلاث لأبطال عملية اللد عام1972، الذين حُكم عليهم بالإرهاب في بلدهم الآسيويّ باسم قضائهم الياباني البرجوازي، هو نفسه ذاك النظام الذي لم يترك طالبا يابانيًا انتفض لشدة القمع في بلاده، إلا وأرداه جثة بين بنادق العَسّ ودبابات الجيش الوطني الباطش. وبقي محمد يلعب بين جرارالماء ويسمع للنشطاء شهادات من بقي من رفاق السّلاح.
في تلك البقعة من بيروت شاهدٌ لأولى حروب الإبادة الطبقية المنظمة عام 1976– معركة تل الزعتر، حيث توحدت صفوف اليد العاملة السورية السودانية الفلسطينية الأردنية اللبنانية في مخيم الثورة الفلسطينية، وحين بدأت رائحة زعتر وحدتهم التنظيمية تمتدّ، هلعت جيوش أنظمة البعث السورية - اللبنانية الى محو معالم الجمع المتمرّد على قواعد الصمت، فاغتيل المخيم. ووقف محمد تحت ظل الشجر أمام النصب يشهد إحياء الذكرى.
في تلك البقعة من بيروت شاهد لروائي طهى من بارود البنادق في عز ساعة الاشتباك حبرًا، يخطّ فيه قصصًا عن وجدان كل من كُبلت يداه بين بساطير جُند الاستعمار وجند الأنظمة العربية. في بيروت شاهدٌ لكل من أعلن الحرب باسم حبّ مضنى على أشباح الفاشية. في بيروت شواهد لآثار ثورة استعرت احشاءها عام 1971 بالأقلام والبنادق وأغاني الليالي ولغات الدنيا. ولكن الشواهد ازدحمت لكثرتها ولم تستقبلها الدولة الشيحاوية[1] على كامل أرضها، التي ضاقت بالبنوك والسجون ومكاتب التعذيب ودور العبادة الموصدة، ومعابر استيراد السلاح والفاكهة والأفيون. ضاقت أرض بيروت على ثورتها بعد المعركة الأخيرة، فاستقرت كُلها في بقعة أرضٍ منسيةٍ تُسمى بمقبرة شهداء الثورة. وكان بيت مُحمد داخل أسوار المقبرة.
لم تبدأ الثورة اللبنانية في تشريننا المعاصر هذا، بدأت مع صرخة أول لاجئ عام (1947)، وافتتاحية أوائل مصارف الجغرافيا اللبنانية (1870). ومذاك الحين لم تفارق جيوش الأنظمة الرأسمالية المتعاقبة عقيدة الإحلال، وهي عقيدة عسكرية تقضي بالإجهاز على كل من لا يرضخ لشريعة النسيان.
وُلد محمد بعد أكثر من 6 عقود على حكم المصرف في لبنان، وبعد 4 عقود على إعدام الثورة الفلسطينية اللبنانية، لكن ذَنبه أنه وُلد بين الشواهد، فكان شاهدًا على شذرات الخلود التي تحملها القصص، فأمسى جسده صيرورةً لذاك التاريخ .
في العاشرة من ليل 29 حزيران، وقع محمد جريحًا أمام بوابة تلك المقبرة. في العاشرة من مساءٍ بيروتيّ متوتر، اغتيلت طفولة ابن حارس مقبرة الشهداء. في العاشرة والنصف ابعدت سيارة الإسعاف عن المقبرة قاهر نسيانها، ومُسامْرها الأخير.
اغتيلت طفولة شاهد الشواهد، اُقفلت بوابة القصص، وضحك الشيحاويون* بين زجاج النبيذ الفاحش لحظةً، متشبثين بوهم البقاء.
أمّا نحن، الساهرون أمام أحرف الخبر، الحائمون حول شموع انقطاع الكهرباء نقول:
إسمع أيها الجندي المرقّط بالتبعية المستلبة، إسمع أيها المودع الصغير الخائف على الحُلم الأمريكي الذي تسعى عبثًا أن يخط مسار أيامك، إسمع أيها الصحفي الغارق في تراكيب الجمل عند الفجر قبل النشرة الصباحية في فانات العمال المتعبين، إسمعي أيتها الريح التي تنسى عمدًا مداعبة رايتنا الحمراء، التي رُميت في قبو بين بيوت رأس النبع وحديقة الصنائع. اسمعوا عن قصّة موتكم المُعلنة قُبيلَ قدومها وتمعنوا في ذلك الصمت الذي حام حول جريحكم الأخير. فليسمع كُل من هرب من فاجعة الخبر وكُل من سارع إلى تجاهل الواقعة. فليسمع كل "لبناني" و"فلسطيني" يتمول بالقومية وبشقاء الموت...
في مقبرة شهداء الثورة عند الدوار بين شارع مشروع الربيع وقصقص، مئات من الجثث تحضن بعضها لشدة الاكتظاظ. منذ أن شُيدت المقبرة، ما انفكت تكتنف شهداء الثورة التحررية منذ 1965 – 1970، التي كانت تُنظم نفسها ضد الصهيونية والفاشية في النُظُم العربية. تحضن الجثث بعضها تحت الأرض، وبين الأغصان وخشب أعلام الثورة، فيغسلها مُحمد وعائلته شاهدًا شاهدًا لكي يبقى للإسم زائرٌ أو اثنين، واحدُ باكيًا والآخر تائها يقع على الإسم صدفة، فيكتشف تشابهًا في الأنساب وربما ثغرةً في سردية خُطًت في الكتب، فيبتسم دون أن يشكر مُحمد. في المقبرة يكنس مُحمد وعائلته آثار حركية الزمن التي تقع على الشواهد وبين تصدّعاتها، ورقة ورقة ونثرة خشبٍ تلو نثرة. يُنظّف أبو مُحمد حديد بوابتها وسجاد المداخل، ويُبخرها ويروي عطش ورود الباحثين عن التاريخ بين ألسنة الشمس التي تغمرها. تصعد رائحة الزعتر من بيت حارس المقبرة، من لفافة خُبز مُحمد واخوته ومن يدي والدته، لتُنسي الشهداء نسيانهم في تلك المقبرة المُعَسكَرة.
لقد وضع النظام اللبناني عام 2010 عند المنعطف المؤدي إلى باب المقبرة فيلقا من الجُند، ليتأكد من أن زائر المخيم سيشعُر بالغربة عن المدينة، وأن المدينة ستُغرّبُ عن ضوضاء المخيم. وُضع الجُندُ المُدججين مع قُمرة مراقبةٍ وحواجز حديدية وسواتر طُليت بألوان ذاك العلم الذي رسمه تلاميذ الإستعمار الفرنسي. ووقف العساكر ليل نهار أمام باب المقبرة، وكأنهم جُندُ روما حائمين حول سراديبها. وكأنهم يُحاصرون أشباح الثورةِ خوفًا من مُعجزةٍ تَبعثُ في القبور المُحيّا وتفتكُ ببنادقهم المستوردة. يقفون ويتفحصون كُلَّ مارٍ والبارحة أطلق الجُندُ الرّصاص، فوقع لاجئ فلسطينيّ آخر في بيروتَ جريحًا.
مُحمد لاجئ، أبو مُحمد عامل، أخو مُحمد عاطل عن العمل، وأم مُحمد ربة منزل تعيد انتاج الظرف الذي يسمح لكل منهم بالصمود رُغمًا عن الاستغلال. اللاجئون حالهم حالُ المهاجرين، إنهم خزانُ اليد العاملة الذي يحتاجه النظام اللبناني للحفاظ على سطوته. فبالقانون وبالعنصرية تُفرَّقُ اليد العاملة على أساس الهوية القومية، ويُستخدم المهاجر واللاجئ رأس حربة لخطاب محاربة الإرهاب، الذي يدفع تجاه ازاحة ازمة اليد العاملة بتحويلها الى أزمة أقليات وديموغرافيات. إن الكيانية اللبنانية تقتات على النسيان في فاجعة مُحمد، وعلى اللامرئية في حياته. لكن ليس في وسع الدولة اللبنانية احتمال من يحمل قصص الثورات التي سبقت. لا تستطيع احتمال مُحمد، لأنه سيهمس لكل من سيزور المقبرة بالحقيقة، وهي أن أبا سفيان كان قد كذب حين قال إنَّ الحرب سجال. ليست سجالًا بل صراعٌ بين نقيضين نحو السردية الحاسمة، إنها الفعل التالذيي يُعلن عداءه لتراكيب التاريخ البرجوازي ولشروطه القائمة.
فكيف وأنت ما أنت عليه يا مُحمد، كيف لم تتوقع أن تقصدك الرصاصة؟ إن الجندي الذي أطلق النار يا مُحمد، اطلقها دفاعًا عن تاريخ صعود مجامع الصناعة العسكرية (1920)، وعن بنوك المال الاستعمارية في منطقتنا. أطلق الجنديُّ النار لأنه يمثل التاريخ ، والتاريخ هو مسار الأحداث التي تقف أمامك بساستها ومصرفييها وتجارها وتشاؤمها البرجوازي، لتحمي ما خطّوه لك من معاني للأوطان، معانٍ انعزالية هُندست لِتَلفظك وتلفظ ذكراك وخطاط شاهدك وإخوتك دفعة واحدة. كُنتَ تعرف كل ذلك يا مُحمد، فماذا تفعل أمام باب بيتك عند صفر الزمن اللبناني؟ إنك وبوقوفك أمام بيوت الذاكرة، تُعكّر تصور ميشيل شيحا وسعيد عقل وبشير الجميل ورفيق الحريري وكريم مروة وقتلة مهدي عامل وكل جامعات الإمبريالية ومبشريها وحوزاتها، تُعكّر تصورهم لفلسفة "الوجود اللبناني". إنك تُهدد أمن الأوطان يا مُحمد.
مُحمد قصدته الرصاصة لأنه أعلن الحرب ضدّ تاريخ النسيان – تاريخ الرأسمالية الإحلالية. مُحمد أُصيب على باب بيته لأنه كان حيث كانت الثورة. وأين نحن من اغتيال طفولة مُحمد؟ من اغتيال سكينة حارس مقبرة الشهداء قبل ولادته؟ وكيف لا تكون مأساة مُحمد مأساةً جماعية؟
كُلُّ هُتافات الأرض لن تُمزق الصمت الذي حام حول وداعك. لكننا سنثأر لموتك وستُحرق مؤللات قاتليك، سنثأر للجوئك وستُمزّق اتفاقيات أوسلو والطائف ومذكرات ميشيل شيحا، سنثأر لباب بيتك وملح عيون أمك، وسنهدم أسوار المُخيم، وسنصقل حديد حواجزهم الى ان تصير أراجيح تُزرع مكان بيوت التنك، أو حبال قيثارة بين أنامل من سيأتي بعدنا، وسنثأر للقصة التي لم تسمعها بعد عن تاريخ جغرافيا الاستعمار، وصروح الامبريالية الثقافية في قصص كنفاني الذي لعبتَ حول شاهده، ودليتنا عليه، وسندحر لك من يحاصر غزّة ومن يحكمها. وبأيدي العمال من كل الجنسيات وبوحدتهم سنحطّم قلب هذا النظام الذي حكم على سكينة جسدك بالإعدام.
إن الطفل الفلسطيني الذي عكرتم مسيرة جسده أمام عتبات بيته، سيحيا وسيبقى الشاهدَ على إجرامكم، هو الذي ترعرع بين قصص الثورات التي مضت، هو الذي سيبقى يُذكّرنا بالوحشية التي تتلازم وبنادقكم وسيحيا، أمّا في لحطة جرحه كان محمد فقط يُسامر شهداء طرابلس الأبية وعمال لبنان النائمين على عتبات سفاراتهم، ويعدهم بأنكم هالكون لا محالة يا جُندَ أنظمة العار البرجوازي.
[1] نعت مُستقى من اسم ميشيل شيحا، من كُتّاب الدستور اللبناني وأول الداعين والمُدافعين عن المذهب الليبرالي وحُكم المصارف في لبنان، مواليد 1891، توفي 1954