Ihsan Masri

Ihsan Masri

 دفاعًا عن شاطىء الرملة البيضاء، ورفضًا للتعدي على أملاكنا العامة في رملة البيضاء، ورفضًا لكل رخص البناء على هذا الشط، وتنديدًا بكل أعمال التزوير، ومنعًا لسرقة الرمول، وتصديًّا للجرافات التي تجرف أرضنا وتاريخنا... ندعوكم/كن لاعتصام على رملة البيضاء أمام الحفريات القائمة وذلك نهار الجمعة الواقع في 28 تشرين أول 2016 الساعة الخامسة مساء. الداعون إلى النشاط: حملة الشط للسباحة مش للإستباحة (إتحاد الشباب الديمقراطي اللبناني، مؤسسة الأمل للمعوقين، الحزب الشيوعي اللبناني، التيار النقابي المستقل، تيار المجتمع المدني، الحملة الأهلية للحفاظ على دالية الروشة، حملة جايي التغيير، حركة المواطنة، من أجل الجمهورية وجمعية نحن)

مرسيل خليفة - الاخبار

 

كان جورج أقرب إلى الرقّة، وحيرة مندهشة بالقلق يقف بين ناريْ الشك واليقين. أول ما تعرفت عليه كان في أوائل أيلول بباريس عندما سافرت هرباً من وحشيّة صارخة حيث انتصرت الميليشيات والدولة المحلولة على طفولة زاهرة.

اقتلعت من الخبز الساخن لأزَّج في المجهول. جاء جورج من بيروت للمشاركة في احتفالات صحيفة الانسانية l›humanité، وكنت في صدد إصدار اسطوانتي الأولى حيث عالجت البكاء بالغناء وكانت الفتنة وجرح المنفى والحرب يتحققان وأقنع نفسي بجدوى هذا العبث الجميل. باب الخريف في تلك السنة انفتح على «وعود من العاصفة» وهناك دائماً رائحة ضوء مجهولة مليئة بالعزاء في مكان بعيد. وكان جورج لا يزال يتأمل وكنت شاباً مراهقاً مرتجفاً في دوَّامة الحرب الضروس، أتمسك بالنور وكل شيء معتّم واقاوم الإعصار بوتر العود. مدّ يده لي من فوق حقيقة هذا العالم المجرمة وكان مؤمناً بالحب، مشمولاً بالحب ولو لم يكن مناضلاً لكان حبيساً في دير. عاش وحيداً مع انه لم يكن يفتقر إلى المعجبات، والمغرمات يحمن حوله. إلاّ أن أحداً لم يمنحه السند المريح واليد الرقيقة وخاصة بعدما ترك عائلته الميسورة وذهب إلى حلمه في تغيير العالم. كان جورج يتميّز بفكره الثاقب وذاكرته الغنيّة وبالجرأة في التعبير عن أفكاره وقناعاته. ليتك بقيت يا جورج لتنقلنا كما كنت تفعل دائماً الى كوكب آخر لا يزال فيه العشب أخضر والماء ماء والأحلام أحلاماً... ولو خابت. يا ليت هذه الدنيا تحرز يا جورج. لقد خنقتك التفاهة والوحشيّة والضجر وكذلك الضيق والضجّة. أمكنة دبقة قذرة ومهسترة لم يعد من الممكن العيش فيها مع الحياة. لا صيف ولا شتاء ولا ربيع ولا خريف يكفينا لنحلم ونغني. تركت لنا الصدى الأبدي في حبر كلامك ورحلت. غياب راكض بين ظلال صورتك يشدني لأهمس لك: ما اجملك. غيمة الألوان سالت داخل الصورة بريشة حلمك وكلما كانت تضيق بنا الارض كنت توسعها بجناحك. سنمشي الى ذلك الزمن كي نتنفّس. هل تعود غداً؟ ما هذا الحنين الذي لا يفسّر؟ سأحذر هذا الحنين. لن اتركه يلتف عليّ. ثمّة حب ينتظرك دوماً ولا شيء يثبت هذا الحب غير هذه الكلمات المبعثرة ورضوخي السريع لرغبة الصديق بيار ابي صعب: اكتب لنا من فضلك نصاً وداعياً يليق بالبطل. أتذكر يا جورج عندما سافرنا سويّة على متن طائرة تحلّق على علوّ ٣٣ ألف قدم الى تشيكوسلوفاكيا في رحلة استثنائيّة ولم تهدأ طوال الرحلة تقوم من مقعدك لتمشي ثمّ تعود لتحكي عن الثورة التي ستنجح في المستقبل هي التي ستعيد الى البشر الضحك على مدى صوته، هي التي ستعيد الى المجتمع العيد والاحتفال وهي التي ستحمل ــ في ما ستحمل ــ الحب الى العرش لأنه نور الخبز وخمره. نعم يا جورج بلا خمر لا يؤكل الخبز. الخبز ناشف بلا خمر. الخبز يابس بلا فرح الخمر وصوفيّة نشوته. وكم شربنا في تلك الرحلة حتى انتشينا. كاسك يا رفيق! اتسع اليوم الشعور بالفراغ. الأمل نام قليلاً. هل نام استعداداً للنهوض من جديد. الله واحد. الحزب واحد. الحاكم واحد. اللا شيء واحد. الصفر واحد. وانتّ كالكثرة. سنحاول ان لا نكون «واحد « لنواجه الواقع وحتى لا تصرعنا الخيبة. لنا الحب يا جورج وليس لنا غيره. عد بإيمان الشباب الذين ينتظرونك من كل تلك الجراح لنمسك الأمل المطلّ كما يمسك الغريق خشبة الخلاص. أكثير يا صديقي ان نحلم بهذا القليل! ترحل في اول أيلول ذلك الشهر الذي أخبرتني عنه ذات يوم وانت تعد أيامه ورقة ورقة. تلك الايام الميمونة حيث كان الانتظار الكبير انتظار أيلول لندخل الى المدارس. ــ متى كان ذلك؟ ــ من سنين! ــ أين صار ذلك البلد الذي كنّا نقطع مسافة البرق الى مشغرة؟ كان اسمه جورج بطل كان اسمه لبنان ابكي اليوم يا جورج وَيَا وطني وكيف سنخرج من قهرنا في زمن القسوة. نبكي اعماراً لنا قتلوها، اسكنوا فيها الخوف القلق الحسرة التهديد الذل الخوف الظلم القهر الاغتراب. كانت تحتلنا الجيوش وصارت تحتلنا الاشباح. ابتعد يا جورج والتزم الصفاء واناجيك بروح نقيَّة ولا اعذبّها بظلام الآخرين. لقد أفرغوا الكلام من معناه وشوهّوا مضمونه. صوتك يدخل عليّ عميقاً، يملأ حواسي. هل ذهبت لتغسل القمر من مياه الينابيع السحيقة؟ هل هنا تنتهي رحلة الطيور؟ هل الحياة في مكان آخر على رأي كونديرا؟ كم تألقت يا جورج بكلماتك وكم باخ لون باقي الكلام. عرس زهور وياسمين وزعتر في ذكراك وقدّاس وجنّاز لراحة نفوس معظم الأحياء. أشدّ على روحك بصمت عميق. كم احبك يا رفيقي.

«أنا ماركسي لينيني، وسأبقى حتى آخر يوم في حياتي»، يقول الزعيم الكوبي، فيديل كاسترو، الذي يحتفل اليوم بعيد ميلاده التسعين

 

رنا حربي - الاخبار

 

 

في شهر نيسان الماضي، ألقى فيديل كاسترو، الذي لطالما آمن بأنه سيموت وهو يلبس «البوط العسكري»، كلمة وصفتها الصحافة بكلمة وداع. قال فيها، وسط هتافات الحضور باسمه: «قريباً سيكون عمري 90 عاماً... الكل يأتي دوره... قد تكون هذه المرة الأخيرة التي أتحدث خلالها في هذه القاعة، ولكن الأفكار الشيوعية الكوبية ستبقى إلى الأبد».

 

اختار زعيم الثورة الكوبية عدم الظهور إلى العلن في سنواته الأخيرة، وهو الذي كان يقول دائماً: «لا أعتقد أن الإنسان يجب أن يعيش إلى أن يهرم وإلى أن تخفت الشعلة التي أضاءت ألمع لحظات حياته». لكن التراجع عن الظهور، لم يمنعه من مواصلة مقارعة العدو الأول، أي «الإمبراطورية الأميركية»، ففي آذار الماضي، وجّه انتقاداً لاذعاً إلى الولايات المتحدة بعد «الزيارة التاريخية» للرئيس، باراك أوباما، لهافانا. قال إن «الاستماع إلى كلمات الرئيس الأميركي كانت ستسبب أزمة قلبية لأي شخص»، مضيفاً: «لسنا بحاجة لأن تقدم لنا الإمبراطورية هدايا من أي نوع كان»، مذكراً بلائحة طويلة من الخلافات بين البلدين. يرى الكثيرون أن كاسترو كان ولا يزال «شوكة في حلق الولايات المتحدة» التي حاولت مخابراتها اغتياله «أكثر من 634 مرة» (كما ذكر مسؤول كوبي)، لكنها فشلت وحكم كاسترو البلاد قرابة 50 عاماً، شهد فيها رحيل وصعود نحو 10 رؤساء أميركيين، جميعهم حاولوا إطاحته بشتى الطرق بهدف القضاء، أو على الأقل احتواء، فكر مناهض للإمبريالية والهيمنة الأميركية. ولد كاسترو في 13 آب عام 1926 لأحد المزارعين، وسرعان ما تمرّد على الحياة المترفة التي وجد فيها تناقضاً كبيراً مع حالة الفقر والحرمان السائدة في مجتمعه. تخرّج كاسترو في كلية الحقوق بجامعة «هافانا» عام 1950، وبعد حصوله على درجة الدكتوراه في القانون، رفع قضية ضد رئيس البلاد حينها، فولغنيسو باتيستا، اتهمه فيها بانتهاك الدستور.

وبعد رفض دعواه القضائية، اختار كاسترو حمل السلاح وهاجم ثكنات مونكادا العسكرية، في محاولة فاشلة لإسقاط النظام المدعوم من الولايات المتحدة. سجن كاسترو ثم عُفي عنه، ونُفي، إلا أنه عاد إلى كوبا في عام 1956، بعدما شكّل مجموعة ثورية برفقة تشي غيفارا، ونجحت الثورة التي قادها مع «الثوار الملتحين» تحت شعار «لا لصوص، لا خونة، لا تدخل خارجياً! هذه المرة الثورة حقيقية»، وأُطيح باتيستا، الذي هرب في كانون الثاني من عام 1959. في ظل تقرّب كاسترو من الاتحاد السوفياتي، أصبحت كوبا معقلًا للحرب الباردة، وفي عام 1961 اجتاح كوبا نحو 1,400 من المنفيين الكوبيين، الذين درّبتهم وسلّحتهم وكالة الاستخبارات المركزية، في خليج الخنازير في محاولة فاشلة لإطاحة النظام. وكشف أرشيف الأمن القومي الأميركي في ما بعد أن الولايات المتحدة بدأت التخطيط لإطاحة كاسترو في وقت مبكر من تشرين الأول عام 1959. حوّل كاسترو، الذي اشتهر باللحية السوداء والبزة العسكرية، كوبا إلى دولة اشتراكية يحكمها حزب واحد، هو الحكم الأول من نوعه في نصف الكرة الغربي. يقول الزعيم الكوبي إن «الرأسمالية بغيضة وقذرة ومقرفة، لأنها تسبب الحروب والنفاق والمنافسة»، ويؤمن بأنه لا بد لتناقضات الرأسمالية الأميركية من أن تدمر نفسها. ويعتقد أن «إيرادات الشركات الكوبية التي تديرها الدولة يجب أن تصرف حصراً على مصالح الشعب». بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، نجح كاسترو بالسيطرة على الحكومة خلال الأوقات الاقتصادية العصيبة، وفي عام 2008 استقال من الرئاسة بسبب مرضه، تاركاً الحكم لأخيه راؤول. توقّع الكثيرون أن يسير راؤول على خطى أخيه، لكن كوبا كما أرادها كاسترو بدأت تتغير بالفعل، وباتت البلاد تعرف تحولاً من النظام الاشتراكي إلى نظام اقتصادي مختلط، وتتبنى سياسات «أكثر انفتاحاً» على القطاع الخاص، فيما يجري خفض عدد الوظائف في القطاع العام وكذلك إعانات الدولة. ولعلّ الخطوة الأهم تمثلت ببدء تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة. قد يصعب التكهن اليوم بمستقبل الجزيرة الكوبية، لكن «الثوري الأحمر» لا يزال صامداً بعدما طبعت سيرته ذاكرة القرن العشرين... الغنية بالمراحل الجميلة (والقاتلة).

بسام القنطار - الاخبار

 

المرة الوحيدة التي تحدثت فيها مع جورج عبدالله، كانت في منتصف نيسان الماضي. اتصال هاتفي خاطف بعد ان علم بوجودي في منزل عائلته في القبيّات في زيارة خاصة. لم يترك لي صوته الجهور والمتقد حماسة فرصة للحوار.

قدم التعازي باستشهاد سمير القنطار. ابلغ سلامه لجميع من يسأل عنه. اعتذر عن عدم الاطالة في الحديث لأسباب تتعلق بادارة السجن. كان اتصالاً من طرف واحد تقريباً. اليوم تحتفل سفارة فرنسا في بيروت بالعيد الوطني الفرنسي. وكعادتها منذ سنوات، تنظم الحملة الدولية لاطلاق سراح جورج عبدالله «احتفالاً» موازياً. على الرصيف المقابل لبوابة «قصر الصنوبر»، سيقف عشرات النساء والرجال الأحرار، ويهتفون من أجل حرية جورج حتى تُبح حناجرهم، ثم سيغادرون. يعرف المتضامنون ، ويعرف جورج، ان فعل التضامن هذا لن يطعم حرية. لكنه على الاقل يشكل ادانة مستمرة، وان خجولة، لوقاحة فرنسا غير المسبوقة في الابقاء على هذا المناضل اللبناني قرابة ٣٢ عاماً في سجونها. جورج يشجع هذا النوع من الانشطة، لا بل يحرّض عليها. لكنه، في المقابل، يتخذ موقفاً راديكالياً صلباً ضد اي خطوة ذات طابع قضائي تتعلق بقضيته. وهو أبلغ ذلك الى كل من يعنيهم الامر، خصوصاً الى محاميه جان لوي شالونسيه. لكن جورج يعرف أيضاً أن قضيته لم تحضر في وسائل الاعلام إلا أثناء الاستحقاقات القضائية المتعلقة باجراءات الافراج المشروط التي تقدم بها تسع مرات، وكانت تعطلها الادارة الفرنسية دائماً، تارةً بحجة عدم صلاحية المحكمة، وتارةً أخرى بحجة انه رسب في فحص «معاداة السامية»! وعندما ضاقت السلطات الفرنسيّة ذرعاً بقاض جريء قرّر الافراج عن جورج عبدالله، رفعت قضيته الى الاستئناف فالتمييز. وهناك سحب من التداول موضوع الافراج المشروط عن عبدالله بفتوى مهينة، كما يجمع كل الذين اطلعوا على الحكم القضائي لمحكمة التمييز. فقد اعتبرت الأخيرة ان الافراج المشروط لا ينطبق في حالة جورج عبدالله، لتعذر مراقبته عبر وضع سوار الكتروني في رجله لفترة عام ونصف! هل يدعونا ذلك الى اليأس؟ قطعاً لا. لذلك فإن هذه الأسطر هي مناشدة إلى جورج، بقدر ما هي صرخة للتذكير بقضيته العادلة. يجب علينا جميعاً، نحن الذين نؤمن بأن هذا الرجل الذي احتفل بعيده الـ ٦٥ في زنزانته في سجن «لانميزان»، في الثاني من نيسان الماضي، أن نتوجه اليه بمناشدة عاجلة بأن يتراجع عن موقفه الرافض لأي شكل من أشكال التظلّم القانوني للإفراج عنه. إستخدم المحامي الراحل جاك فرجيس قوس المحكمة الفرنسي منصة لادانة سجان جورج عبدالله، ولادانة «العاهرة الفرنسية والقواد الاميركي»، وللتضامن مع القضية الفلسطينية. وتابع على النهج نفسه محاميه شالونسيه الذي تحمس في بداية توكيله من قبل جورج، وجمع تواقيع عشرات النواب في مجلسي النواب والشيوخ في فرنسا على عريضة تطالب بالإفراج عنه. نتمنّى بشدّة على جورج أن يتقدم بطلب جديد للافراج المشروط. نريد أن تُرفع قضيته الى محكمة حقوق الانسان الأوروبية، نريد أن تُرفع شكوى بإسمه أمام لجنة حقوق الانسان في الامم المتحدة، وأمام لجنة المساءلة القانونية المنبثقة عن بروتوكول اختياري وقعت عليه فرنسا ويرتبط بالعهد الدولي الخاص للحقوق السياسية والمدنية. نريد كل ذلك، ليس فقط لقناعتنا بأن هذا النوع من الآليات القانونية كفيل بالإفراج عن جورج عبدالله، بل لأنّنا نعتبرها ادوات ووسائل لابقاء القضية حاضرة. لكن جورج يرفض كل هذه الخطوات رفضاً قاطعاً. حضر وزير خارجية فرنسا قبل يومين الى بيروت، فلم يجرؤ أحد، أي أحد، حتى ممن يصنفون أنفسهم في خندق المقاومة الذي حفره جورج عبدالله، ان يذكّر بقضيّته. هذا عار. لكن العار ايضاً ان نبقى مكتوفي الأيدي، وأن نستسلم وأن نيأس. والعار أيضاً ألا نجد وسيلة لاقناع جورج بأن الادوات الامبريالية التي تُطلق عليها تسميات مثل «محكمة حقوق الانسان»، لا تمكن إدانتها من خلال مقاطعتها، بل من خلال طرق بابها بإصرار، كي نفتح كوة في هذا الجدار. قالها امل دنقل يوماً: «آه... ما أقسى الجدار عندما ينهض فى وجه الشروق ربما ننفق كل العمر… كي ننقب ثغرة». جورج لك كل الحب ... والتمني بقبول هذه المناشدة!

غسان ديبة - الاخبار

 

«لو كان ظاهر الأشياء مطابقاً لجوهرها، لما كان هناك حاجة للعلم» كارل ماركس

 

في كتابه الجديد حول مجتمع الكلفة المتلاشية وإنترنت الاشياء، يقول العالم المستقبلي، جيريمي ريفكين، إن المجتمعات الرأسمالية المتقدمة أصبحت في مرحلة من التطور التكنولوجي يمكنها أن تنتج الكثير من السلع من دون كلفة تذكر، وبالتالي هذا سيؤدي الى اهتزاز الرأسمالية وأفولها، لأن منطق الربح والعمل اللذين يشكلان أساس الرأسمالية سيصبحان هامشيين في المستقبل القريب.

 

إن الوصول الى واقعية الاحتمال الكبير لهذا المجتمع الجديد لم يأت هكذا من السماء، بل تطلب أكثر من مئتي عام من العمل المنتج وتراكم رأس المال والتوسع الرأسمالي في الدول الرأسمالية المتقدمة، ما أتاح تطور الانتاجية واختراع أنواع جديدة من التكنولوجيا، كتكنولوجيات المعلومات. وهذه عندما تربط الآن بالذكاء الصناعي والروبوتات وتكون مع "الأشياء" نوعاً من البيئة الجديدة أو "إنترنت الأشياء"، تتيح للبشرية أخيراً إمكان البدء بالاستمتاع بمجتمع الوفرة ونهاية الرأسمالية. في المقابل، يستمر الاقتصاد اللبناني في محاولاته الدائمة للقفز فوق المراحل، وأهمها مرحلة تراكم رأس المال والعمل المنتج تلك، وذلك عبر الاتجاه دائماً الى البحث عن مصادر جديدة للريع، وفي بثّ الاوهام "الانتاجية" من "اقتصاد المعرفة" و"مستشفى وجامعة الشرق الاوسط"، الى آخر المعزوفات التي ينتجها العقل الريعي ــ نصف المتعلم، الذي تكوّن جماعياً على مدى عشرات السنين. هذا العقل الذي تكوّن من الاعتماد الادماني على الريع الداخلي والخارجي على أنواعه، من مساعدات خارجية وتحويلات مغتربين وعقار وفوائد، أدى الى فقدان الوعي عند الكثيرين بالعلاقة بين العمل المنتج وتراكم رأس المال الحقيقي وبين المداخيل والاستهلاك. وآخر الملاذات الريعية الذي يبثّ الوهم حولها هو النفط والغاز؛ هذا المورد الذي أتى تاريخياً مجبولاً بالدم والعرق والغبار والمآسي، ولكنه في الوقت نفسه يحمل في طياته أحلام اليقظة في الإثراء السريع والسهل والبراق من دون أي عمل يذكر. لكن يبقى الوهم الأكبر الذي لا يزال يسيطر على العقول هو الاعتقاد، على الرغم من الاستدانة والحاجة الدائمة الى العملة الاجنبية لتمويل عجوزات الخزينة والتجارة، بأننا نستطيع بطريقة ما أن نخترع عبر "هندسة مالية" آلة أزلية (perpetual machine) تستطيع أن "تنتج" لنا "دولارات" يمكن استعمالها في ميزانياتنا وعملياتنا النقدية. آخر هذه الاختراعات كان منذ أكثر من شهر، كما جاء في جريدة الأخبار، إذ "نفذت وزارة المال استبدال سندات دين بالليرة بسندات دين بالدولار (Eurobond) بقيمة ملياري دولار لحساب مصرف لبنان.

تأتي هذه العملية في إطار التنسيق المتبادل بين وزارة المال ومصرف لبنان، وهي تسهم في رفع الاحتياطات المالية بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان، ما يعزّز الثقة بقدرته على مواجهة أي ضغوط مالية ونقدية".هذه الهندسة المالية ما هي إلا وهم أيضاً، وتدخل في سياق "خلق" الدولارات. فالمصرف المركزي يستطيع فقط أن يتدخل دفاعاً عن الليرة بواسطة احتياطه النقدي بالدولار (cash reserves) وليس بواسطة سندات الخزينة اللبنانية وحتى لو كانت بالدولار، إلا إذا كان لديه سندات خزينة صادرة عن دول غير لبنان (مثل أميركا). بالطبع يمكن للمصرف المركزي أن يبيع هذه السندات في سوق ثانوية ويحصل على الـcash بالدولار، ولكن هذا لن يكون متاحاً له في ظل بوادر أزمة نقدية تستدعي تدخله أولاً باللجوء إلى الاحتياطي النقدي وصولاً الى هذه السندات. ففي ذلك الوقت الذي سيحاول فيه بيع هذه السندات، نكون قد أصبحنا في وضع لا أحد يريد شراءها أصلاً، ويكون قد فات الاوان وانهارت الليرة اللبنانية! إذن هذه العملية ما هي إلا عملية تجميلية لرفع الاحتياطي الاسمي لمصرف لبنان وليس الفعلي! إضافة الى ذلك، فإن لهذه العملية آثاراً سلبية من حيث انها تزيد من دين الدولة بالدولار وهذا سيّئ؛ ومن سخرية القدر أن المصرف المركزي، وهو هيئة عامة تدفع الدولة اللبنانية إلى أن تقوم بذلك! في عام 1983 كتب الاقتصادي الفرنسي الان ليبيتز أن الاقتصاديات الرأسمالية في السبعينيات كانت تعيش على الاستدانة وانفصال عالم النقد عن القيم الحقيقية، فشبّه الاقتصاد الرأسمالي آنذاك بالشخصية الكرتونية التي نعرفها كلنا، والتي تسير في الجو لمدة ثم فجأة تكتشف ذلك فتسقط. وقال عن التضخم الذي أصاب الدول الرأسمالية المتقدمة في تلك الفترة "إن التضخم المتسارع هو ليس مرضاً بحد ذاته، بل هو عوارض مرض نفاذ نمط التراكم." فهذا الاستنفاذ هو الذي جعل الرأسمالية تحاول حل هذه المعضلة عبر النقد والاستدانة وصعود عالم المال. أما في لبنان اليوم، وبعد أكثر من عشرين سنة من تغليب المال والريع والعقار على الإنتاج والعمل، يمعن اقتصادنا أكثر فأكثر في ديناميكية انفصال العالم النقدي عن الاقتصاد الحقيقي، ما يجعل الأزمة أعمق في الواقع ولكن غير ظاهرة للعيان. ومن أجل الإبقاء على ذلك، يغرق المصرف المركزي أكثر فأكثر دفاعاً عن هذا الوهم. والمفارقة أنه لا يستطيع لذلك سبيلاً إلا بخلقه أوهاماً أخرى، متجاهلاً أن النمط الاقتصادي اللبناني في أزمة كبرى، وأن الجميع ينتظر الآن متى ستسقط شخصيتة الكرتونية العائمة على غيوم من الريع، ويسقط معها آخر أوهام الرأسمالية اللبنانية.

راجانا حمية - الاخبار

لم تبقَ إلا الشجرة، تلك التي صارت بنصف «قامة»، لتذكّر بليلة مرّت قبل عشر سنوات. هناك، في الدار الواسعة التي كانت تؤوي خلال حرب تموّز 96 هارباً من الموت، كبُرت شجرة الجوز. امتدّت ظلالها الوارفة لتغطّي المصطبة الجانبيّة وجزءاً من قطعة الأرض التي حوّلتها صواريخ الحرب، يومذاك، بوراً.

وحدها، بقيت لتسند الذكرى، فيما شجرة التفاح التي أسند إليها مختار بلدة الجمالية حسين جمال الدين وجعه، ليل استشهاد ابنه مكسيم وستة من الرفاق والجيران، انتهت، كما بقيّة الأشياء التي راحت تباعاً. قدر الإمكان، حاول أبو مكسيم إبقاءها على قيد الحياة، فهي بالنسبة له «كلّ ما بقي من أثرهم». ظلّ يعالجها عاماً كاملاً، وإن لم يكن لديه اليقين، حينها، بأنها ستعود، «بعدما نزل فيها 7 صواريخ». لكنّه، صبر، وفي كلّ يوم، كان يرمّم «جرحها» ويسقيها. كان يقول في سرّه «لازم تعيش». كان يعوّل على هذا البقاء، ولم يكن مجنوناً. قبل أشهرٍ من الذكرى العاشرة على حرب تمّوز، انفلش جذع شجرته. بقي نصفه مغروساً في الأرض، فيما انهار الجزء الثاني. يومها، شعر الرجل بأن شيئاً ما يُتلَف في قلبه. «انوجعت»، يقول. مع ذلك، لن يستسلم «فسأفعل ما في وسعي كي تبقى». اليوم، تمرّ عشر سنواتٍ على الحرب المشؤومة. وتمرّ عشر سنواتٍ «إلا شوي» على المجزرة التي وقعت تحت «الجوزة»، والتي صارت مع الوقت تعرف بمجزرة الجماليّة. مع ذلك، لم يخفّف هذا المرور من وطأة الذكرى. لا يزال أبو مكسيم يلجأ إلى هناك، كلما اشتدّ الحزن في قلبه. يجلس في المكان نفسه الذي جلس فيه ابنه فجر الثاني من آب من العام 2006. يسند رأسه إلى الجذع المبتور ويتذكّر ابنه الذي لم يكن قد بلغ بعد السابعة عشرة من عمره «النشيط. الذكي. لعيّب فوتبول من الدرجة الأولى وقائد لـ36 شاباً وصبيّة، كثيرون منهم يتجاوزون الثلاثين عاماً».

كان «مميّزاً»، يقول. لهذا، لم يسمّ أحداً من أحفاده مكسيم. لماذا؟ لأنهم «ليسوا ملكي، مكسيم كان لي، كنت أنا ربّه، أما أحفادي فهم لأهلهم وليسوا لي، ولن يحلوا مكانه». يسند يده إلى صدره، على ناحية القلب، ويقول «مكسيم هون»، وفيما لو فكّر بالزواج ثانية «فمن أجل أن أرزق بصبي وأسميه باسمه». لا يطاوعه هذا القلب بأنّ ثمّة أحداً سيعوّضه ابنه، ولو «كان النبي محمد، فعندما يقولون ما أغلى من الولد إلا الذي خلقه أقول لهم أنتم تكذبون. ما أغلى منو حدا». تغرورق عيناه بالدموع، لكنها تنزل «لا أريد أن أبكي أمام أحد. أريد أن أبقى قوياً. بيّ مكسيم القبضاي». هل تبكي وحدك؟ نسأله، فيجيب بإيماءة من لرأسه، ويستطرد قائلاً «لحالي وعندما أصلي. خمس مرّاتٍ في اليوم أصلي فيها أعيش فيها مع مكسيم». ثم يبتسم ويقول «هل تعرفين بأنني بدأت بالصلاة بعد المجزرة لأجل مكسيم؟». منذ ما بعد المجزرة، صار كلّ شيء يقوم به المختار لأجل مكسيم، حتى عندما زارته مؤسسة الشهيد كي تكرّم أهالي الشهداء، علّق ما أهدوه إياه عند باب منزله، حيث تطالعك عند المدخل لافتة ترحّب بك في «منزل الشهيد مكسيم حسين جمال الدين الذي استشهد فجر الثاني من آب من العام 2006».

لا يزال كل شيءٍ في رأسه على ما هو. الليل «اللي ما عاد خلص» محفوظ بصورٍ وتفاصيل. يرويها كما لو أنّها تحصل للتوّ. يسند يده إلى جذع الشجرة، ويعيد سرد الحكاية: كنت أقف هنا. فوق رأس مكسيم الذي كان يجلس القرفصاء، فيما البقيّة يجلسون حوله. كان الليل موحشاً، تضيئه بين الحين والآخر ضربات الصواريخ التي كانت تسقط في محيط مستشفى دار الحكمة. كنا نبعد عن دار المستشفى مئات الأمتار، ولم يكن لدينا إلا سلاح واحد يحمله مكسيم. مع ذلك، كنا ننتظر مرور الإسرائيليين بالقرب من خط «سكّة التران»، لنخطف واحداً منهم ونفشل الإنزال. انقسمنا مجموعات. أنا وشقيقي قمنا بجولة على بيوت الأهالي لنطمئنهم. أذكر بأننا وقفنا على بعد أمتارٍ من دار المستشفى، وأني انحنيت على الأرض ووضعت أذني على حافة الطريق وصرت أسمع خبطات أقدامهم. كانوا كثراً. عدنا. في طريق العودة، سمعت شاباً يقول «قتلنا جلبوط وأخدنا جلبوط». بعد انتهاء الليل سيعرف الأهالي من هو هذا الشاب. كان اسمه رضا مدلج وسمّوه بعد استشهاده «شهيد الوعد الصادق». أما «الجلابيط»، فكانوا جنوداً إسرائيليين. المهم، في تلك الليلة، أفشل «الجمّاليّون» إنزال دار الحكمة، الذي عرفوا في ما بعد بأنه يستهدف الشيخ محمد يزبك، «بحماستهم»، يقول المختار. لم يكن لديهم سوى «كلاشين» واحد و3 قذائف «روسيّة». يقول «رمى ابن أختي قذيفتين على دار المستشفى، فجنّ جنون الإسرائيليين وبدأوا يمطرون المحيط بالصواريخ»، كان من نصيب شجرة الجوز أمام بيت المختار سبعة صواريخ لم تبق من الجالسين تحتها أثراً. تطايرت الأجساد أشلاء. يتذكّر المختار بأنّه في تلك الليلة، جلس مع الشباب تحت الشجرة. تركهم «لحظة» قاصداً البيت المجاور. في تلك اللحظة، سقط الصاروخ الأول، تلته ستّة أخرى. حدث ذلك عند الثانية والنصف فجراً. استدار أبو مكسيم إلى الخلف، فرأى دخاناً كثيفاً وناراً تشتعل. ظنّ بأن البيت احترق بمن فيه. «أمسك» قلبه، ففي البيت ما يقارب 96 نازحاً. عاد أدراجه. وصل على مقربة من الشجرة وعرف بأنّ الكلّ مات تحتها. جلس تحت شجرة التفاح منتظراً طلوع الفجر كي يلملم الأشلاء. كتم سرّه خمس ساعات، خوفاً على القابعين داخل البيت. في الصباح الباكر، صار يفلفش في بقايا الأشلاء المتطايرة. عرف من ابنه «قدمه اليسرى وجزءاً من ظهره». مع طلوع الشمس، دفن أهالي القرية أشلاء شهداء المجزرة، ثم أتاهم الخبر من «صحافي أجنبي» بأنّ عليهم أن يخلوا القرية لأنّ الإسرائيليين سيدمرونها لأنّ «فيها مصنع صواريخ». سمعوا الخبر ثم استقلوا السيارات المتوفرة وتوجهوا نحو بلدة راس بعلبك، ليعرفوا فيم ا بعد بأن المصنع الذي استهدفه الإسرائيليون ليس مصنع أسلحة لحزب الله وإنما «مصنع قساطل». مع ذلك، لم يوفّر الإسرائيليون شيئاً هناك. «درزوا» محيط دار الحكمة بالصواريخ. وكان للجمالية الجزء الأوفر من الصواريخ، كونها الأقرب إلى المستشفى. وظلّت هذه القرية، التي يقول عنها ساكنوها القلائل بأنها كانت «فقط تقرب من المستشفى ولا وجود فيها لعناصر من حزب الله، بس كان فيها شويّة شيوعيين قدامى»، تتلقى الصواريخ حتى آخر لحظة في الحرب، حيث سقط على طريقها عقب أسبوع، 14 شهيداً آخرين، جلّهم من القوى الأمنية، كانوا يستقلّون باصاً لنقل الركاب. وكان من بين الشهداء «شقيق أحد الذين سقطوا تحت الشجرة».

محمد همدر - الاخبار

 

 

 

 

بعد مشاركات سابقة في «بيت الدين» و«بعلبك» و«جبيل»، يضرب مرسيل خليفة موعداً (23/7) هذا الصيف ضمن «مهرجانات البترون الدولية»، المدينة الساحلية الصغيرة القريبة من مسقط رأسه. يغني على ميناء صيّاديها للمرة الأولى، يرافقه الحاضر الغائب محمود درويش (1941 ــ 2008) من خلال «أندلس الحب» العمل الموسيقي الغنائي الذي أصدره خليفة أخيراً في مناسبة عيد «شاعر الأرض» الـ 75. من الظروف نفسها، يغني ويتكلم، لم يتغير شيء، لا في الحال ولا في لسان مرسيل. رسائله تعبر عن حسرته وعن أمل باق، تدعم الموسيقى صموده. ربما هذا قدر مرسيل مع الغناء في هذا البلد وهذه المنطقة منذ أن أمسك اليساري الشاب بعوده وانطلق ليحبك مع محمود درويش أغنيات الثورة والحب وفلسطين.

 

يقول مرسيل: «نغنّي لننجو من عزلة الحروب الصغيرة والكبيرة. لم يكن ممكناً الصمت ولم يعد ممكناً في هذه الارض الطافحة «بالجعير» الدافقة بالأوساخ وبالقرف والعار. نعيش في محرقة ونبكي أوطاناً لنا قتلوها وأسكنوا فيها القلق والحسرة والتهديد والذل والخوف والظلم والقهر. مع ذلك، سنغني ونتطلّع الى أمل ما الى حنين ربما يأخذنا الى وطن جديد نغلق الباب على التاريخ ونفتحه على نجوم السماء.

نغني ليستريح هذا الوطن وليأخذ قيلولة من العنف، ويرفع رأسه وينظر الى نجوم السماء وحوله هدوء الليل ونقاء الفجر، نغني لنخلخل ايمان المجتمع بكل معتقداته. نغني على أمل بتغيير الحياة نحو الجمال والحريّة والسعادة. نغني للحب لأننا لا نؤمن الاّ بالحب في هذا العالم الوحشي». في ميناء الصيادين في البترون القديمة، يطلّ خليفة مع «سداسي الميادين»، ليترك للعود وللموسيقى أن تتكفّل إخراج ما في صدره «نغني في ٢٣ تموز في مهرجان البترون مع «سداسي الميادين» عن كل ذلك: عن أندلس الحب، عن المينا، عن الصيادين، عن النور، عن الطفولة، عن الهجرة». وكان مرسيل قد وقّع عمله الموسيقي الغنائي الجديد «أندلس الحب» في ربيع هذا العام، إهداءً الى توأم روحه الفني، كما وصفه، محمود درويش، الذي أهدى الى مرسيل قصيدة «أندلس الحب» عام 1984، متمنياً عليه تلحينها. وحقّق خليفة الأمنية للشاعر الراحل في عيد ميلاده الخامس والسبعين. يعبّر مرسيل عن فرحة عارمة بالحفلة الأخيرة التي قدمها مع الاوركسترا السيمفونية الوطنية في «كنيسة مار يوسف» في ١٧ حزيران (يونيو) مع كونشرتو للبيانو وكونشرتو للعود مع رامي خليفة وكنان ادناوي. حفلة وصفها بالرائعة والمميّزة جداً. ويطلعنا على حفلة أخرى ستقام في ٢٩ تموز (يوليو) مع فرقة موسيقى الحجرة في مكتبة الاسكندرية وتضم برنامجاً موسيقياً وغنائياً منوّعاً. وفي ١٣ أيلول (سبتمبر)، يقدم أمسية في «مهرجان الاْردن». في كل عام، تضيف مشاركات مرسيل خليفة ما يليق بمهرجان ثقافي دولي. تعطي المهرجانات حقها ومرسيل وجمهوره بعضاً من حقّه، تعوّض عن غيابه عن الساحة لبعض الوقت بعد الحرب، وتصلح بعض ما سبّبه هذا الغياب. كما أن هذا المخزون الموسيقي المحلي المتجدد، الذي عبّر عن أجيال ومحطات من تاريخ هذا البلد، يغني عن مشاركات لفنانين عالميين للأسف، انتهت صلاحيتهم في الخارج، أو آخرين يُستقدمون بهدف الترفيه والتنطيط، فيضربون مفهوم المهرجانات الثقافية.

لوركا سبيتي - السفير

زياد الرحباني المتفرد في الموسيقى والمسرح متفرد حتى في حياته. الفتى الذي كان ابن عملاقين بنى نفسه بدون أن يتكل عليهما. عاش خارج البيت وداخله. خارج العائلة وداخلها. وحين شب كان مرآة أبويه ونقيضهما في آن معاً. ما الذي يدفع بموسيقيّ معروف مثله يستطيع أن يجلس في الصف الأمامي أن يكون هنا في الأخير؟ خطر ببالي ألف احتمال إلاّ الخجل، الذي اتضح لي حين عرفته جيدا في ما بعد. لحظات خرج مسرعا فلحقته خوف أن يغادر قبل أن أتحدث اليه، أسرعتُ الخطى، بعض الناس في الخارج يتبعونه بنظراتهم، صبية طويلة القامة اقتربت لتأخذ معه صورة فرفض بحزم وطلب منها أن تتصور مع المُحتفى بها (جميلة بو حيرد). سمعتُ الحديث فعرفت أنني أمام رجل واضح لا يراوغ.. قدّمت نفسي.. رد متفاجئا: «كنت أظنك تتصنعين البحّة تدللا عبر الأثير، هل صرخت كثيرا وأنت صغيرة ولم يسمعك أحد»؟ زياد الصغير لنفترض أن هناك كاميرا تعلو أبطال هذه القصة، هي الآن تنتقل بين منطقتَي «الرابية» حيث كان منزل والديه و «بدارو» حيث كان مكتب العمل.. زياد الصغير يستيقظ عند الرابعة والنصف صباحاً يجهّز نفسه بمساعدة المربية «جمال» ليوصله سائق العائلة «عبدو شليطا» إلى بدارو، وهناك يستقلّ باص المدرسة الذي يلفّ ويدور ليقلّ كلّ التلاميذ من طريق صيدا القديمة إلى معمل غندور، وكنيسة مار مخايل وغاليري سمعان وصولاً إلى مدرسة الجمهور. «حياتي كلّها مرّت على الأوتوستراد العربيّ» يخبرني بلكنته الكوميدية. لم يحب زياد الشقيّ شيئا في المدرسة إلاّ وقت الفرصة، وطبعا تودون أن تعرفوا كيف تجسدت شقاوة هذا الفتى؟! فتح ورفيقه في فرصة العاشرة خزائن التلاميذ وأكلوا زواداتهم، قام بجمع المال من تلامذة الصف لشراء مجلات لنساء عاريات، وكان الشرط بتمريرها بين الطلاب داخل الصف أثناء شرح الأستاذ. «كنّا نستعمل خيالنا الواسع لكي يمضي النهار الطويل بسرعة». كل هذا ولم يعلم أهله ما يفعله زياد في المدرسة بالرغم من العقوبات التي كادت تصل الى الطرد وإعادة العام الدراسي لولا تدخل لجنة الأهل لمصلحته حينها. الطريق شاقة ذهابا وايابا، حيث انه عند الرجوع كان عليه اجتياز غابة «كفوري» مشيا والمرور بالكلب الضال الجائع الواقف هناك للوصول إلى المكتب. زياد الصبيّ الذي لا لون له، المتعب من طول النهار وكثرة الشقاوة والوحيد كبئر يدخل الى المكتب، أبوه وعمه مشغولان بالتأليف والتسجيل وأشياء اخرى، أمه لا تأتي إلّا عند البروفات، يجلس أمام البيانو ويتحول الى أنامل صغيرة تعزف وتنتظر حتى التاسعة ليلا أو أكثر لتعود الى البيت. الكاميرا تعود مع زياد، فيروز الأم بقامتها الطويلة وشعرها النحاسي وكحلتها التي نسيت تنظيفها من ليل امس تختفي حين يدخل الشخصان. «ربما تشاجرا هذه المرة ايضا» يفكر زياد، وعليه أن يترأس المفاوضات مجددا. بطبيعة الحال يحتاج الابن إلى ان يكون والداه متحابيْن، فيعمل جاهداً على مصالحتِهما بالرغم من أنه لا يعرف عن العلاقة بين الرجل والمرأة شيئا بعد. أمه تشكو له لسان أبيه السليط وشتائمه «كان أبي يحب لعب الأيدي، حسّاس في الأغاني التي يكتبها بينما في حياته الشخصيّة كان عنيفاً جدّا». وأبوه الذي كان دقيقا يصبو الى الكمال ليس فقط في الموسيقى بل في كل شيء، يشكو له أمه. يتذكر زياد، وخجل غريب متصل بنظرة علقت في البعيد، والده يَهمّ بالمغادرة من البيت غاضبا، يطلب منه توضيب الحقيبة بينما يُكمل هو الشجار مع زوجته «كنت أنوي تلحين أغنية لهما اسمها: ضبّ بابا ضبّ»! يكرّرها مرتين ويضحك ضحكة هستيرية تُدمع عينيّ.. بعد مغادرته بقليل يتصل عاصي بفيروز سريعا: «حبيبتي، تقبريني»، هذا الاتصال يطمئن قلبا صغيرا ينبض وراء الباب.. «كان يحبها كثيرا حبا صافيا، ولكنها كانت تعامله معاملةً أفضل». اذاً هل كنتَ ترى أنهما يليقان بعضهما ببعض؟ «نعم لم أكن أتخيل الواحد من دون الآخر، فمن سيلحن أغانيها ومن سيغني ألحانه! «هكذا ردّ الموسيقيّ الذي علق في طفولته ولم يخرج منها الى الآن. لقد أرادت فيروز زياد محامياً، وأراد أن يكون طبيبا نفسيا، ولكنه كان وصار بالقوة وبالفعل موسيقيا، ولا يصلح إلا للموسيقى، إخراجا وكتابة وتمثيلا ومسرحا، وهذا ليس بأمر غريب على من عاش وسط الألحان كيفما اتجه فنحوها وأينما هرب فإليها. الموسيقى قريبة اليه اكثر من أمه التي لم يرها في معظم الأحيان. «كنت أشاهدها فقط على عتبة المسرح»، كل الوقت لديّ ولكنّها كانت مشغولة في كلّ الأوقات». يهمس لي بأن فيروز لو اعتزلت الغناء يوما فستصبح مذيعة أخبار باللغة العربية في لندن. «تخيّلي فيروز تقرأ الأخبار» يقهقه عاليا.. زياد طفل يشتاق لأمه اشتياقا أبديا، لم يقل ذلك ولكني شعرت به، بحنان مفقود له شكل الموقد ورائحة اللبن وقريب كفكرة لا يستطيع التقاطها. قصائد الكاميرا تصوّر الفتى يكتب قصائد أظنها دلّت على عبقريته الآتية: «في دنيانا يا أمي لا يوجد فستانٌ بشع ما دام لكلّ فستان واحدةٌ تُحب أن ترتديه». «لو عددتُ درجات بيتي وكم من مرةٍ صعدتُها لكان هذا درجاً طويلاً يخترق السحب وَلو عددت ضحكات أمي لي لرافقتني طوال صعودي ووقعتْ من بعدي الضحكات على الدرج وأزهرتْ زهرا». اكتشف عاصي القصائد ونشرها في جريدة النهار تحت عنوان «صديقي الله» من دون علمه، الأمر الذي أحرجه كثيراً في المدرسة بين زملائه. انتبه زياد لاحقا إلى أنّ أكثر الأفكار التي كتبها موّجهة الى أمّه ولكنه لم يتنبه أن الله صديقه الذي خاطبه في هذه القصائد هو أبوه، السلطة والمثال والرمز «أنا» لا أَحسِدُك على معرفتك مصيرَ كلٍّ منّا، لأنّك قد تبكي على مصيرِ حزين بينما صاحِبه سهران يَضحك. وتَعرِفُ الفرَح قبل وقوعِه فلا ترى مثلنا لذّة المُفاجأة».. من هنا والى الآن لم يخب ما كتبه زياد وما لحّنه ايضا، كلماته تجرح حقيقتُها كما تفعل الحياة، طالعة من مطارح في دواخله نسيَ نفسه أن يزورها، افتكرها امّحت، اختفت، ابتلعتها عزلتها. هو متفرد واستثنائي ولا يشبه إلّا خياله الذي أظنه ما زال يفاجئه ويمتحنه ويقسو عليه أحيانا وقد يلتصق به كأنه وسواس قهري لا يتركه يفتح الباب لأحد كما يفعل به الآن وفي هذه الأيام! زياد الحفيد شابه جدّه ليس في العنف بل في الشرب حدّ الإدمان.. الكاميرا تصور صبيا طريا يتلقى دروسه في مدرسة من أهم مدارس لبنان، ويدرس عزف البيانو عند أهم الأساتذة وابن أهم مبدعيّن في الوطن، يشرب الكحول وهو في الثالثة عشرة من عمره وطبعا في السرّ، من المحتمل أنه حمل عبر الجينات هذه الصفة، ولكن من المؤكد أن المراهق أراد الهروب. «ممّ كنت تهرب»؟ يجيب بارتباك طفولي: «من الطفولة، من المنزل، من الأشياء المريرة التي حدثت في حياتي، الكحول يخفف وطأة القسوة». عاش المؤلف الموسيقي مع الإدمان فترة طويلة ولم يوقفه إلّا جسده الذي ناداه بأن توقف وإلّاّ فستموت. خيبة الماركسي أُثقل الماركسيّ بالخيبات والإحباطات، وهزم مع جيل انتمى اليه، بسبب الحرب الأهلية من جهة وانهيار الاتحاد السوفياتي وفشل مشروع اليسار في العالم من جهة اخرى، بالإضافة الى تدمير المجتمع الذي أصبح رهينة الرأسمال والقوى المنتصرة، يضاف اليه فشله في العلاقات العاطفية وبالتالي الفشل في بناء عائلة وعزلته عن المجتمع.. الماركسيّ كتب خيباته مسرحاً وتنبأ المستقبل فيه، ففي مسرحيّة «بخصوص الكرامة والشعب العنيد»، و «لولا فسحة الأمل»، توقع أنّ المجتمع اللبنانيّ سيعود إلى العصور الحجريّة والحياة البدائيّة في الغابات، وتوقعّ انقسام العراق، وأنّ بغداد ستطالب الأمم المتحدة باستخدام مياه دجلة والفرات. وهذا الشيء قد حدث ما يشبهه.. وحاول في «فيلم أميركي طويل» تشريح المجتمع في الحرب من وِجهة نظر فكريّة ونفسيّة، ووضع الضوء على جدليّة الناس والزعماء والمؤامرة، كما ولو أنّه توصل في النهاية إلى حلّ وهو الجنون. يقول لي بتمعن ساخر: «أفتكر أنّنا كشعب لبنانيّ نعيش خارج الواقع بل خارج التاريخ. لا أظنّ أنّ هناك طريقة أو صيغة ما تروي للأجيال القادمة كيف وقعت الحرب. يُمكن لشخص غير لبنانيّ من جهة دوائر الاستخبارات الخارجية التي تُحرّك الأوضاع في لبنان أن يكتب هذا التاريخ».. في مسرحية «بالنسبة لبكرا شو» حاول تشريح النظام الاقتصادي اللبناني فجسّده على صورة ثريا العاهرة التي تضاجع الأجانب مقابل المال من أجل عائلتها (كم تشبه ثريا 8 و14 آذار؟!). لم يكن الرحباني الشاب الذي ينتمي الى عائلة تملك سلطة فنية ومعنوية مهولة تكاد تختزل الوطن، والذي ثار عليها فانشق مبكرا ورسم طريقه المغاير وطريقته الصادمة، ملحناً فقط بل شخصية استثنائية بالنسبة لجيل شاب أراد يومها الانقضاض على صيغة الوطن، لم يكن كاتب مسرحيات فحسب كما لم يكن تشيخوف وبريخت وغارسيا لوركا، هو كاتب حياة وكاتب موت وما بينهما، في أيامٍ مرّت ليس منذ زمنٍ طويل، كان المكان مسرحاً، والوقت ليس له شكل النهار والليل، والطقس لم يكن ماطراً أو صحواً، والحرب لم تكن تعرف أنّ لها قدمين، بدّد القلق العارم وأكّده، والغيثُ الذي فاجأ المارّة، كان على شكل ضحكة. في المسرح تشبّث بالحقيقة كأنّها نافذته التي يطلّ منها على العالم. حقيقةٌ لا تنفع حطباً ولا مجذافاً، بل تُعاتق العالم المُثلج، وتحنو عليه. مع زياد الرحباني الحديث يطول، تظنه انتهى، ولكنه فقط يأخذ نفسا عميقا، فتأخذ نفسا عميقا أنت ايضا، يتحرك وتبقى مسمّرا، هو كثير الحركة في منزله، المتراكمة أشياؤه والمتكدسة كأنها كائنات تشاركه العيش. كل شيء فيه له قصة، كل ورقة يحتاجها وكل قنينة خالية أو مجلة بالية تعنيه.. لا يهدأ في مكان، يقف ويجلس في آن، يذهب ويأتي، يتكلم ويصمت معا، يضحك ولكنّ حزنا ما في عينيه يطلّ عليك ويختفي، يحرّض حزنك، تتعاطف معه، ربما يصرخ في وجهك وتقبل، ربما يغضبه عدم فهمك لما يقول وتظل متفهماً.. وعليك دوماً أن تضحك لنكاته وتعترف بسرعة بديهته المرضيّة. أرفعُ صوت الموسيقى، أشعر به يداعِبُها كأنّها امرأةٌ شغوف ومتطلّبة وتحتاجُ دوماً إلى الرفقة. تقول أشياء لا أفهم أكثرها ولكني أشعر بها كالماء ينقر الهواء ويستسلم لملمسه واثقة المزاج كبيرة بحجم الفتنة.. تنتهي وأعيدها، تنتهي وأعيدها صادحة واضحة مباشرة ومفاجئة «ايه في أمل» ويلفحني أمل يرفرف أقرب من حمائم الرؤية...

 

قبل يومين، صوّت نواب «حزب العمّال» بحجب الثقة عن جيريمي كوربين، وقد أيّدهم في ذلك كل من توني بلير وديفيد كاميرون. رفض كوربين الاستقالة، مستنداً إلى الشرعية التي منحه إياها «أعضاء الحزب... الذين أرفض خيانتهم»

 

رنا حربي - الاخبار

 

 

عندما فاز جيريمي كوربين برئاسة «حزب العمّال» البريطاني في 12 أيلول 2015، رأت صحف عالمية أنّ «صديق العرب» و«عدو الرأسمالية» قد أحدث «زلزالاً» في سياسة الحزب، وأن فوزه سيكون المسمار الأخير في نعش «الوسطية» التي أنتهجها حزبه تحت قيادة توني بلير. هذا «الزلزال» بدأت تظهر تداعياته اليوم، إذ يواجه كوربين انقلاباً من قبل من رفض «دفن الوسطية» واختار مواجهة «اليساري المتمرد» في حرب داخلية مدمرة، قد يستغلها «الحزب المحافظ» في الانتخابات المقبلة. لم تكن الحرب على كوربين مفاجئة أبداً، خاصةً أن شخصيته المثيرة للجدل وأفكاره «الراديكالية» لا تتماشيان و«طبيعة» الحياة السياسية في بريطانيا.

 

حتى إنّ لحيته الخفيفة ينظر إليها الكثيرون على أنها شكل من أشكال المعارضة، وهو شخص من «خارج النظام»، ومن الطبيعي أن يعمل «النظام» على إفشاله وعزله، خاصةً أنه نجح في جذب أعداد كبيرة من المناصرين في القطاعات الشعبية والشبابية المختلفة والذين يمثّل كوربين بنظرهم «نفساً جديداً» سيعيد حزب العمال إلى سابق عهده كحركة للطبقة العاملة. ولد كوربين عام 1949 لأبوين كانا ناشطي سلام في فترة الحرب الأهلية الإسبانية، وعمل في الاتحاد العام للخياطين وعمّال الملابس، حتى بدأت حياته السياسية في عام 1974 عندما انتخب عضواً في مجلس هارينغي (المحلي). وفي عام 1983، تم انتخابه كعضو في البرلمان عن دائرة إزلينغتون الشمالية. يؤمن كوربين بالعدالة الاجتماعية والمساواة، ويسعى إلى رفع مستوى الحالة المعيشية للمواطن البريطاني العادي من خلال تحسين الاقتصاد وإصلاح نظام الرعاية الاجتماعية والميزانية. لا يخفي إعجابه بفلسفة كارل ماركس، ويصفه بـ«شخصية ساحرة يمكن أن نتعلم الكثير منها». ينحاز كوربين بشكل صريح إلى الفقراء والمهمّشين، وقد عارض بشراسة سياسة التقشف الأوروبية، ويؤيد فرض ضرائب إضافية على الأثرياء، كذلك عبّر عن دعمه الكامل للنقابات العمّالية، ورفض مشروع اتفاق التبادل الحر بين أوروبا والولايات المتحدة. إضافةً إلى ذلك، أظهرت «فضيحة النفقات الحكومية» داخل بريطانيا عام 2009 أن كوربين (الذي يصل إلى عمله كل يوم على دراجة هوائية) هو أقل النواب البريطانيين إنفاقاً، فقال معلقاً: «يجب علينا مراقبة كل ما ننفقه، لأنها أموال الشعب وليست أموالنا الشخصية». معروف عن كوربين أنه رجل مبدئي، إذ إنه لم يغيّر مواقفه منذ دخول البرلمان، لا سيما تلك التي تتعلق بالسياسة الخارجية لبريطانيا. فهو من المتحمسين للحلول السلمية، وقال بعد ساعات على انتخابه إن «هدفنا يجب أن يكون إيجاد حلول سلمية لمشاكل العالم».

عرف عن كوربين عداؤه للعنصرية، وألقي القبض عليه عام 1984 أثناء تنظيمه احتجاجاً في لندن ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. مُنح جائزة غاندي الدولية للسلام لعام 2013 لأنه «بذل جهوداً حثيثة لإعلاء قيم غاندي للعدالة الاجتماعية ونبذ العنف». وكوربين عضو في حملة «التضامن مع فلسطين»، و«منظمة العفو الدولية»، وحملة «من أجل نزع السلاح النووي» و«أوقفوا الحرب». يعدّ زعيم «العمّال» من مؤيدي القضية الفلسطينية ومن المدافعين عن حقوق الشعب الفلسطيني في المحافل الدولية، ويعرف بمعارضته للعدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة. وقد تعرّض للكثير من الانتقاد عندما أشار في مقابلة إلى ضرورة إشراك «حماس» في أي «عملية سلام»، وعند فوزه برئاسة «حزب العمّال» هاجمته الصحافة الإسرائيلية بشراسة، ووصفته بأنه «معاد للسامية». تصدّر كوربين المشهد في الفترة التي أعقبت حربَي أفغانستان والعراق، ولعب دوراً كبيراً في حشد معارضة كبيرة لهاتين الحربين. وعند سؤاله يوماً عن أكثر قرار يفتخر بمعارضته، قال إنه فخور بمعارضته قرار الحرب على العراق في عام 2003. وهو يرى أن على «حزب العمال» الاعتذار من البريطانيين بعد «خداعهم» و«توريطهم» في الحرب على العراق، ومن الشعب العراقي على العذابات التي ألحقت به. وقال في مقابلة: «لقد كانت حرباً غير شرعية، وبالتالي على توني بلير أن يشرح لنا تأييده لها. هل ستتم محاكمته؟ لا أعرف. هل نستطيع محاكمته؟ ربما». أما في ما يتعلق بالأزمة السورية، فيرفض كوربين رفضاً قاطعاً التدخل العسكري، ويقول إنه «ليس مقتنعاً بأن الغارات على سوريا تعطي نتيجة»، مشيراً إلى أنها ستقتل المزيد من المدنيين. وبالنسبة إلى قضية اللاجئين، فقد دعا إلى «إيجاد حلول سلمية» لمواجهة الأزمة، وأول قرار كان قد اتخذه بعد إعلان فوزه كان المشاركة في مظاهرة لدعم اللاجئين. أما في ما يخصّ الولايات المتحدة، فيقول كوربين إن بريطانيا «لعبت دور التابع الأمين» لسياسات أميركا الخارجية على مدار الـ60 عاماً الماضية، ويرى أن على بريطانيا أن تستقل عن الولايات المتحدة في سياساتها الخارجية، وأن تركز أكثر على حقوق الإنسان. وطالب أكثر من مرة بخروج بريطانيا من حلف «شمال الأطلسي»، وذلك لحجم الأموال المخصصة لميزانية الحلف، إضافة إلى رفضه للحروب التي يشنّها الحلف في مناطق عدة. يعارض كوربين بشدة امتلاك الأسلحة النووية، ويدعو بريطانيا إلى التخلي عن ترسانتها، مؤكداً أنه لن يستخدمها إذا تم انتخابه كرئيس وزراء. أيّد بشكل لافت وحدة ايرلندا، وطالب أكثر من مرة بضرورة رفع العقوبات المفروضة على إيران، معتبراً أنها «لا تجدي نفعاً»، وأنه ينبغي البحث عن وسائل «لا تكون لها تداعيات عكسية وسلبية» على الشعوب. منذ تولّي كوربين رئاسة الحزب، طُرحت التساءلات حول مستقبل الحزب في ظل قيادته «غير التقليدية»، وشكك الكثيرون في قدرته على الفوز في الانتخابات العامة وتشكيل حكومة. وبالرغم من وصف بلير لانتخاب كوربين بـ«الانتحار»، الأخير أعاد إنعاش الحزب على المستوى الشعبي، وشكّل ظاهرة كسرت النمطية السياسية التي تحكم البلاد منذ السبعينيات والثمانينيات.

غسان ديبة - الاخبار

 

"الولايات المتحدة الاوروبية في ظل الرأسمالية هي إما مستحيلة أو رجعية" لينين

إن الحلم الاوروبي، خلافا لما يعتقد الكثيرون، لم يخلق بعد الحرب العالمية الثانية مع افكار روبرت شومان التي تجلت اولاً في معاهدة تشكيل مجموعة الفولاذ والفحم في عام 1950، والتي انبثق منها شيئا فشيئا في نهاية الامر الاتحاد الاوروبي.

ان الحلم بأوروبا واحدة يعود الى القرن التاسع عشر، وراود، في فترة معينة، حتى البلاشفة على شفير الحرب العالمية الاولى، إذ كانوا مقتنعين بفكرة الولايات المتحدة الجمهورية الاوروبية. وكلما استشرف البلاشفة المستقبل رأوا ان الاشتراكية الموحدة للشعوب ستكون هي التي توحد اوروبا. في كتابه "من النيب الى الاشتراكية"، في عام 1921، تخيل الاقتصادي الروسي اللامع، وصاحب نظرية التراكم الاشتراكي الاولي، يفغيني بريوبرجنسكي سلسلة محاضرات تبث على الراديو من قاعة المحاضرات في موسكو الى اماكن اخرى في روسيا في عام 1970. والمحاضرة الاخيرة تتحدث عن قيام اوروبا السوفياتية، حيث تؤدي روسيا دورا خلفيا بسبب التقدم الاقتصادي والتكنولوجي لدول مثل المانيا. ان هذا الكتاب يعكس ليس فقط تصور البلاشفة لما كانت ستكونه اوروبا في ذلك التاريخ، بل يعكس كم ان الماركسيين تخيلوا استخدام التكنولوجيا في استشراف لبث المحاضرات اليوم على اليوتيوب. هذا كان حلم البلاشفة بأوروبا اشتراكية شبيهة بما يدعو اليه اليسار الاوروبي اليوم بـ "اوروبا اجتماعية"، لا اوروبا موحدة في حد ذاتها. ولينين، بحلول عام 1915، عندما بدأت الدول الامبريالية الاوروبية تطحن خيرة ابنائها في اتون الحرب الكبرى، كتب في ما يشبه التنبؤ بأزمة الاتحاد الأوروبي اليوم "إن الولايات المتحدة الاوروبية في ظل الرأسمالية هي اما مستحيلة او رجعية". اوروبا اليوم لم يضرب مشروعها الموحد الإستفتاء في بريطانيا فقط، بل ضربتها فعليا السياسات التقشفية والمعادية للديمقراطية وللعمال التي اتبعها الاتحاد ومؤسسات اليورو، والتي تجلت في اوجها في الحرب الاقتصادية التي شنتها على اليونان الترويكا، التي مثّل الاتحاد الاوروبي احد اعمدتها بالاضافة الى البنك المركزي الاوروبي وصندوق النقد الدولي. فبعد ازمة عام 2008 تبين بوضوح كم ان اوروبا "رجعية" في ظل الرأسمال المالي والعابر للحدود، الذي كان احد تجلياته استدانة جنوب اوروبا من شمالها. والآن بعدما بدأت الشعوب الاوروبية من اليونان الى بريطانيا الى البرتغال وغيرها تأخذ زمام المبادرة في الانتفاضة على هذا النظام الاوروبي، بدأ المشروع الاوروبي يبدو "مستحيلا" كما قال لينين، وبدأ التدمير لأوروبا من الداخل.

في المملكة المتحدة كان الانقسام، إلى حد كبير، طبقيا. فشمال انكلترا الصناعي، على الرغم من ميوله الى حزب العمال الذي دعم حملة البقاء، صوّت مع الخروج، لأن مصالحه بدأت تتعارض مع مركز لندن المالي وحركة رأس المال الذي يفتش عن تعظيم الربح. في هذا الاطار، لدى حزب العمال البريطاني فرصة الآن للتوجه الى الطبقة العاملة البريطانية لحمل لوائها والذهاب اكثر فاكثر الى مشروع اشتراكي بريطاني. وقد احس اليمين العمالي، الذي يمثل ارث توني بلير، بهذا الاحتمال، فانتفض بمحاولة انقلابية على زعيمه الجديد جيريمي كوربين محاولا استعادة الحزب الى "الطريق الثالث" بدلا من استمرار توجهه نحو اليسار. والحجة التي يسوقها الانقلابيون هي المعزوفة القديمة التي اعتاد يسار الوسط وأتباع توني بلير وشرودر وغيرهم لعبها، وهي ان هدف اليسار المقدرة على الحكم، والآن المرحلة هي مرحلة تفاوض مع اوروبا، وبالتالي فإن الوصف الوظيفي (Job description) لرئيس حزب العمال تغير من مناضل الى مفاوض! إن هذا الموقف، المغلف بالتقنية، يمثّل محاولة اخيرة لبقايا البليريين لاستعادة السيطرة على الحزب، وهو لن ينطلي على احد ولن ينجح الانقلاب، لأن غالبية قواعد الحزب تدعم الخط اليساري الجديد لكوربين. اضافة الى هذه المحاولات السياسية المباشرة، هناك أيضا محاولات لتصوير الخروج وكأنه غلطة ارتكبها الناس في غفلة ونتيجة حماسة في غير محلها. والبعض يطالب بإعادة الاستفتاء بعدما عاد الناس الى رشدهم بسبب "الكارثة" التي حلّت بالاقتصاد البريطاني. اكثر التحليلات غرابة في هذا الاطار يتمحور حول "سيكولوجيا" الخروج البريطاني. اذ يقول احد أساتذة علم النفس ان الناس لديهم "نزعة تدميرية" يستقونها من عدم تمكنهم من السيطرة على المستقبل في حياتهم الشخصية، اضافة الى نوع من الشعور بالذنب من كونهم يتلقون "مساعدات" مادية عبر اليات الدعم واعادة التوزيع للاتحاد الاوروبي، وبالتالي ينتفضون على وضعهم "المزري" عبر عض اليد التي تطعمهم! الى جانب هذا التحليل الاكاديمي السيكولوجي الجماعي، غير المؤذي عامة، هناك خطر اليمين المتطرف الذي يحاول ان يجعل من هذا الخروج مطية لسياساته القومية والمعادية للاجانب واليسار. في مواجهة التفسيرات ومحاولات الاستغلال والبروباغندا التخويفية، علينا أن نؤكد مرة تلو الاخرى أنّ تفكك اوروبا جزء من مسار الأزمة الرأسمالية التي بدأت عام 2008، والتي انتجت هذه الحالة واعادت خلط الاوراق السياسية بعد عقود من سيطرة ثنائية يمين ويسار الوسط. في هذ الاطار، سيكون لدى اليسار الاوروبي الاجابة العصرية والتقدمية على الازمة ومفاعيلها عبر اعادة الروح لمشروع اوروبا اجتماعية؛ اوروبا العمال والموظفين والعمل اللائق حيث يعاد توزيع الثروة والدخل باتجاه تلبية حاجات المستقبل وحاجات الشباب الاوروبي، الذي يرزح الان تحت نظام ينتج البطالة واجور متدنية، ويرزح تحت تهديد خطر داهم من الرأسمال المتربص للقضاء على المكاسب الاجتماعية والاقتصادية التي تحققت في المئة سنة الماضية؛ هذه المكاسب التي جعلت من اوروبا منارة للتقدم والحضارة. ان اليسار الاوروبي مدعو اذا الى حمل هذه الراية التي تحقق الحلم الاوروبي الحقيقي بعيدا عن الكابوس الذي يعيشه الكثيرون اليوم، وحتى لا تخرج اوروبا من الوحدة الى الفاشية والقومية المتطرفة التي لم تنتج تاريخيا الا الحروب والمآسي.

الأكثر قراءة