رقَّاص السّاعة الكونيّ وأزمة «الانفجار العظيم»

  • بقلم  -إريك ليرنر تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان
  • قراءة 516 مرات
رقَّاص السّاعة الكونيّ وأزمة «الانفجار العظيم»
20 Apr
2020

المصدر:جريدة قاسيون

منذ أواخر القرن العشرين قال علماء كستيفن هوكينغ Stephen Hawking بأنّ «نظرية كلّ شيء» صارت بمتناولهم؛ مجموعة بعينها من المعادلات تفسّر كل ظواهر الطبيعة.لكن نظرية ثورية جديدة نشأت بلا ضجيج، قد تطيح بالعديد من الأفكار السائدة اليوم، وتدمج الصالح في القديم ضمن تركيب جديد. إنها «علم كونيّات البلازما» Plasma Cosmology التي تستند على دراسة «البلازمات» كالغازات الناقلة كهربائياً. تطورت على أيدي قلة من علماء الفيزياء والفلكيين، وأبرزهم السويدي هانس ألـﭭين Hannes Alfven [1908 – 1995 الذي بدأ كمهندس كهرباء ونال جائزة نوبل للفيزياء 1970 لعمله على الهيدروديناميك المغناطيسي – المُعَرِّب].ملخَّص «الانفجار العظيم»تقول فرضية «الانفجار العظيم» The Big Bang إنّ الكون نشأ من انفجار هائل منذ 10 أو 20 مليار ملياراً سنة. وتنطلق من مقدّمتين: 1- كان الكون أصغر من رأس الدبوس. 2- وكانت هناك بدايةٌ للزمان. وراجت منذ الخمسينيات والستينيات... ومع ذلك، في السنوات الماضية، كانت ملاحظة تجريبية تلو الأخرى تناقض توقعات هذه الفرضية، بل وكانت أكثر اتّساقاً وانسجاماً مع النظريات الجديدة. فبدل كونٍ منتهٍ في الزمن، ويتهافت من بداية ملتهبة إلى نهاية غبارية عاتمة، فإنّ الكون موجود منذ الأزل وإلى الأبد بلا بداية ولا نهاية، ويتطوّر باستمرار (ص63 – 65).بعض علماء الكونيّات، مثل: ستيفن هوكينغ، قدّموا إجابات تأمّلية غريبة مفادها: ربما كانت بعض النبضات الصغيرة جداً في المكان من حولنا، وحتى داخلنا، تقوم بكل لحظة بتوليد أكوان تحت مجهرية، فقاعات دقيقة من الزمكان [الزمان-المكان] تنخمص منفلتة من كوننا لتشكل كوناً آخر، ومن كلّ نقطة، وحتى من أرنبة أنف شخص ما، فإنّ ترليونات الترليونات من الأكوان تتشكل كل ثانية. ويبدو غريباً تجاهل أنصارها للملاحظات التجريبية التي تنسف أساس هذا البُرج من الأوهام النظرية.بالمقابل، تنطلق كونيّات البلازما من أننا نتعلّم عن الكون بالملاحظة التجريبية للعمليات الفاعلة بالطبيعة اليوم. ومن الأنماط التي نميّزها نستطيع استنتاج تعميمات تسمح لنا بتخمين كيف أدّت هذه العمليات نفسها إلى التكوينات الكونية الحالية. لا شيء يأتي من العدم، هذا المبدأ صحيح دوماً.هذان الاتجاهان في معرفة الكون ليسا جديدين. فالأفكار الكامنة تحت كلٍّ من «الانفجار العظيم» وكونيّات البلازما، لا تعود جذورها إلى القرن العشرين، ولا حتى إلى الألفية الثانية، بل إلى عصر الإغريق (في القرون 4 – 6 قبل الميلاد) وروما (القرن 4 بعد الميلاد)، وإلى تصارع هذين الاتجاهين، اللذين كان كلٌّ منهما يسود لفترة ما (ص 55).قانون النوَّاس الكونيّأطلقَ هانس ألـفين على تناوُب هذين الاتجاهين العريضين اسم «النوَّاس الكونيّ» cosmological pendulum، أي الاهتزاز التاريخي المتناوب بين الاتجاه الميثولوجي (الأسطوري) والاتجاه العِلميّ. بالنسبة لألـﭭين، تستند الكونيّات اليوم على الآراء الأسطوريّة نفسها للفلكيّين في القرون الوسطى، وليس على التقاليد العلمية لكيبلر وغاليليو. لكنّ هذا النوّاس لا يتأرجح فقط في المطالات الأثيريّة للأفكار المحضة. فلطالما كانت الكيفية التي ينظر بها الناس إلى الكون، ومنذ غابر الأزمان، متلازمةً مع الكيفية التي ينظرون بها إلى المجتمع وحاجاته. ولطالما كان الناس يسقطون أفكارَهم الاجتماعية على الكون، ويستخدمون كونيّاتهم، أفكارَهُم عن السماء، لتبرير ممارساتِهم على الأرض. ولطالما ارتبطت المعارك بين هاتين الرؤيتَين للكون بأكثر المسائل الحاسمة في المجتمع والتاريخ: هل التقدُّم، والتحسين المستمرّ لحياة البشر، ممكن؟ هل يجب أن يكون هناكَ حُكّامٌ ومحكومون، أم، بدلاً من ذلك، ينبغي على العمّال أن يقرِّروا ما الذي ينبغي فِعلُه؟ في العصور الوسطى، مثلاً، استُخدِمَت التراتبية الهرميّة للكرات السماويّة لنموذج بطليموس، لتبرير التراتبية الهرمية للمَلِك، والنبلاء، والكهنة، والعامّة. وفي القرن السابع عشر استخدمَ المناضلون من أجل الديمقراطية منظومةَ كوبرنيكوس كنموذج لمُثُل المساواة التي نادوا بها تحت القانون الكونيّ (ص56).إنّ أسطورةً كونيّة كهذه تنشأ في فترات من الأزمة الاجتماعية أو التراجع الاجتماعي، وتعزِّز الفصل بين الفكر والفِعل، بين الحاكم والمحكوم. إنّها تولِّد التشاؤم الجَبْريّ الذي يشلُّ المجتمع [الجَبْريَّة fatalism: اتجاه فلسفي يَعتبر الطبيعة والمجتمع مُسيَّران بشكلٍ مطلق بلا إمكانيات أو خيارات – المعرِّب].بالمقابل، تعتمد كونيّات البلازما على التجربة، وهي نتاج المنهج العلمي لغاليليو وكيبلر. وأنصارها يتصوّرون كوناً لا نهائياً يتطوّر عبر زمانٍ لا نهائي. ويمكن دراسته فقط بواسطة الملاحظة التجريبية. هذه الرؤية التي تربط الفكر والفعل معاً، النظرية والملاحظة التجريبية معاً، قد أثبتت عبر العصور أنّها سلاحٌ للتغيير الاجتماعي. ففكرة التقدُّم في الكون لطالما ارتبطت دائماً بفكرة التقدم الاجتماعي على الأرض.إنّ هذا التاريخ إذن، يشمل أكثر من تاريخ علم الكونيات، أو حتى العلم نفسه. إحدى الثيمات الأساسية التي نطرحها هنا (والتي ليست جديدةً أصلاً) هي أنّ العلم مرتبطٌ بشكل وثيق بالمجتمع. هذا التفاعل المتبادل لا يقتصر على عالَم الأفكار. إنّ البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لها تأثير كبير على كيف يفكّر الناس.موجز لتاريخ الكونيّاتنشأت المفاهيم الأساسية لكل من المنهجين التجريبي والاستنتاجي في العلم عند قدامى الإغريق، وارتبطا بالصراع بين العمل الحرّ والعمل العبودي. المنهج الاستنتاجي البحت الذي لم يُقِمْ اعتباراً للملاحظة التجريبية والتطبيق العملي للعلم، نشأ مع الاحتقار الذي كان يكنّه أسيادُ العبيد للعمل اليدوي، في حين استند النظام القائم على المنهج التجريبي على الحرفيّين الأحرار والتُجَّار، بالجمع بين النظرية والملاحظة التجريبية.وشبّه هانس آلفن تاريخ تطوّر الكونيات بحركة رقّاص الساعة. ففي النَّوبة الأولى من تأرجحه النَّوسَانيّ، سيطر المنهج الاستنتاجي، مؤدّياً لنموذج الكون السكوني (الستاتيكي) والمنتهي الذي قدّمه بطليموس. فالفكرة المركزية لعلم الكونيّات الحديث، أي نشوء الكون من العَدَم، جاءت إذاً، ليس من سِفرِ التكوين، بل من المعارك الأيديولوجية إبّان القرنين الثالث والرابع بعد الميلاد، أي مع تفكك المجتمع الروماني والتمهيد لتأسيس الإقطاعية. لقد قام الأب تيرتوليان والقدّيس أوغسطين بإدخال عقيدة الخَلْق من العَدَم كأساس لنظرةٍ عن العالَم تتميّز بدرجة عميقة من التشاؤمية والتسلُّطيّة، وعلى كونيّاتٍ شوَّهت كلّ تَوقٍ أرضيّ، وشجَبَت الوجودَ المادي بوصفه «خُلِقَ من لا شيء ويؤول إلى لا شيء»، ويتقوّض حتميّاً من بداية كاملة إلى نهاية مُشينَة. إنّ كونيّاتٍ كهذه كان من شأنها أنْ تخدم كتبريرٍ فلسفي وديني لمجتمعٍ متخشِّب ومُستَعْبَد.في النّوبة النّوسانيّة الطويلة التالية من تاريخ الكونيات – أي تلك القرون من الصراع الذي قاد إلى الثورة العلمية، صعد منهجٌ تجريبيّ جديد وأكثر عمقاً، سائراً يداً بيد مع صعود رؤية جديد للكون (كونٍ غير منتهٍ في المكان والزمان، بلا بداية ولا نهاية) مع صعود مجتمعٍ جديد قائم على العمل الحرّ. بحلول منتصف القرن التاسع عشر، كانت النظرة العلمية ترى الكون كعملية تطوّرٍ لا تنتهي، مثلما كان الثوريون في القرنين 18 و19 يشهدون عمليةً لا تنتهي من التطوّر والتقدّم الاجتماعي.يشكل «الانفجار العظيم» وكونيّات القرن العشرين رجعةً مُفزِعةً لمفاهيم القرون الوسطى. فالأزمة الاجتماعية العميقة للقرن العشرين أعادت الإيمان بالنظرة الفلسفية عن كونٍ يتداعى ويتقوَّض من أصوله «الكاملة» التي نشأ منها. من هذه المقدّمات الفلسفية، وليس من الملاحظة التجريبية، تطوَّرَت الكونيّات السائدة حالياً.أمّا علم كونيّات البلازما، فقد نما من الدراسة المخبرية للغازات الناقلة، وتعود جذوره إلى التكنولوجيات المتقدّمة في الكهرومغناطيسية... الكون، كأيّة منظومة معقَّدة، يتقدّم فقط عبر سلسلة من الأزمات نتائجُها ليست مقرَّرة سلفاً، وقد تؤدّي على أمدية قصيرة إمّا إلى خطوات جديدة للأمام أو إلى نكوصٍ للوراء. أمّا التقدُّم، وتسارع التطوُّر الارتقائي، فهو نزوعٌ طويل الأمد يتّسم به الكون، ولكنّه بعيدٌ عن أن يكون عمليةً انسيابية وميكانيكية.

الأكثر قراءة