خالد صاغية
لم تفاجئ الثورات العربيّة السلطات وحسب، بل المعارضات أيضاً. فقد اندلعت تلك الثورات من أفراد لا «تمون» المعارضات عليهم، ومن مناطق طرفيّة أهملتها المعارضات كما أهملتها الأنظمة. وهذا ما جعل العثور على ناطقين باسم المحتجّين متعذّراً، فصعّب أيّ مفاوضات مع النظام. لكنّ هذا ما جعل أيضاً البدائل من النظام غامضة ومفتوحة على احتمالات متعدّدة. ولعلّ هذا الغموض سبب رئيسيّ في الخوف من المستقبل بعد زوال الأنظمة الحاليّة. وهو خوف عرفت الأنظمة كيف تستغلّه بالتركيز على «الخطر» الإسلامي. إلا أنّ ثمّة من يتجاوز هذه المسألة ليرسم صورة قاتمة عن مستقبل الديموقراطيّة في العالم العربي، معتبراً أنّ الجيش هو القوّة الوحيدة القابلة للإمساك بزمام السلطة بعد انهيار الأنظمة، وهو إمساك قد يكون مباشراً أو غير مباشر، وعلى الأرجح بالتنسيق مع الإدارة الأميركيّة.لا شكّ في أنّ الجيش المنظّم، حيث يوجد جيش كهذا، سيعمل على إيجاد مخارج تحفظ امتيازاته ومصالحه، خصوصاً في البلدان التي يؤدي فيها دوراً أساسيّاً في انتصار الثورة عبر «إقناع» الزعيم بالرحيل. لكنّ الجيش لن يكون بأيّة حال وحيداً على الساحة السياسيّة. ومرّة أخرى، يمكن المرء أن يلتفت إلى مصر حيث كان للضابط «الواقف ورا عمر سليمان» دور حاسم في الرحيل السريع نسبيّاً، والسلميّ نسبيّاً، لحسني مبارك. ورغم ذلك، ورغم أنّه لا مجال للمقارنة بين الجيش المصري والجيوش الأخرى في المنطقة، لم يستطع الجيش المصري التصرّف كحاكم مطلق لمصر من أجل إعادة إنتاج النظام السابق في حلّة جديدة. لا يعود ذلك إلى انعدام شهيّة الجيش على السلطة، بل إلى عدم قدرته على تحقيق هذه الشهيّة. فإضافة إلى قلّة الحكمة التي تقوده إلى اتّخاذ قرارات غير شعبيّة، فإنّه يفتقد القدرة على الدفاع عن قرارات كهذه. فقد اضطرّ خلال الشهرين الأخيرين إلى التراجع عن قرارات كثيرة تحت ضغط شباب الثورة، حتّى إنّه ما إن كانت تصدر رائحة قرار يوم الاثنين حتّى يرفضه الشباب الثلاثاء ويدعوا للتظاهر الجمعة، فيُمحى القرار صباح الخميس.ومن المفيد الاطّلاع على البيان الرقم 56 للقوّات المسلّحة المصريّة، الذي صدر في 22 أيّار واستخدم لغة «العناصر المشبوهة» ممّا يعكس ضيق صدر الجيش باستمرار التظاهرات. فكان الردّ بالبيان الرقم 3 لثورة الغضب المصريّة الثانية. ثمّ صدر عن الجيش البيان الرقم 58 الذي يعيد تأكيد حق التظاهر السلمي، وذلك قبل أن يضطر إلى دعوة شباب الثورة إلى الحوار.«إيماناً من المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة باستمرار التواصل مع الشعب المصري العظيم وشباب الثورة»... هذه هي الجملة التي تفتتح بيانات الجيش المصري بعد نجاح الثورة. قد تكون جملة إنشائيّة وحسب، لكنّها جملة تعكس عدم قدرة الجيش على التخلّص من ضغط الشارع. لا يعني ذلك طبعاً عدم وجود سلوك قمعيّ ارتكب فظاعات منذ نجاح الثورة، لكنّه يعني أنّ تمادي هذا السلوك ليس قدَراً.