القطار في لبنان حلم يُستعاد كل حين. تعطيه الحكومات المتتالية بعضاً من الأوكسيجين عبر دراسات تثبت جدوى إعادة إحياء سكك الحديد، ثم ترمى في الأدراج. آخر تلك الدراسات أُنجز في العام ٢٠١٦، لكن حجة عدم توافر الاعتمادات أطاحت أي أمل بالتنفيذ. الحكومة الحالية لم تفترق عن سابقاتها. أبدت اهتمامها بمشاريع سكك الحديد، وتلقت بالفعل عروضاً تعبّر عن استعداد للتمويل. يبقى التنفيذ أيضاَ، لكن هذه المرة لا بد من الحسم. وجه لبنان الاقتصادي يتغيّر والقطار قادر على قيادة هذا التغيير
منذ مئتي عام ولدت السكك الحديدية والقطارات في العالم. ذلك الاختراع الذي كان شريان الحياة لعالم ما بعد الثورة الصناعية، وصل إلى ما بات يُعرف لاحقاً بلبنان الكبير في العام ١٨٩٥. تعايش مع سكان لبنان أيام العثمانيين وأيام الفرنسيين وأيام الاستقلال وأيام الحرب الأهلية، قبل أن يفرمله السلم الأهلي، فيسيّر رحلته الأخيرة في العام ١٩٩٥، منهياً مسيرة استمرت مئة عام. فترة التسعينيات التي توصف بمرحلة الإعمار، أول ما أطاحته هو الرابط بين الناس والمناطق والثقافات. انقطاع صلة الوصل هذه، أسهم سريعاً في تغيير نمط الحياة. نزوح من كل حدب وصوب إلى العاصمة. أُهملت المناطق وأُهملت القطاعات الزراعية والصناعية، وصارت بيروت السياحة والخدمات والأرباح الريعية هدفاً للسلطة وإغراءً للساعين إلى أقصر الطرق نحو الثروة.
لم يعرف أحد لماذا قررت سلطة ما بعد الطائف إعادة لبنان إلى الوراء مئة عام. لكن هذا كان «الحلم». والحلم كان محصوراً في الاستثمارات السهلة، بغياب التنمية، بغياب القطار والمترو الذي كانت كل الدراسات تجد فيه بداية الإعمار، فيما كانت السلطة تجد فيه ما لا يتناسب مع حلم تحويل وسط بيروت إلى واحة للأغنياء فقط.منذ العام ١٩٩٥، لم تتوقف محاولات الجمعيات الأهلية، وأحياناً بعض من مرّ على السلطة، لإعادة إحياء القطار. لكن بدلاً منها كان الإسفلت يُفلش على سكة القطار، في سعي لاستيعاب الكميات المتضخمة من السيارات، بعد أن أصبح شراء السيارة والمنزل، حتى لمن لا قدرة مالية له، سهلاً ومتاحاً عبر الإغراءات التي تقدّمها المصارف.تلك الماكينة التي انطلقت في بداية التسعينيات توقّفت. المصارف أفلست. حلم الثراء سقط، بعدما تبيّن أن الدولة ومصرف لبنان كانا يحقنان الناس بمخدّر اسمه تثبيت سعر الصرف، يسمح لهم بحياة مليئة بالترف المصطنع. انتهت الكذبة، وتبيّن أن الشغل مش ماشي. عاد الناس للبحث عن ماضيهم، عن قراهم ومناطقهم وزراعتهم. ذلك قد يؤسّس لإصلاح في النظام الاقتصادي، وهذا تلزمه الأدوات. النقل العام الحقيقي إحدى هذه الأدوات. شبكة من الباصات تربط المناطق في ما بينها، والأهم عودة الزمن إلى الوراء قليلاً، إلى أيام سكة الحديد، التي تربط اللبنانيين بعضهم ببعض وتربط لبنان بمحيطه العربي، ومنه بأوروبا غرباً، وبآسيا وصولاً إلى الصين شرقاً.محاولات رسمية عديدة أجريت في هذا السياق، لكنّ أياً منها لم يتّسم بالجدية. في العام ٢٠١٤، قررت الحكومة دراسة إمكانية إعادة إحياء القطارات، على أن تكون البداية إنشاء سكّة بين بيروت وطرابلس. تكفّل الاتحاد الأوروبي، عبر البنك الأوروبي للتثمير، بتمويل الدراسة لخط سكة الحديد من بيروت إلى طرابلس بكلفة تصل إلى مليوني يورو. في المرحلة الأولى، أنجز الاستشاري الدولي شركة egiss الفرنسية دراسة الجدوى للخط، بالتعاون مع الاستشاري المحلي شركة «جيكوم». وفي المرحلة الثانية كان يفترض أن تجرى دراسة تنفيذية للقسم الممتد من بيروت إلى طبرجا، لكنها لم تستكمل.
وزير الأشغال: اهتمام صيني بتنفيذ وتمويل أي مشروع سكك حديدخلاصة دراسة الجدوى أن لعودة القطار فوائد اقتصادية واجتماعية كبيرة. وبالتالي، لا نقاش في الجدوى منه، لكن يبقى البحث في الخط الذي سيسلكه، وفي حجم التعديات على حرمه خلال السنوات الثلاثين السابقة.الخبر المفرح، الذي سبق أن أعلنه وزير الأشغال السابق يوسف فنيانوس، أن لا تعديات جوهرية على السكة. كذلك، فإن الدراسة التي أعدّتها شركة «جيكوم» بيّنت أن لا تعديات من النوع الذي لا يمكن إزالته أو يشكّل عائقاً أمام تنفيذ المشروع. واللافت أيضاً أن المتعدّي الأكبر هو الدولة، ممثلة بوزارة الأشغال، إذ إن معظم التعديات هي عبارة عن طرقات استحدثت على مسار السكّة، والعيّنة الأبرز عنها هي الطريق البحرية، الممتدة من المرفأ حتى ضبية. لكن المشكلة أن هذه التعديات أسّست لأبنية وأشغال محاذية للطرقات، وهي أبنية بالرغم من تصنيفها أنها غير معتدية على حرم السكة، إلا أنها أعطيت خلافاً للقانون حق الدخول والخروج إلى الحرم. مع ذلك، فإن الدراسة تلحظ حلولاً لكل المعوقات التي تواجه السكة، من بينها إنشاء جسور، أو تغيير مسارها في بعض المناطق، إضافة إلى لحظ تمرير السكة تحت الأرض في كل من جونيه وجبيل، مع استحداث نفق خاص في شكا.لم تنفذّ المرحلة الثانية من الدراسة لأن البنك الأوروبي فرمل اندفاعته، بعدما تقاطعت الدراسة مع دراسة أخرى كان أعدّها مجلس الإنماء والإعمار، بالتعاون مع البنك الدولي، لإنشاء خط باصات يصل بيروت بطبرجا. اقترح لبنان حينها استبدال المنطقة المقرر إجراء الدراسة التنفيذية لها، والبدء بالقسم الممتد من طبرجا إلى طرابلس بداية، على أن يتكامل المشروعان من خلال إنشاء محطة للربط بينهما في طبرجا. وفي وقت لاحق تُسكتمل دراسة الخط من طبرجا إلى بيروت. ونتيجة التفاوض، أبدى البنك الأوروبي للتثمير استعداده لاستكمال الدعم والمؤازرة اللازمتين للمشروع، لكنه ربط موافقته بمدى اهتمام الحكومة اللبنانية والتزامها بأن يكون هذا المشروع ضمن أولويات المشاريع المقترحة للتنفيذ وبالتالي التمويل.لم يحصل أي تطور منذ ذلك الحين، وتردّد أن البنك الأوروبي تراجع عن الهبة بسبب عدم اهتمام السلطات اللبنانية. أسدلت الستارة على المشروع لنحو سنتين، إلى أن ظهر الصينيون، فأبدوا، العام الماضي، اهتماماً بالاستثمار في شبكة القطارات، تمويلاً وتشغيلاً. لكن الدخول في نفق الأزمة المالية وتأليف الحكومة أعاد الأمور إلى النقطة الصفر، قبل أن تتبين إعادة تحريك الملف، عبر تحديث العرض الصيني المقدم إلى لبنان، إذ راسلت شركة CMEC رئيس الحكومة حسان دياب، في ١٦ آذار الماضي، معلنة اهتمامها بمشروع سكة الحديد من طرابلس إلى بيروت، وبأي مشاريع سكك حديد أخرى، موضحة أنها سبق أن أنجزت مشاريع في ٦٣ دولة، آخرها سكة حديد في الأرجنتين بطول ٢٤٠٠ كيلو متر. وقد ترافق هذا العرض مع كتاب من بنك الصين يبدي فيه استعداده لتمويل المشروع.وزير الأشغال ميشال نجار أكد لـ«الأخبار» أن الصين «أبدت رغبة في تنفيذ أي مشروع عن طريق BOT أو حتى تمويل مشاريع، خاصة النفق بين مرفأ بيروت والبقاع». وهو المشروع الذي أقرّ بموجب القانون الرقم ١٧٤، تاريخ ٨ أيار ٢٠٢٠، الذي يجيز للحكومة اللبنانية إنجاز نفق بين بيروت والبقاع على طريقة BOT أو بالشراكة مع القطاع الخاص وتقديم مشروع متكامل عن خطة المشروع ومراحل تنفيذه وتكاليفه ضمن مهلة ستة أشهر من تاريخ نفاذ القانون المذكور». إضافة إلى خطّي بيروت - طرابلس وبيروت - البقاع، أنجزت الدراسات اللازمة لإعادة إحياء خط طرابلس - الحدود اللبنانية السورية (العبودية).