«عندما يُفكّر الناس في الضرر الذي تُسبّبه الدول الغنية - التي تقودها الولايات المتحدة وحلفاؤها عادةً - لأشخاص آخرين في العالم، ربما سيُفكّرون في الحرب. لكن الدول الغنية لديها أيضاً سلطة كبيرة على حياة مليارات البشر، من خلال سيطرتها على مؤسسات عالمية، كصندوق النقد الدولي». هذا الموقف ورد في مقال نُشر في «الغارديان» البريطانية، في 27 تموز 2019. الحديث هنا عن صندوق النقد الدولي، المؤسّسة التي تضمّ 189 عضواً فيها، تُهيمن عليها خمس دول: الولايات المتحدة (16.74%)، اليابان (6.23%)، ألمانيا (5.81%)، فرنسا (4.29%) وبريطانيا (4.29%). «فيتو» من واشنطن وحدها كفيل بإلغاء أي قرار. ما تُسلّط «الغارديان» الضوء عليه، أنّ من غير المُمكن التعامل مع المؤسسات العالمية، بمعزل عن الصراعات الجيو-سياسية، والتصرّف وكأنّ «المال» أو «الثقافة» أو «الإنسانية» أمور مُنفصلة عن السياسة. ولمزيد من الشرح، يُقارن مقال «الغارديان» بين الإكوادور والولايات المتحدة الأميركية. البلد اللاتيني وقّع العام الماضي اتفاقية مع صندوق النقد لاقتراض 4.2 مليارات دولار على مدى ثلاث سنوات، «شرط طرد موظفي القطاع العام ورفع الضرائب بشكل يُضرّ بالفقراء وتخفيض الاستثمار العام، وتقليص الميزانية بنسبة 6% من الناتج المحلي الإجمالي طيلة فترة البرنامج... هل تتخيّل تقليص الميزانية الأميركية بمقدار 1.4 تريليون دولار؟». يُهدّد البرنامج نسف «عقد سابق من الإصلاحات السياسية». ولكن المشكلة في الإكوادور أنّ «الحكومة السابقة كانت يسارية ومُستقلة عن الولايات المتحدة. الآن، تكتسب إدارة دونالد ترامب قوّة هائلة في الإكوادور، عبر قرض صندوق النقد، وقرض بقيمة 6 مليارات دولار من مؤسسات متعددة الأطراف مقرها واشنطن».
سياسات الصندوق سبّبت نتائج عكسية للاقتصادات ومُدمّرة للسكان
قبل أيام، أعلنت الحكومة اللبنانية طلب برنامج مع صندوق النقد الدولي. يجري تصوير الخطوة على أنّها «الخلاص المُنتظر»، الذي سينتشل البلد من عجزه، ويُعيد تفعيل الحركة الاقتصادية، ويُغرق البلاد بالاستثمارات... «الغرق» حاصل فعلاً، ولكن بسبب الشروط التي سيفرضها «الصندوق» ولن يكون للحكومة «ترف» المفاوضة بشأنها. فحين تعلق السمكة في الصنّارة، تُصبح عودتها إلى المياه رهنا بالصيّاد: إما يُطلقها أو يرميها في سلّته.يقول الاقتصادي الأميركي، جوزف ستيجلز، إنّ «الإصلاحات الاقتصادية التي يطلبها صندوق النقد كشروط ليُقدّم القروض، تسبّبت في كثير من الأحيان بنتائج عكسية للاقتصادات ومُدمّرة للسكان». في ما يأتي تجارب الأرجنتين، واليونان، ومصر، والأردن، وتونس مع المؤسسة الدولية. الأرجنتين: مقامرة سياسية ضخمةالأرجنتين هي واحدة من الدول الأعضاء في مجموعة العشرين (منتدى يُمثّل أكبر 20 اقتصاداً في العالم، وتستحوذ دوله على ثلثي التجارة العالمية وأكثر من 90% من الناتج العالمي)، وتُعدّ ثالث أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية... ومن «الأشهر» على مستوى الأزمات الاقتصادية. منذ العام 2001، يُعاني الاقتصاد الأرجنتيني من عجز وانكماش وتفاقم مُعدّلات الفقر وتجاوز معدّلات التضخم عتبة الـ50%. اللافت أن يكون صندوق النقد الدولي «مُواكباً» للأرجنتين خلال كلّ هذه السنوات، ويستمر في إغراقها بالديون من دون أن تظهر أي نتيجة إيجابية لعمله. فمشوار صندوق النقد في البلد اللاتيني، يعود إلى العام 1999، مع تبنّي خيار الخصخصة في قطاعات البترول والاتصالات والطاقة، والموافقة على كلّ «الأوامر». أما «مُساعدته» الأضخم، فكانت سنة 2018 يوم وافق الرئيس الأرجنتيني موريسيو ماكري، والذي يوصف بأنّه «صديق الأسواق المالية والمستثمرين»، على قبول قرض بقيمة 57 مليار دولار، أخذت منه الحكومة 44 مليار دولار، قبل أن تُعلن عدم قدرتها على إيفاء الدين. «مُقامرة سياسية ضخمة»، اعتُبر قرار ماكري. أما فرانسيس كوبولا، فكتبت في «فوربس» مقالاً بعنوان: «صندوق النقد لم يتعلّم أي شيء من الأزمة اليونانية». ردّ الفعل المُعارض تبلور لأنّ الاقتصاد الأرجنتيني تدهور بسرعة كبيرة بمُجرّد المُباشرة في تطبيق البرنامج الأخير مع صندوق النقد، «وكانت المرّة الأخيرة التي شهدنا تدهوراً على هذا النحو، في اليونان سنة 2012»، بحسب كوبولا. استمر صندوق النقد في إقراض بلد غير قادرٍ على تسديد ديونه ويُعاني من الركود (الهبوط في النموّ). ارتفع الدين العام من 241 مليار دولار إلى 321 مليار دولار، وبات يُشكّل في الـ2019 أكثر من 90% من الناتج المحلي، بالتزامن مع انخفاض حادّ في قيمة العملة، فضلاً عن خروج رؤوس الأموال الأجنبية من البلد. فرضت الأرجنتين إجراءات تقشفية، مثل تخفيف الدعم على الكهرباء والمياه وزيادة الضرائب. ارتفع معدّل الفقر من 29% إلى 35%، وارتفعت الأسعار بمعدّل 5% كلّ شهر، وبالتالي انخفضت القدرة الشرائية لعدد هائل من المواطنين.اليونان: برنامج سبّب البؤسفي نيسان 2016، نشر موقع «ويكيليكس» وثيقة تتضمّن محادثة بين رئيسة بعثة صندوق النقد إلى اليونان ديليا فيلكوليسكو، ومدير الإدارة الأوروبية في الصندوق بول تومسن، وإيفا بيتروفا العاملة في الصندوق. كانوا يبحثون كيفية فرض تخفيف أعباء الديون اليونانية على جدول أعمال الدائنين الأوروبيين. بمعنى آخر، أراد هؤلاء التهديد بالخروج من صفقة إنقاذ اليونان التي كانت قيمتها تبلغ 86 مليار يورو، والتوقّف عن دفع المال، لإجبار «الترويكا» الأوروبية على تخفيض ديون أثينا. لماذا أراد صندوق النقد تعريض اليونان لخطر الإفلاس؟ حتى تتدخل الدول الأوروبية، فتُساعد أحد أعضاء منطقة اليورو، وتستمر اليونان في تسديد ديونها، ومن بينها القروض لصندوق النقد. أثارت الوثيقة يومها ضجّة داخل الحكومة اليونانية، التي اتّهمت «الصندوق» بمحاولة «زعزعة الاستقرار السياسي في أوروبا».وكشفت وثيقة «ويكيليكس» أيضاً أنّ رئيسة بعثة صندوق النقد إلى اليونان كانت «مُتفاجئة» من أنّ اليونان «استسلمت للإجراءات»، التي وصفها وزير المالية اليوناني، اقليدس تساكالوتوس بـ«القاسية»، وتضمنت الاقتطاع من المعاشات التقاعدية. تسبّب البرنامج بالبؤس للسكان، الذين خسر معظمهم ثلث رواتبهم، وارتفعت البطالة إلى نسبة 27.8 في الـ2014 قبل أن تنخفض حالياً إلى 16.4%، وبات يُغادر اليونان سنوياً 100.000 شخص منذ بدء الأزمة في الـ2010، وبلغت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 180.2% في نهاية الربع الثاني من العام الماضي، وباتت المصارف مُثقلة بالقروض غير المُسدّدة.مصر: «نجاح اقتصادي»... وارتفاع نسبة الفقراءفي تشرين الثاني 2016، وقّعت مصر اتفاقية دين مع صندوق النقد الدولي بقيمة 12 مليار دولار، حين كانت تُعاني من ارتفاع في عجز الحكومة والدين العام، وانخفاض الاحتياطي في العملة الأجنبية، وانخفاض معدل النمو الاقتصادي، واتساع الفارق بين أسواق العملات الرسمية وغير الرسمية. الاتفاقية لم تدخل حيّز التنفيذ قبل أن تُحرّر مصر سعر صرف الجنيه وتُخفّض الدعم للوقود والمواد الغذائية وتبيع أملاكاً للدولة وتفرض ضرائب جديدة. نفّذت مصر، بقيادة عبد الفتّاح السيسي، كلّ ما هو مطلوب منها. وعندما أراد «الصندوق» المزيد من التنازلات، أوقف الدفعة الخامسة من القرض، حتّى ألغت الحكومة كلّ الدعم لأسعار الطاقة. ما حصل أنّ تحرير سعر الصرف أدّى إلى ارتفاع كبير في التضخم (ارتفاع المستوى العام للأسعار لكافة السلع والخدمات)، ما أثّر على معيشة السكان. ارتفعت في الـ2016 أسعار الوقود المدعوم بنسبة تراوح بين 30 و 46.8%. وسنة 2017، رُفعت أسعار الدواء ما بين 15 و20%. ارتفعت الضريبة على القيمة المُضافة من 10% إلى 14%، مع استثناء بعض المنتجات الغذائية الأساسية، إضافة إلى خفض الإنفاق العام على الصحة والتعليم. تزامنت الإجراءات المصرية مع اكتشاف احتياطيات كبيرة من الغاز في البحر، إلا أنّ ذلك لم يؤثّر على مجمل الصادرات المصرية، وبالتالي لم يُسهم في خلق فرص العمل إلا في هذا القطاع.«من المثير للاهتمام كيف يتم ربط النجاح الاقتصادي في مصر بزيادة كبيرة لنسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر»، كما كتب الصحافي أمير خفاجي في موقع «Open Democracy» سنة 2019. فوفق مسح رسمي لدخل الأسرة والإنفاق والاستهلاك (HIECS)، ارتفعت نسبة الفقراء من 27.8% في الـ2015 إلى 32.5% في الـ2017. ولكن كيف نما الاقتصاد بمعدّل 4.2% سنوياً، ونما دخل الفرد بنسبة 2%، وانخفضت البطالة من 13.1% إلى 8.1% ما بين الـ2014 والـ2018؟ «الملايين من المصريين يتقاضون أقل من الحدّ الأدنى، والنمو يطال فئة الـ1% من السكان».الأردن: استمرار ارتفاع الدَّين الحكوميوافق صندوق النقد، في آب 2016، على منح الأردن قرضاً بقيمة 723 مليون دولار على ثلاث سنوات. إلا أنّه لم يكن القرض الأول، ولا التجربة «الفاشلة» الأولى. فمنذ الـ2012، لم تنجح القروض في خفض الدين الحكومي في الأردن، على الرغم من تشديد الإجراءات التقشفية. وحتى في 2017، بعد سنة من بدء البرنامج الجديد، قال مدير إدارة التواصل في صندوق النقد، جيري رايس إنّه «من أجل إنهاء الزيادة السريعة في الدين العام، يجب توسيع القاعدة الضريبية كجزء من إصلاح الإيرادات. لم نوصِ بالمنتجات التي يجب أن تخضع لضرائب أعلى، وأكّدنا عدم رفع أسعار السلع التي يستهلكها الفقراء». ولكن في العام 2018، اندلعت احتجاجات في البلد بسبب خفض الإنفاق الحكومي على الأمور الأساسية وارتفاع الأسعار والتعديلات على ضريبة الدخل. وفي تقرير التنمية في العالم 2019، ظهر تخفيض الحدّ الأدنى للأجور في الأردن، وعقود الساعة الصفر، مع تجاهل حقوق العمال الأساسية.على الرغم من ذلك، جرى تسويق الأردن كنموذج ناجح لصندوق النقد. في ورقة بحثية أعدّها كلّ من جين هاريجان وحامد السعيد وتشينغانغ وانغ، يظهر أنّ ذلك «مُبالغ فيه، وجرى اللجوء إليه لتبرير استمرار الدفع للأردن»، مُلمّحين إلى أنّ للأمر علاقة بالتحالف مع الولايات المتحدة الأميركية. فالأرقام التي استُخدمت في الدراسة لم تكن موثوقة، والأردن لم يلتزم بـ«الإصلاحات المُوجّهة»، وتقييم البرنامج «استند إلى نتيجة النمو وليس إلى مصدر النمو، الذي لم يترافق مع تحسينات إنتاجية كبيرة وتركّز في قطاع واحد، ما يُثير تساؤلات بشأن الاستدامة الطويلة الأجل لنتائج النموّ».تونس: برنامج «الصندوق» في خدمة «الفساد»تملك تونس تاريخاً طويلاً مع صندوق النقد الدولي. فبين عامَي 1987 و2001، وقّع صندوق النقد 9 اتفاقيات قروض مع تونس، من دون أن يشهد البلد النمو المطلوب. على العكس من ذلك، أدّت سياسة الخصخصة والتقشّف إلى تفاقم «بؤس السكّان» عبر غياب خطط للحماية الاجتماعية، وتعطيل تنمية القطاعات الإنتاجية، وبالتالي خلق فرص العمل. كانت النتيجة، يومها، ارتفاع مستوى «الفساد» وتركّز الثروة في يد المُقربين من الرئيس السابق زين العابدين بن علي.في الـ 2013، جرى توقيع قرض جديد بقيمة 1.74 مليار دولار. ارتفاع كلفة المعيشة، وفرض ضرائب جديدة، مع خفض الدعم المُقدّم للسكّان، أدّت إلى اندلاع احتجاجات شعبية. فمنذ تقديم البرنامج، ارتفع متوسط التضخم أكثر من 6%، وأسعار المواد الغذائية 10%، وأسعار الكهرباء والغاز المنزلي 10%. استمرت «الزيادات» في الـ 2014 لتشمل الضرائب على المركبات، ما أثّر بشكل مباشر على سائقي سيارات الأجرة والمزارعين. اتجهت تونس إلى خصخصة ما تبقى من أملاك الدولة، وحرّرت الأسواق المالية، وانخفضت قيمة العملة، وخفّضت الإنفاق الحكومي. ثم انطلقت في الـ 2016 للاقتراض مُجدّداً من صندوق النقد، طالبة 2.8 مليار دولار أميركي على أربع سنوات. حصلت تونس على 320 مليون دولار في الدفعة الاولى، فيما جُمّدت الدفعة الثانية (350 مليون دولار) بسبب عدم اتخاذ إجراءات إضافية في ما خصّ إلغاء ما يصل إلى 20 ألف وظيفة في القطاع العام، وبيع حصص في البنوك التجارية، وزيادة الضرائب، ما دفع الاتحاد النقابي الدولي إلى القول بأنّ «الإملاءات الأيديولوجية لصندوق النقد ستُلقي بالآلاف في براثن الفقر».الجزائر: نكره الاقتراض من الأجانبالجزائر من الحالات القليلة في العالم، العربي تحديداً. قبل أيام قليلة، أعلن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أنّ بلاده لن تطلب قرضاً من صندوق النقد الدولي، على الرغم من الأزمة المالية التي نجمت عن انهيار أسعار النفط العالمية وإغلاق البلاد بسبب وباء «كوفيد - 19». وأعلن خلال لقاء مع وسائل الإعلام الجزائرية أنّ «تراكم الديون يضرّ بالسيادة الوطنية. الجزائر تُفضّل الاقتراض من مواطنيها بدلاً من صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي»، مُذكّراً بالديون الثقيلة التي حملتها الجزائر في التسعينيات بسبب برنامج مع صندوق النقد، ومُعرباً عن رفضه الاقتراض من البنوك الأجنبية، لأنّ ذلك «سيمنع الجزائر من توضيح موقفها بشأن قضايا، من بينها مصير الفلسطينيين والصحراء الغربية».