طارت الـ«هيركات» قبل أن تصبح اقتراحاً. غالبية «الطبقة الحاكمة» تكفّلت بالقضاء عليه. ثم صار الحديث عن بيع الدولة أكثر جرأة. الذريعة هي ببساطة أن الدولة هي التي تتحمّل أغلبية الدين، وهي التي يُفترض أن تتحمل جزءاً من المسؤولية. هنا ليس مهماً من أدار دفة الدولة وأفرط في انتهاك ماليتها، الأهم أن هؤلاء منتخبون، وإعادة انتخابهم صكّ براءة لهم
رغم أن مسودة الخطة الحكومية لمعالجة خسائر الدولة لم تتضمّن صراحة اقتراح «قص الودائع» (هيركات)، إلا أن هذا الاقتراح سقط بالضربة القاضية. التيار الوطني الحر والحزب الاشتراكي وتيار المستقبل وحركة أمل عطلوا مفعوله قبل وصوله إلى المهد، ثم أتى الحرم الديني ليقضي عليه. لم يكن ينقص سوى دار الفتوى، الذي دبّج سيدها بياناً، وصل فيه إلى اتهام السلطة بشن حرب اقتصادية «لسلب أموال الناس بالباطل من المصارف».
ليس رئيس الجمهورية بعيداً عن التوجه المعارض للهيركات. مصادر بعبدا عمّمت أمس أنه ليس في وارد القبول بهذه الخطوة. وقالت إنه أبلغ المعنيين بموقفه هذا منذ فترة، لكنه لا يدخل في الجدال القائم حولها، خصوصاً أن الموضوع لم تطرحه الحكومة ولم تقدم أي اقتراح بشأنه.لا «قصّ شعر» للودائع إذاً. وبالتالي، فإن النقاش سيفتح مجدداً في آلية الوصول إلى تسديد الخسائر التي تقدرها الخطة بـ83 مليار دولار، لكن ذلك لا يعفي أن لكل من المعترضين حساباته وأسبابه لرفض «مساهمة المودعين». المزحة السمجة هي في الإشارة إلى أن المطلوب أولاً استعادة الأموال المنهوبة. تلك نغمة يكثر سماعها على لسان الناهبين أنفسهم، وهؤلاء يدركون أن ما من قوة ستحاسبهم، وما من قوة ستسحب منهم ما راكموه من ثروات على مدى سنوات طويلة من الهدر والسرقة، وإن ينص اقتراح الحكومة على التدقيق في حسابات مشبوهة لموظفين.كان المطلوب ضريبة على الثروة لمرة واحدة. وتلك الضريبة ليست اختراعاً لبنانياً، وبالتالي فإن اللجوء إليها في حالة الإفلاس قد يكون أكثر من ضروري، في بلد لطالما أعفى الأغنياء من الضريبة العادلة على الدخل، وأمّن لهم كل أدوات التهرب الضريبي، وأولاها السرية المصرفية.لم يناقش أحد في تفاصيل هذه الضريبة، أو الفئة التي يجب أن تشملها. قد يعترض البعض على تخفيض السقف إلى 100 ألف دولار، وقد يطلب البعض أن تطال من يملكون ما فوق مليون أو 10 ملايين دولار، لكن النقاش انتهى عند حدود الحق المقدس في الملكية. ما الحل إذاً؟ الكل يدور حول أملاك الدولة. بيع الدولة هو «حلهم الوحيد» الذي ينقذ مصرف لبنان وأصحاب المصارف والمودعين الكبار، الذين هم في الغالب سياسيون أو نافذون بين السياسيين وشركائهم وواجهاتهم وأقاربهم. والحل أيضاً هو تحجيم القطاع العام.مبرر «الحقد» على الدولة من أصحاب الدولة أنها هي التي تسببت في وصول المديونية إلى ما يقارب ١٠٠ مليار دولار. والدولة هنا ليست سوى السلطة، التي كانت تحفر قبر البلد بيديها. مجلس الوزراء يقدم مشاريع قوانين موازنة بعجز كبير، ومجلس النواب يصدّق. والكل يدرك من أين يسدد العجز. من الاستدانة. وهنا مصرف لبنان لم يكن يعترض، كما فعل عندما انهار الهيكل. يموّل العجز عبر هندسات تدرّ المليارات على أصحاب المصارف من جهة، ثم يعود فيؤكد متانة العملة من جهة أخرى. وبذلك، كانت السلطة السياسية تستدين لتبذّر وتهدر وتسرق، والسلطة النقدية تؤمن لها كل ما يلزم للقيام بذلك، فيما المصارف تقامر بأموال المودعين، عبر الموافقة على حصر غالبية «استثماراتها» في الدين العام.يختصر أحد النواب المتمولين الموقف بالتالي: لا يمكن للحكومة أن تكتفي بالإشارة إلى أنها لم تطل في خطتها ٩٠ في المئة من المودعين، ثم تتجاهل أن الـ10 في المئة الباقين يشكلون الاقتصاد والاغتراب ويدخلون الدولارات إلى البلد ويبنون المشاريع. يضيف: هؤلاء لا يمكن مخاطبتهم على طريقة أموالكم لم تعد لكم من ناحية، ثم نطلب منهم من الناحية الأخرى أن يسهموا في عملية الإنقاذ. من سيكون مستعداً لتحويل الأموال مجدداً إلى لبنان، يسأل. لذلك يعتبر أنه قبل الحديث عن الخسائر وكيفية تسديدها، يجب الإضاءة على كيفية الوصول إلى الوضع الراهن والعمل على عدم تكراره.
الحديث يزداد عن ضرورة توزيع المسؤوليات والخسائر بشكل عادل. وهنا، لا يكفي أن تدفع المصارف 20 مليار دولار من رأسمالها، ربما ينبغي أن يفرض على أصحابها الذين ثبت سوء إدارتهم لأموال الناس، أن يسهموا من أموالهم الخاصة.يوضح نائب اقتصادي أنه عندما تخلفت الحكومة عن الدفع وعدت بإصلاحات، أين أصبحت هذه الإصلاحات؟ وعلى سبيل المثال، ما فائدة أي عملية قص للودائع، إذا بقي مزراب الكهرباء مفتوحاً؟ ألم يكن الأولى بالحكومة أن توضح للرأي العام ما هي خطتها لوقف استنزاف الموازنة من قبل قطاع الكهرباء؟ ألم يكن الأولى أن يسارع مصرف لبنان إلى إلزام المصارف بتخفيض الفوائد على القروض، والتي لا تزال تتخطى العشرة في المئة، بحجة ارتفاع الفائدة على الودائع المجمّدة لآجال طويلة؟من ضمن مروحة المسؤوليات يأتي دور المودعين. هنا يلين المعترضون عند الإشارة إلى إمكانية استعادة جزء من الفوائد المرتفعة التي أعطيت للمودعين منذ العام 2016، وخاصة عبر الهندسات المالية.خلاصة كلام معارضي الهيركات أن الدولة، كشخص معنوي، تتحمل مسؤولية جزء كبير من الانهيار، وهي لا بد أن تسهم في الخروج منه. كيف ذلك؟ هنا تصل الزبدة مجدداً: من خلال بيع ما تملكه، أو مشاركته مع القطاع الخاص، بعد إجراء تقييم لممتلكاتها وممتلكات مصرف لبنان. لكن ماذا عن مسؤولية من بدّد هذه الأموال، ولماذا يتحمل الشعب اللبناني، المالك الفعلي لأملاك الدولة، كلفة سوء الأمانة؟ يجيب نائب في كتلة كبيرة: ببساطة، لأنه هو من أتى بهذه الطبقة إلى الحكم، وهو بتكرار انتخابها إنما يشرّع لها سرقتها! وفق هذه «النظرية»، يجري البحث عن حلول للأزمة.