عمر نشابة بدأت رحلة نقل الاختصاص القضائي من السلطات الوطنية الى جهات دولية عبر آليات الأمم المتحدة في 24 آذار 2005، يوم قدّم رئيس بعثة تقصي الحقائق الإيرلندي بيتر فيتزجيرالد تقريره الى الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك كوفي أنان. البعثة خلصت، بعد أقل من شهر من تقصي «الحقائق» (بينما استغرق عمل لجنة مماثلة شارك فيها فيتزجيرالد في قضية اغتيال الرئيسة الباكستانية بينازير بوتو نحو تسعة أشهر)، إلى «أن أجهزة الأمن اللبنانية والاستخبارات العسكرية السورية تتحمل المسؤولية الرئيسية». وأضاف تقريرها: «من أجل كشف الحقيقة، لا بد من أن يعهد بالتحقيق إلى لجنة دولية»، إضافة الى التوصية بمنح «سلطة تنفيذية» لتلك اللجنة. وذكر التقرير «إن من المشكوك فيه إلى حد بعيد أن تتمكن مثل هذه اللجنة الدولية من الاضطلاع بمهماتها على نحو مرضٍٍٍٍ، وأن تحظى بالتعاون الفعلي الضروري من السلطات المحلية، ما دامت القيادات الحالية للأجهزة الأمنية اللبنانية باقية في مناصبها». وبالتالي، يبدو أن قرار التخلّص من المدير العام للأمن العام اللواء الركن جميل السيد والمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء علي الحاج ومدير الاستخبارات في الجيش العميد ريمون عازار وقائد الحرس الجمهوري العميد مصطفى حمدان قد اتخذ قبل صدور القرار 1595 (7 نيسان 2005) الذي أنشأ لجنة التحقيق الدولية المستقلة. ذلك القرار الذي كُلّف ديتليف ميليس، على ما يبدو، بإيجاد صيغة لتطبيقه عبر سجن الضبّاط، هو بمثابة إشارة انطلاق لعملية سطو تدريجي لقوى دولية على الضابطة العدلية اللبنانية. ومن أبرز الدلائل على ذلك السطو المنهجي، ما ورد في مذكرة التفاهم التي وقّعها ميليس عن لجنة التحقيق الدولية ووزير العدل خالد قباني عن الجمهورية اللبنانية في 16 حزيران 2005. لكن قبل الدخول في مراجعة نقدية لمضمون المذكرة، لا بدّ من التذكير بأن القرار 1595 رحّب باستعداد الحكومة اللبنانية «للتعاون التام مع هذه اللجنة في إطار سيادة لبنان ونظامه القانوني»، وقرّر أن مهمة اللجنة تنحصر بـ«مساعدة السلطات اللبنانية في التحقيق الذي تجريه». لكن مثلما اختلفت شروط العمل ومعايير التطبيق بين ما نصّ عليه قرار مجلس الامن الرقم 1757 (2007 إنشاء المحكمة) وبين قواعد الإجراءات والإثبات الخاصّة بالمحكمة الدولية (2009) (كما بيّن مقال يوم أمس)، كذلك نلاحظ تناقضات بين مضمون قرار مجلس الأمن رقم 1595 (2005 إنشاء لجنة التحقيق) ومذكرة التفاهم بين لجنة التحقيق الدولية والجمهورية اللبنانية. رغم تضمن نصّ المذكرة أنه «يعود للجنة أن تحدد أصول الإجراءات الخاصة بها على أن تأخذ في الاعتبار القانون اللبناني والإجراءات القضائية المعمول بها في لبنان»، تشير الفقرة الخامسة منها الى عدم أخذ القانون والإجراءات القضائية المعمول ﺑﻬما في لبنان بالاعتبار. فيذكر مشاركة «اللجنة في أي تحقيق له صلة بالقضية، سواء تم بناءً على طلبها أو لا» ومنحها حقّ «إعطاء التوجيهات للسلطات المختصة بشأن أي عمل يجب، أو لا يجب، القيام به خلال هذه التحقيقات ﺑﻬدف الحفاظ على الأدلة أو الحصول عليها». لا شكّ في أن ذلك مخالف للقانون ولمبدأ السيادة القضائية. لكن الأمور لا تتوقف عند هذا الحدّ، بل «يمكن أن يشارك قاضي التحقيق العدلي، بناءً على طلب اللجنة وفق ما تراه ضرورياً، في إجراءات التحقيق، بما في ذلك الزيارات إلى مكان الجريمة وفي عمليات التفتيش والبحث وفي استماع الشهادات التي قد تطلبها اللجنة». ماذا بقي إذاً من سلطة المحقق العدلي الذي يعدّه القانون اللبناني من أرفع مراجع التحقيق الجنائي في قضايا تمثّل خطراً على أمن الدولة وسلامتها؟ هل يجوز، بحسب الأصول القانونية والدستورية، أن تُمنح جهة أجنبية صلاحيات تتيح لها «إعطاء التوجيهات للسلطات المختصة»؟ مذكرة التفاهم تنصّ على: «تسلّم جميع ما في حيازة السلطات اللبنانية من أدلة وثائقية ومعلومات مادية أو واردة في شهادة الشهود بشأن القضية وذلك بأقرب وقت ممكن (...) كما تسلّم للجنة أي معلومات وأدلة وثائقية أو مادية أو واردة في شهادة الشهود». فالمطلوب، بمعنى آخر، تسليم كامل ملف التحقيق في ما يشبه التنازل عنه لجهة دولية، بينما يخالف ذلك القرار 1595. المذكرة تتيح كذلك للّجنة «الدخول من دون عائق إلى جميع الأماكن والمؤسسات» من دون تحديد أي استثناء. «جميع الأماكن والمؤسسات» يمكن أن تشمل رئاسة الجمهورية وديوان المحاسبة والأرشيف السرّي للمحفوظات، والمصرف المركزي، وقيادة الجيش وغيرها.
ابراهيم الأمين منذ زمن غير قصير تملك الجهات المعنية في حزب اللّه معلومات وافرة عما يجري في لجنة التحقيق الدولية، منذ أيام ديتليف ميليس وبعده سيرج براميرتس، ثم مع مجيء دانيال بلمار. كان حزب الله في قلب الموضوع. عناصر الاتهام التي عمل فريق الادعاء السياسي على جمعها، احتاجت إلى جهود بُذل قسم كبير منها في لبنان. وهذه الجهود معروفة بحدها الأدنى من حانب الحزب، إن لم يكن أكثر. وجهاز المقاومة الأمني لم يتوقف عن متابعة كل ما من شأنه تكوين خطر على المقاومة، بما في ذلك ملف التحقيق نفسه، وخصوصاً أنّ المعطيات السياسية لم تكن تحتاج إلى كثير شرح ليعرف الحزب أنه المستهدف الأول والأخير. إلا أنّ طريقة مواجهة قيادة الحزب لهذا الملف تبدّلت بعد عدوان تموز عام 2006 عمّا كانت عليه قبل ذلك التاريخ. وهو ما لمسه الطرف الآخر الذي تصرّف بارتباك إضافي، بعدما أظهر الحزب خلال مواجهات تموز قدرات مفاجئة على إدارة الملفات الميدانية والسياسية والدبلوماسية. كما أبرز خبرة أمنية خاصة، ربما كان كثيرون في لبنان ـــــ كما في إسرائيل ـــــ يشكّكون في أصل وجودها. وكانت نتائج الحرب وحدها كفيلة بتنبّه الأجهزة الأمنية اللبنانية والعربية والدولية للتعامل بطريقة مختلفة مع الحزب. وخصوصاً أنّ فرع المعلومات ـــــ على سبيل المثال ـــــ تصرّف في مرحلة معيّنة على أنه مخترق من أمن حزب الله، وأن الكثير من المعلومات التي يعمل عليها الفرع تصل إلى الحزب عبر مصادر بشرية وربما غير بشرية، أو هذا على الأقل ما يردّده ضباط كبار في الفرع، من الذين يشكون من استمرار أزمة الثقة بينهم وبين الحزب، رغم ملف التعاون الكبير في ملاحقة شبكات التجسّس لمصلحة إسرائيل. وإلى جانب التحقيقات التي شملت العشرات من أصدقاء الحزب وحلفائه، من موظفين وشخصيات سياسية وإعلامية وإدارية وغيرها، فإنّ الحزب تعامل مع ملف الاعتقال التعسفي للضباط الأربعة على أنه قضية تخصّه. وإن كان هناك سيل كبير من الملاحظات التي يبديها معنيون بالأمر على بعض الأمور، لكن المحصّلة تشير إلى أن الحزب تبنّى قضية هؤلاء الذين ظُلموا، وعمل بقوة على دعمهم ومنع التعرّض لعائلاتهم، وسعى مراراً إلى إنضاج تسوية سياسية تخرجهم من السجن، لكنه كان يحاذر الاصطدام المباشر بالرئيس سعد الحريري قبل توليه رئاسة الحكومة وبعدها. حتى عندما وقعت أحداث السابع من أيار، لم يبادر الحزب ـــــ وكان بمقدوره أن يفعل، لو أراد ـــــ إلى ممارسة شكل آخر من الضغط لإطلاق سراحهم. عدا أنّ الضبّاط أنفسهم كانوا قد رفضوا أمراً من هذا النوع، لأنهم كانوا يسعون بعد فترة من الاعتقال إلى الحصول على براءة من المحكمة الدولية نفسها، لا من القضاء اللبناني الذي أظهرت التطورات أنه لم يكن خارج دائرة قرار اعتقالهم التعسفي لنحو 4 سنوات. قبل أكثر من عام، عندما قرّر قاضي الأمور التمهيدية إطلاق سراح الضباط الأربعة بناءً على توصية المدعي العام في المحكمة الدولية، تصرّف الحزب ـــــ كما قوى سياسية أخرى في البلاد ـــــ على أساس ان ما حصل قد يكون كافياً لطيّ صفحة. لكن الحزب أخطأ كما قوى أخرى في المعارضة، من الرئيس نبيه بري إلى آخرين ـــــ ما عدا العماد ميشال عون ـــــ عندما لم يبادر إلى طرح الموضوع على الحكومة وأمام رئيس الجمهورية وعلى طاولة الحوار الوطني. يومها قيل كلام كثير عن أهمية الهجوم على الفريق اللبناني والإقليمي والدولي الذي سبّب اعتقال هؤلاء، والضغط لطرح قضية شهود الزور وفبركة الأدلّة وتورّط موظفين وشخصيات لبنانية في الأمر، على طاولة المراجعة والمحاسبة. وكانت نتيجة هذا الخطأ، أن استعاد فريق الادّعاء وجيش المفبركين حيويته وإمساكه بزمام المبادرة ليصل بالأمور إلى ما وصلت إليه اليوم. كانت هناك وجهات نظر مختلفة حيال طريقة التصرف. والأكيد بعد مراجعة أربعة أعوام، أن في قيادة الحزب، العليا أو التنفيذية، من كان يملك رأياً لا يستند إلى حقائق كبيرة، أو كان لديه تقويم غير دقيق لوضع الفريق الآخر، إلا إذا كانت هناك اعتبارات ليست معروفة للمتابعين. وقد أدّى ذلك إلى تراكم الأمور إلى حدود باتت معها الدعوة إلى المحاسبة أو المراجعة صعبة، حتى وصلنا إلى يومنا هذا، حيث يعتقد كثيرون أن المطالبة بالتحقيق ما كانت لتحصل لولا وصول الحزب إلى قناعة معلوماتية وتحليلية بأن قرار اتهامه قد اتُّخذ. وهو أمر يؤثّر سلباً في أصل هذه الدعوة، وإن كان لا يمسّ أحقيتها وشرعيتها وضرورة السير بها حتى النهاية.
الآن، ثمّة معركة مفتوحة بشأن المحكمة والقرار الاتهامي، وقد ينقص أن ينشر حزب الله ما لديه من وثائق ومعلومات عن عمل أجهزة أمنية لبنانية وعربية ودولية في فبركة أدلة وتقديم معلومات تخدم فكرة اتهام عناصر من الحزب بالتورّط في جريمة اغتيال الحريري. لكن الأمر لن يكون على هذه الصورة، وخصوصاً عندما يكون الحزب في وارد البقاء ـــــ الآن على الأقل ـــــ في مرحلة تنبيه الطرف الآخر إلى خطورة ما يقوم به على هذا الصعيد. لكنّ ردود الفعل الحقيقية الآتية من الجانب الآخر، لا تشير إلى استعداد حقيقي للتراجع عن الجريمة القائمة، بل هناك معلومات ومؤشرات تدل على نية هذا الفريق التصعيد والمضيّ حتى النهاية في لعبته، آملاً دعماً إقليمياً وخارجياً يعوّض ما فاته في أيار عام 2008، وهو الأمر الذي سيدفع الحزب إلى خيارات غير محمودة. وفي هذا السياق، لم يتأخر الوقت كي يقوم الحزب بحملة واسعة، تشمل فئات مختلفة من الشعب اللبناني، وقواه الفاعلة على اختلاف مواقعها، وتتوجّه إلى جهات عربية ودولية، وخصوصاً ما يتعلق بالرأي العام، في سياق توضيح حقيقة ما يجري، وتهيئة المسرح لأي خطوة قاسية، يبدو أننا نتجه إليها ما لم يحمل الملك السعودي دلواً كبيراً من المياه الباردة يلقيها على الرؤوس الحامية المنتشرة في «الوسخ التجاري» ومحيطه، لأنه متى أمكن إشراك كثيرين في معركة رفض المؤامرة على المقاومة، فسيشعر عملاء أميركا وإسرائيل الكبار والصغار على حد سواء بدرجة أعلى من العزلة، وسيشعر الجمهور الراكض خلف هؤلاء بأنّ الخيارات العشوائية باتت تمسّ المصالح الأساسية للعيش بأمان. المهم في ما سبق ألّا يخرج بعض القادة في الحزب معتبراً هذا الكلام «أسْتَذة في الوقت الضائع»، وخصوصاً أولئك الذين يرفضون الاستفادة من تجارب غيرهم.
عمر نشابة تلقى دانيال بلمار، المدعي العام في المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وفريق عمله، صفعة قوية من قاضي الإجراءات التمهيدية دانيال فرانسين. فالقاضي البلجيكي لم يكتف بعقد جلسة استماع علنية في 13 تمّوز الفائت للبحث في قضية كان بلمار قد أصرّ على أنها من خارج اختصاص المحكمة، بل أصدر قراراً أمس بشأن طلب اللواء الركن جميل السيّد من المحكمة الحصول على المواد الثبوتية الخاصة بالافتراء والاحتجاز التعسّفي الذي تعرّض له، أعلن فيه أن المحكمة مختصّة للفصل في أساس الطلب، ومنَح السيّد صفة الادعاء أمام المحكمة بغية تحصيل طلباته. وكان المحقق العدلي اللبناني القاضي إلياس عيد قد أمر باعتقال السيّد واللواء علي الحاج والعميدين ريمون عازار ومصطفى حمدان في 30 آب 2005، بناءً على توصية ديتليف ميليس رئيس لجنة التحقيق الدولية المستقلة الذي استند بدوره إلى إفادات شهود زور. واستمرّ الاعتقال بعد تولي القاضي صقر صقر (الذي يشغل اليوم منصب مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية) التحقيق العدلي. ولم يفكّ القضاء اللبناني احتجاز الضبّاط الأربعة إلا بعد صدور أمر بذلك عن القاضي فرانسين من لاهاي في 29 نيسان 2009. وبالتالي أُطلق الضبّاط مع انكفاء السيادة القضائية الوطنية اللبنانية لمصلحة جهة دولية. ما أضافه فرانسين إلى ذلك عبر الحكم الذي صدر عنه أمس، هو تسهيله فتح ملف محاسبة المسؤولين عن ذلك الاعتقال التعسّفي في القضاء اللبناني. فرئيسا لجنة التحقيق الدولية سيرج براميرتس ودانيال بلمار كانا قد ذكرا في كلّ تقاريرهما الدورية لمجلس الأمن الدولي أنهما قدّما للمدعي العام لدى محكمة التمييز القاضي سعيد ميرزا آراءهما بشأن الاستمرار باعتقال الضباط الأربعة، وما يطلبه اللواء السيّد اليوم هو تسليمه نسخة عن تلك الآراء. فإذا تبيّن أن القضاء اللبناني خالف آراء اللجنة بشأن استمرار الاعتقال، يمكن أن ينكشف التدخل السياسي في القضية، إذ إن اللجنة، بحسب مذكرة التفاهم الموقعة بينها وبين الدولة اللبنانية، يفترض أن تكون مطّلعة على كامل مضمون ملفّ التحقيق. لماذا إذاً يكون موقف القضاء اللبناني مخالفاً لموقفها بشأن استمرار الاعتقال؟ هل تعرّض القاضيان سعيد ميرزا وصقر صقر لضغوط سياسية حثّتهما على عدم إطلاق الضبّاط؟ ما يطلبه السيّد اليوم، على ما يبدو، هو أن يُطرح هذان السؤالان في محكمة عادلة. ولم يكن أمام القاضي فرانسين خيار إلا ملاقاته في المطالبة بحقه في الوصول إلى العدالة بشأن اعتقاله التعسّفي. استند القاضي إلى اجتهادات محكمة العدل الدولية والمحاكم الجنائية الدولية للحسم بأن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان تتمتّع بسلطة الفصل في مسائل لا تدخل في اختصاصها الأصلي، لكن تتصل به اتصالاً وثيقاً، ومن بينها تسهيل وصول الأشخاص الذين اعتقلوا تعسّفاً إلى العدالة عبر توفير المستندات والوثائق التي يحتاجون إليها لتحقيق ذلك.
يذكر أن القاضي فرانسين كان قد أقرّ في قراره الصادر في 29 نيسان 2009 بأن الشهود الذين استند إلى إفاداتهم لاعتقال الضباط غيّروا إفاداتهم، وأحدهم سحبها بالكامل (الفقرة 37)، وذكر كذلك أن المعلومات التي احتجز الضباط على أساسها «لم تكن موثوقة بما فيه الكفاية» لاتهامهم بالجريمة (الفقرة 12). وبالتالي طلب السيّد الحصول على المستندات الآتية: ـــــ صورة طبق الأصل مصدقة من محاضر إفادات الشهود التي تدل على تورطه المزعوم على نحو مباشر أو غير مباشر في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ـــــ التقارير المحالة على النائب العام اللبناني بشأن تقويم الإفادات المذكورة أعلاه، وبالتحديد تقرير براميرتس المؤرخ في 8 كانون الأول 2006. ـــــ رأي المدعي العام بلمار في احتجاز السيّد وسائر الموقوفين، الذي بلّغه إلى النائب العام اللبناني. ـــــ وأية أدلة أخرى في حوزة الرئيس قد تكون ضرورية لملاحقة مرتكبي المخالفات. وجاء قرار القاضي فرانسين، أمس، بتأجيل الفصل في أساس الطلب لحين تأكده من أن تسليم تلك المستندات والوثائق لا يؤثر سلباً في تحقيق جار أو لاحق، أو يتنافى ومصالح أساسية كسلامة الأشخاص المعنيين بهذه المواد، أو يمسّ بالأمن الوطني أو الدولي. ولتبيان إذا ما كانت تلك الشروط قائمة أو لا، دعا القاضي فرانسين أمس كلاً من اللواء السيّد والمدعي العام بلمار إلى الإجابة عن أسئلة تتعلّق بالمواد التي يطلبها السيّد من الناحية القانونية واللوجستية والإجرائية في غضون عشرة أيام.
قرار القاضي دانيال فرانسين
نعرض في الفقرات الآتية أجزاءً من مضمون قرار القاضي فرانسين. (يمكن الاطلاع على الوثيقة الكاملة عبر موقع «الأخبار»). بعد شرح الخلفية الإجرائية (أولاً: الفقرات من 1 إلى 6) وعرض موضوع الطلب (ثانياً: الفقرة 7) واستعادة حجج المستدعي (السيّد) والمدّعي العام (بلمار) (ثالثاً: الفقرات من 8 إلى 22)، انتقل القاضي فرانسين إلى بيان الأسباب (رابعاً) حيث ورد الآتي: «28. يمكن طرح السؤالين الأولين الموجهين إلى قاضي الإجراءات التمهيدية على النحو الآتي. أولاً، هل تتمتع المحكمة بالاختصاص للفصل من طلب المستدعي الحصول على مواد الملف الجزائي الخاص به؟ ثانياً، هل يتمتع المستدعي بالحق في اللجوء شخصياً إلى المحكمة بهدف الحصول على هذه المواد؟ إضافة إلى ذلك، على قاضي الإجراءات التمهيدية الإجابة عن سؤال ثالث ينبثق من السؤالين الأولين، ألا وهو: هل يتمتع المستدعي، في هذه الحالة، بالحق في الحصول، ولو جزئياً، على الملف الجزائي الخاص به؟ باء ـــــ اختصاص المحكمة: جيم ـــــ صفة المستدعي للادعاء أمام المحكمة: 29. قبل النظر في أساس القضية، يجب تحديد ما إذا كانت المحكمة تتمتع بالاختصاص للفصل في طلب المستدعي الحصول على البعض من مواد الملف الجزائي الخاص به. 30. يُحصر الاختصاص المادي للمحكمة حصراً تاماً، كما لحظ المدعي، بالاختصاص القضائي الذي تمنحه إياه المادة 1 من الاتفاق بين الأمم المتحدة والجمهورية اللبنانية المُرفق بقرار مجلس الأمن الرقم 1757 (2007) والمادتان 1 و2 من النظام الأساسي، أي مقاضاة الأشخاص المسؤولين عن الاعتداء الذي وقع في 14 شباط/ فبراير 2005 وأدى إلى مقتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري وآخرين، وعند الاقتضاء، مقاضاة مرتكبي اعتداءات أخرى متلازمة. لذا، لا يمكن المحكمة تجاوز هذا الاختصاص قانوناً من دون خرق مبدأي القانونية والاختصاص الأساسيين. 31. لكن، وفقاً للاجتهاد المستمر لمحكمة العدل الدولية والمحاكم الجنائية الدولية، وغيرها من المحاكم الدولية، تتمتع كل محكمة دولية بسلطة الفصل في مسائل لا تدخل ضمن اختصاصها الأصلي بحد ذاته، لكن تتصل به اتصالاً وثيقاً، ما يحتّم دراسة هذه المسائل ضماناً للإنصاف في الإجراءات ولحسن سير العدالة. بمعنى آخر، تتمتع المحكمة، في إطار تأديتها لمهماتها الرسمية، باختصاص ضمني للفصل في مسائل فرعية تتعلق بمهماتها، أو قد يكون لها وقع عليها، ويجب الفصل فيها خدمة لمصلحة العدالة. 32. تجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أن النظام الأساسي للمحكمة والقواعد لا يمنحان المستدعي صراحة صفة تخوله الحصول على مواد الملف الجزائي الذي اتهم واعتقل بموجبه. لكن موضوع الطلب يدخل ضمن السلطة الضمنية للمحكمة إذ إنه يتصل بصورة وثيقة باختصاصها المادي والأصلي، وإن الفصل فيه ضروري ضماناً للإنصاف في الإجراءات، ولحسن سير العدالة (...). 34. على صعيد آخر، يقوم الطلب على أحد الجوانب الأساسية لحقوق الدفاع كما ينص عليها القانون الدولي، أي حق المتهم في الحصول على مواد الملف، وهو حق يجب أن تضمنه المحكمة خدمة لمصلحة العدالة. 35. لذا، نظراً لاختصاصها الحصري، إذا قضت المحكمة بعدم اختصاصها للفصل في هذا الطلب، تحرم المستدعي إمكان نظر قاضٍ في مطالبه بإنفاذ أحد الحقوق الأساسية، فتجرده بذلك من حقه في الاستفادة من حماية قانونية فعلية. 36. ختاماً، وبناءً على ذلك، تتمتع المحكمة بالاختصاص للفصل في الطلب.
37. بعد تبيان اختصاص المحكمة للفصل في الطلب، يجب تحديد ما إذا كان المستدعي يتمتع بصفة الادعاء أمام المحكمة.دال ـ الحق في الحصول على الملف الجزائي وشروط إنفاذه
في المرحلة الراهنة للتحقيق: 39. لكن بالرغم من ذلك، لا يعتبر المستدعي غير معني بالإجراءات المقامة والمتواصلة أمام المحكمة، إذ تنص المادة 4، الفقرة 2 من النظام الأساسي على أن ينقل الأشخاص المحتجزون من قبل السلطات القضائية اللبنانية رهن التحقيق في قضية الحريري إلى عهدة المحكمة. كما تقضي المادة 17 من القواعد بأن يفصل قاضي الإجراءات التمهيدية في مواصلة احتجاز هؤلاء الأشخاص ضمن مهلة معقولة بدءاً من تاريخ نقلهم إلى عهدة المحكمة. والحال أن المستدعي هو أحد هؤلاء الأشخاص (...). 41. وتجدر الإشارة هنا إلى أن المدعي العام لم يوجّه تهمة إلى المستدعي منذ تاريخ نقله إلى عهدة المحكمة، لكن يصدر قرار بمنع محاكمته. وفي هذا الإطار، ينبغي التذكير بأن إخلاء سبيل المستدعي قد تم من دون المساس بملاحقات محتملة قد تلجأ إليها المحكمة الخاصة لاحقاً، كما ينص عليه قرار قاضي الإجراءات التمهيدية الصادر بتاريخ 29 نيسان/ أبريل 2009. 42. في ضوء هذه الظروف، يتمتع المستدعي بصفة الادعاء أمام المحكمة بشأن المسائل المتعلقة بحرمانه من حريته. 43. بما أن للمحكمة اختصاصاً للفصل في الطلب وللمستدعي صفة للادعاء أمامها، يتعين الآن تحديد ما إذا كان من حق المستدعي، نظراً لوضعه المبين في الفقرات 39 إلى 41 أعلاه، الحصول على الملف الجزائي الخاص به. وفي حال الإيجاب، يجب النظر في كيفية إنفاذ هذا الحق وتحديد، عند الاقتضاء، نطاقه وشروطه. 44. تجدر الملاحظة أن الحق في الحصول على الملف الجزائي هو حق يمنحه القانون العرفي الدولي لكل شخص متهم. ويشكل هذا الحق إحدى أبرز الوسائل لضمان إنفاذ فعال لحقوق الدفاع، ولا سيما لغرض الطعن بقانونية الاحتجاز وبطبيعته التعسفية (...). 46. وينبغي التذكير في هذا السياق بأن لبنان صدّق، في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 1972، على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي دخل حيز النفاذ بتاريخ 23 آذار/ مارس 1976(...). 49. تكرس المادة 110 من القواعد بصورة غير مباشرة حق المتهم في الحصول على مواد الملف الجزائي الخاص به. إذ تنص أحكام هذه المادة على أن يتسلم المتهم نسخاً عن الأدلة المؤيدة التي أرفقت بقرار الاتهام عند طلب تصديقه، وأيضاً جميع إفادات المتهم التي تلقاها المدعي العام، وذلك في غضون 30 يوماً من مثوله الأول أمام المحكمة أو في أي مهلة أخرى يحددها قاضي الإجراءات التمهيدية. كذلك ينبغي أن يحصل ضمن المهلة التي حددها قاضي الإجراءات التمهيدية أو غرفة الدرجة الأولى على نسخ عن إفادات جميع شهود الادعاء، وكل الإفادات الخطية، ونصوص الإفادات، أو سواها من النصوص التي تم تنظيمها. 50. أما في ما يتعلق بالاتهام، فينبغي التعاطي مع هذا المفهوم بمرونة كما أشارت إليه المحكمة الأوروبية، إذ يجب ألا يفهم بمعناه الصارم، بل بما يعني إبلاغاً رسمياً صادراً عن السلطة المختصة يوجه اتهاماً بارتكاب جرم، وبما يتطابق أيضاً ومفهوم ترتب انعكاسات جسيمة على وضع المشتبه به. 51. أخيراً، تظل حقوق الدفاع قائمة حتى إذا لم يعد الشخص الخاضع لتحقيق جزائي متهماً بصورة رسمية أو إذا صدر قرار بمنع محاكمته. ويطبق ذلك أيضاً على الحق في الحصول على الملف الجزائي، فلا يمكن أن يسقط هذا الحق بمجرد إخلاء سبيل الشخص المعني. إذ ينبغي أن يكون الحق في الاطلاع على المواد المستخدمة في الإجراءات بمثابة النتيجة الطبيعية للحق الأساسي في الحصول عند الاقتضاء على تعويض عن الضرر الناتج من احتجاز غير قانوني، وهو حق مكرس في الصكوك الرئيسية لحماية حقوق الإنسان، وإلا بقي هذا الحق حبراً على ورق، وذلك لعدم التمكن من إثبات عدم قانونية الاحتجاز. 52. لذا، مع أن المحكمة لم توجه اتهاماً رسمياً إلى المستدعي، ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار تبلغه، في مذكرة التوقيف الصادر عن السلطات القضائية اللبنانية، الجرم المسند إليه وما ترتب عنه من انعكاسات جسيمة على وضعه، وخصوصاً بسبب احتجازه، بالرغم من انتهاء هذا الاحتجاز. وفي هذا الصدد، يجب أن يستفيد المستدعي من الحقوق الأساسية للدفاع المماثلة لتلك الممنوحة لأي شخص متهم كالحق في الاطلاع على ملفه الجزائي. 53. أما في ما يتعلق بمسألة إنفاذ الحق في الحصول على الملف الجزائي، فيتبين وفقاً للتشريعات والاجتهادات الوطنية والدولية أن هذا الحق ليس مطلقاًَ، إذ قد يخضع لبعض القيود، ولا سيما أن تسليم المواد المعنية قد يؤثر سلباً في تحقيق جارٍ أو لاحقٍ، أو يتنافى ومصالح أساسية كسلامة الأشخاص المعنيين بهذه المواد، أو يمس بالأمن الوطني أو الدولي. ويمكن أن ترتبط هذه القيود بالصعوبات الملازمة لإجراء التحقيقات في مجال الإرهاب. في بعض الحالات، ومن أجل تذليل هذه الصعوبات، تم التسليم باحترام هذا الحق حتى لو لم يُمنع الحق في الاطلاع على الملف إلا لمحامي المتهم. (...) 56. بما أنه تم التسليم باختصاص المحكمة وبتمتع المستدعي بصفة الادعاء بغية إنفاذ حقه في الحصول على الملف الجزائي، لم يعد موضوع اندراج إشكالية القيود أو الحدود لهذا الحق ضمن أساس الملف مطروحاً. لكن في هذه المرحلة من الإجراءات، ينبغي السماح للمدعي العام وللمستدعي بعرض ملاحظاتهما وحججهما في هذا الصدد. 57. من هذا المنطق، يدعو قاضي الإجراءات التمهيدية كلاً من المستدعي والمدعي العام، وهو الوحيد الذي يحوز الملف الخاص بقضية الحريري، إلى الإجابة عن الأسئلة الآتية وفقاً للشروط المُهل المبنيّة في هذا التقرير. 1) هل تدخل كل المواد التي يطلب المستدعي الحصول عليها في الملف الجزائي الخاص به، وهل هي في حوزة المدعي العام؟ 2) هل تُطبّق القيود والحدود المذكورة في الفقرتين 53 و54 أعلاه على هذه الحالة المعيّنة؟ 3) هل تُطبّق قيود وحدود أخرى؟ 4) في حال وجود قيود وحدود أخرى، هل تُطبّق على كل المواد التي يطلب المستدعي الحصول عليها أو على البعض منها فقط، وفي هذه الحال، على أي منها؟ 5) في حال منح المستدعي الحق في الحصول على الملف، كيف يتم ذلك، بمعنى آخر، هل يجب أن تُسلّم المواد أو النسخ عنها إلى المستدعي أو لن يحق له سوى الاطلاع عليها؟ وهل يجب أن يُحصر الحق في الاطلاع عليها على محاميه فقط؟ 6) هل تُطبّق آليات المساعدة المتبادلة الدولية في الشؤون القضائية، وفي هذه الحال، ما الذي يترتب عنها من نتائج بالنسبة إلى طلب المستدعي؟ 38. في هذا السياق، يلحظ قاضي الإجراءات التمهيدية أن المستدعي لا يُعتبر فريقاً كالمدعي العام والدفاع وفقاً للمادة 2 من القواعد، ولا متضرراً مشاركاً في الإجراءات وفقاً للمواد 2 و17 و86 من القواعد، ولا حتى طرفاً ثالثاً أو صديقاً للمحكمة بحسب المادة 131 من القواعد. وكما أحسن المدعي العام الإشارة، لا ينص صراحة الاتفاق ولا النظام الأساسي للمحكمة ولا القواعد على إمكانية شخص من غير الأشخاص السالفي الذكر تقديم طلبات إلى المحكمة.
خامساً ـــ الحكم
لهذه الأسباب (...) إن قاضي الإجراءات التمهيدية، يعلن أن المحكمة مختصة للفصل في أساس الطلب، ويعلن أن المستدعي يتمتع بصفة الادعاء أمام المحكمة بغية الحصول على مواد الملف الجزائي المتعلّق بقضية الحريري الخاص به. ويقرّر، قبل الفصل في أساس الطلب، أن تودع المذكرات الخطية للمستدعي والمدعي العام التي تضم إجاباتهما عن الأسئلة المطروحة في الفقرة 57 من هذا القرار لدى قلم المحكمة ضمن مهلةٍ أقصاها الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 2010. ويقرّر أن تُسلّم المذكرات إلى المستدعي والمدعي العام في الوقت نفسه بعد ترجمة مذكرة المدعي العام إلى الفرنسية. ويقرّر أن يودع المستدعي والمدعي العام إجاباتهما لدى قلم المحكمة في غضون 10 أيام من تاريخ التسليم المتزامن للمذكرات».
بداية عام 2006، اعترف السعودي فيصل أكبر بالمشاركة في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ثم تراجع عن إفادته، مخلفاً وراءه أسئلة يصعب أن تجد من يجيب عنها. فمن السهل تبرير معرفته ببعض تفاصيل عملية الاغتيال، لكن ما يصعب تفسيره هو أن فيصل أورد خلال استجوابه معلومات تتعلق بجريمة الاغتيال قبل أربعة أشهر من توصل المحققين إلى معرفتها!
حسن عليق ليس محمد زهير الصديق الشخص الوحيد الذي اعترف بمشاركته في التخطيط لاغتيال الرئيس رفيق الحريري؛ فثمة مَن أقرّ بأنه شارك في التنفيذ المباشر للجريمة، ضمن خلية تبين أن لها صلات تنظيمية وفكرية مع تنظيم «القاعدة» العالمي. هو السعودي فيصل أكبر الذي أوقف في نهاية عام 2005، وحقق معه فرع المعلومات لأيام عديدة (نشرت «الأخبار» محضر التحقيق معه بعد صدور القرار الاتهامي بحقّه، ابتداءً من يوم 9 تشرين الأول 2007) لأنه أحد أفراد ما بات يعرف باسم مجموعة الـ13 التي أوقف أفرادها خلال الأيام الأخيرة من عام 2005 والأيام الأولى من عام 2006. وبحسب محاضر التحقيق مع أفراد المجموعة، فإن أميرها، اللبناني حسن نبعة، كان «أمير تنظيم القاعدة في بلاد الشام»، أي في لبنان وسوريا، وكان على صلة مباشرة بأمير التنظيم في العراق، أبو مصعب الزرقاوي. توقيف مجموعة الـ13 أتى في سياق بحث القوى الأمنية عن أحمد أبو عدس، الشاب الذي تبنى في شريط مصوّر عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري بعد ساعات قليلة على وقوع الجريمة يوم 14 شباط 2005، ولم يظهر له أثر منذ ذلك الحين. فبعض أفراد المجموعة يعرفون أبو عدس (لقبه أبو تراب) معرفة وثيقة، وثمة من تربطهم صلة قوية بخالد طه. والأخير يُعد في قاموس التحقيق باغتيال الحريري، مفتاحَ الوصول إلى أبو عدس. فهو صديقه وتلميذه. وقبل الجريمة بنحو شهر (تحديداً يوم 15 كانون الثاني 2005) دخل خالد طه الأراضي اللبنانية آتياً من دمشق، بحسب ما يظهر في سجلات الأمن العام اللبناني. في اليوم التالي، عاد خالد طه إلى سوريا، واختفى أبو عدس! توقيف حسن نبعة جاء من طريق الصدفة. كان محققو فرع المعلومات يطاردون أحد أفراد المجموعة، طارق الناصر، عندما كان يتصل من هاتف عمومي قرب صيدلية مازن في منطقة كورنيش المزرعة. انتبه المحققون أثناء المراقبة إلى وجود شخص يقف على مسافة غير بعيدة من كشك الهاتف. وعندما انقضّت الدورية على طارق، اتجه محقق صوب هذا الرجل وأوقفه، قبل أن يصل رئيس الدورية ليسأله عما يفعله في هذا المكان. فأجاب نبعة بأنه في طريقه إلى منزله. وقدم هويته باسم مزور، وعلى أساس أنه مهندس لبناني، تبين لاحقاً أنه استشهد في العراق. وعند تفتيشه، عثر معه على بخاخ من الغاز الذي قال إنه يستخدمه للدفاع عن النفس. لكنه لم ينتبه إلى أن مصدر الإنتاج هو قوات حلف شمالي الأطلسي، فتقرر تكبيله وسوقه إلى مقر فرع المعلومات. هناك، وُضع في إحدى النظارات، فيما وضعت صورته على حائط يراها بقية الموقوفين أثناء التحقيق. وعندما شاهد فيصل صورته دُهش وقال: الأمير هنا؟ عندها تنبه المحققون إلى أن الموقوف ـــــ بالصدفة ـــــ ليس سوى أمير هذه المجموعة، وهو اللبناني حسن نبعة، قبل أن تتكشف تفاصيل كثيرة تخص هويته ودوره وموقعه. على محضر التحقيق مع المجموعة، يخيّم طيفا أحمد أبو عدس وخالد طه. معظم الأفراد الرئيسيين في المجموعة يعرفونهما. أحدهم، هاني الشنطي، قال في إحدى مراحل الاستجواب إنه استضاف، في منزل عائلته بخلدة، خالد طه خلال زيارته لبنان يومي 15 و16 كانون الثاني 2005 (عندما اختفى أحمد أبو عدس)، مؤكداً أن زيارة طه تلك أحيطت بالسرية. وتكشف المحاضر أن طه انتقل نهاية عام 2005 من سوريا إلى لبنان، بعدما اشتدت حملة الأمن السوري على مجموعات القاعدة في سوريا، وأن أفراداً من مجموعة الـ13 ساعدوه على التواري عن الأنظار في مخيم عين الحلوة. لكن الحديث عن خالد طه يصبح ثانوياً أمام إفادة فيصل أكبر. فالشاب السعودي يصل مباشرة إلى بيت القصيد، معلناً خلال التحقيق معه أنه كان أحد أفراد المجموعة التي اغتالت الرئيس رفيق الحريري، والتي كان يرأسها جميل السوري، نائب أمير تنظيم القاعدة في بلاد الشام (يتولى أيضاً منصب المسؤول الأمني للتنظيم). إلا أن محاضر التحقيق سرعان ما تُظهر أن فيصل تراجع عن إفادته، مدعياً أنه كذب في كل ما قاله، رغم أنه ذكر معلومات لا يعرفها غير المحققين، إضافة إلى بعض الوقائع التي لم يكن المحققون أنفسهم قد توصلوا إليها. كيف اعترف فيصل أكبر؟ وكيف تراجع؟ أحد المعنيين بالتحقيق باغتيال الحريري ينقل عن مصادر مقربة من فرع المعلومات رواية تفصيلية لما جرى في إحدى غرف التحقيق. تقول الرواية إن محققي فرع المعلومات، عندما كانوا يستجوبون أفراد مجموعة الـ13 (ابتداءً من يوم 3/1/2006، المحضر الرقم 17/302) أوهموا فيصل أكبر بأن خالد طه صار في قبضتهم. تضيف الرواية إن فيصل انهار وقال للمحققين: سأخبركم بكل شيء. كان في غرفة التحقيق ستة عاملين في فرع المعلومات، ثلاثة ضباط وثلاثة رتباء. سريعاً، روى فيصل أكبر الرواية كاملة. تحدّث عن عملية اغتيال الحريري والإعداد لها. قال إنه استقبل أحمد أبو عدس وخالد طه في دمشق يوم 18/1/2005 (بعد يومين على اختفاء أبو عدس)، وإن الفيلم الذي تبنى فيه أبو عدس عملية التفجير
صُوِّر في إحدى الشقق التي يستخدمها تنظيم القاعدة في حي ركن الدين بدمشق. حدّد شقة في الضاحية الجنوبية لبيروت (المريجة) استُخدمت خلال الإعداد للجريمة. قال إنه رافق جميل (نائب أمير تنظيم القاعدة في بلاد الشام) يوم اغتيال الحريري إلى منطقة عين المريسة، حيث كان جميل يتلقى اتصالات من فريق مراقبة مكون من 5 أشخاص. أضف إلى ذلك أن محاضر التحقيق تنقل عن فيصل قوله إن شاحنة الميتسوبيشي التي فخخت وفجرت بموكب الحريري اشتُريت من منطقة شمال لبنان. عند الخامسة فجراً من اليوم التالي لبداية التحقيق، كان الرجل قد أنهى الرواية كاملة. خرج اثنان من الرتباء إلى منطقة الضاحية الجنوبية لبيروت، ليُحضروا «السودة النية» من المسلخ الذي يقع أول برج البراجنة (نزلة العاملية). بعد عودتهما، جلس الرتباء الثلاثة والضباط الثلاثة ليتناولوا الطعام داخل الغرفة التي يجلس فيها فيصل أكبر. دعا أحد الرتباء النقيب وسام عيد لمشاركتهم تناول الطعام. لكن عيد خرج من الغرفة. لحق به الرتيب قائلاً: لماذا غضبتَ سيدي؟ ألا تريد تناول الطعام معنا؟ أجابه عيد: «كلا، لقد قرفت منه. هل تريدني أن أتناول الطعام مع من قتل الرئيس الشهيد؟». فيصل أكبر لم يأكل. يكاد يكون أكل اللحم النيء محرماً بالنسبة إليه. لكنه قال للمحققين: الآن فهمت ماذا كان يعني قول زبائن أبو أحمد (صاحب مطعم صغير في منطقة كورنيش المزرعة): نريد سندويش رجالي! كان التحقيق الأولي قد انتهى. اتصل وسام عيد بأحد الأشخاص، ثم عاد وقال لأحد الرتباء: حُلت مشكلتك. اشترينا لك شقة. فُتح نقاش بين الرتباء والنقيب عيد، عن أحقية كل منهم بالحصول على مكافأة. كان الحديث في إطار المزاح، لكنه لم يخل من الجدية، وخلاصته أن جميع الموجودين في غرفة التحقيق مقتنعون بأنهم تمكنوا من كشف جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. كان الأمنيون بانتظار وصول رئيس الفرع، الرائد سمير شحادة، من أجل أن يتصل الأخير بالقاضي سعيد ميرزا لنيل إذنه بالتوجه إلى الضاحية الجنوبية بهدف تحديد الشقة التي ذكرها فيصل. عندما حضر سمير شحادة، أبلغه المحققون بتفاصيل ما جرى. سريعاً، بدأت الحركة تتغير داخل مبنى فرع المعلومات. حضر وسام الحسن وتوجه إلى مكتب سمير شحادة. وبعد قليل أُدخِل فيصل أكبر إلى المكتب ذاته. دام اجتماع شحادة والحسن بفيصل أكثر من 6 ساعات، أحضروا خلالها الطعام من أحد المطاعم البيروتية الشهيرة. لم يعرف أحد ماذا دار خلال تلك المدة بين الضابطين والموقوف. لكن ما جرى بعد ذلك يخلّف وراءه أسئلة من دون أي جواب مقنع. فبعد خروج وسام الحسن من مبنى فرع المعلومات، أرسل سمير شحادة خلف عدد من المحققين قائلاً لهم: فيصل يريد التراجع عن إفادته. أسقط في أيدي رجال الأمن الذين قضوا الليلة السابقة مقتنعين بأنهم أمسكوا بالخيط الأول الذي سيوصلهم إلى كشف من قتلوا الرئيس رفيق الحريري. فإفادة فيصل لا تزال في بدايتها. ورغم ما تحويه من ثغر كبيرة لا بد من توضيحها، يبقى فيها من المتانة ما يمكن الاستناد إليه لفتح مسارات تحقيقية جدية. سأل أحد المحققين الموقوفَ، بحضور شحادة، قائلاً: لماذا ستتراجع؟ رد فيصل: أُخِذت أقوالي مني تحت الضغط. وعبارة «تحت الضغط» توقف عندها عدد من الحاضرين. فهي لا يستخدمها عادة الموقوفون، بل يستخدمها رجال الأمن والتحقيق اللبنانيون.
حكاية فيصل السعودي الذي سبق المحقّقين إلى المعلوماتدار «حوار» بين فيصل والمحققين. لكن في النهاية، أصر فيصل على تراجعه. ومعه، خفَت التحقيق الذي لم يتوصل إلى تحديد مكان أحمد أبو عدس، ولا إلى الحصول على معلومات ذات أهمية عنه. أما خالد طه، فكل ما عُرِف بشأنه أنه توارى عن الأنظار في مخيم عين الحلوة خلال الشهر الأخير من عام 2005. وبعد تراجع أكبر عن اعترافه بالمشاركة في اغتيال الحريري، ترك أمام المحققين باباً مفتوحاً لم يحسنوا استغلاله. قال لهم، بحسب محضر التحقيق، إنه سمع أميره حسن نبعة يوصي عدداً من أفراد المجموعة بألا يبوحوا بمعلومات عن أحمد أبو عدس إذا أوقفتهم القوى الأمنية. ثمة أكثر من رأي لتبرير ما جرى. المقربون من فيصل أكبر، وعلى رأسهم حسن نبعة الموجود في سجن رومية، يقولون إن فيصل لم يعترف، ولم يتراجع، بل إن المحققين الذين عرّضوه لأبشع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، هم الذين دوّنوا كلاماً لم يقله، ثم دونوا كلاماً مناقضاً، وأجبروه على توقيع المحضر. وعندما يُسألون عن السبب، يجيبون بالقول: نحن لا نعرف الدافع الحقيقي لذلك، بل لدينا تحليل يدلنا على ثلاثة أسباب. ربما هي رغبة المحقق في تسجيل إنجاز، وربما هو تأثره المذهبي بما يجري في العراق (يقصدون الملازم أول ر. ف.). وقد تكون ثمة رغبة في إحدى الدوائر بتقديم أوراق للمساومة، وإبقاء ملف التحقيق مع مجموعة الـ13 جاهزاً لتقديمه ككبش فداء في أي لحظة تصل فيها الصفقة السياسية إلى خاتمتها.
ريفي والحسن: تضليل التحقيق
هذه خلاصة رواية المجموعة. أما في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي وفرع المعلومات، فالمسؤولون الذين كانوا مشرفين على التحقيق (وخاصة اللواء أشرف ريفي والعقيد وسام الحسن) يؤكدون أن فيصل لم يتعرض لأي ضغط أو تعذيب، سواء خلال الاعتراف أو عند التراجع. ويقول المعني الأول بهذا الملف إن فيصل أكبر اعترف باغتيال الحريري لتضليل التحقيق، وكان «يريد إلهاء المحققين بهذا الحدث الكبير للتهرب من الإجابة عن أسئلة عن عمل تنظيمه». لكن أيعقل أن يعترف إنسان ما باقتراف جريمة بهذا القدر من الخطورة لتضليل التحقيق؟ يجيب المسؤول ذاته: نعم، هكذا هم جماعة تنظيم القاعدة. ثم يعطي المسؤول دليلاً على كلامه بالقول: عندما اعترف الرجل واتصل سمير شحادة بوسام الحسن ليخبره بتطورات التحقيق، قال له الحسن: دوّنوا الإفادة. وفي الصباح، حضر وسام الحسن إلى مبنى فرع المعلومات ليقابل شحادة. وفور وصوله، أخبره شحادة بأن فيصل تراجع، فقال له وسام الحسن: دوّنوا الإفادة. وينفي الحسن أن يكون قد التقى فيصل أكبر في ذلك الصباح. يضيف المسؤول: كان بإمكاننا، لو كانت لدينا نية سيئة، أن نتجاهل الإفادة الأولى وألا ندونها. لكننا دوناها رغم معرفتنا بأنها ستتحول إلى إفادة علنية بعد إحالتها على القضاء. إلا أن تبرير المشرفين على التحقيق تنقضه التفاصيل التي أوردها فيصل أكبر في إفاداته، والمطابقة لمضمون التحقيقات الدولية والمحلية باغتيال الحريري، مثل تاريخ دخول خالد طه إلى لبنان وعودته إلى سوريا وتاريخ اختفاء أحمد أبو عدس وتفاصيل التفجير، إضافة إلى عدد الهواتف الخلوية التي يعتقد أن المجموعة التي اغتالت الحريري استخدمتها خلال مراقبته حتى الدقائق الأخيرة السابقة لاغتياله. فمن أين استقى فيصل هذه المعلومات التي تطابق ما هو وارد في التحقيقات الأولية بجريمة اغتيال الحريري؟ يقول المشرفون على التحقيق في فرع المعلومات إن التفاصيل التي أوردها فيصل في إفادته مستقاة بكاملها من التقريرين الصادرين عن لجنة التحقيق (الأول والثاني) اللذين كانا قد نُشرا قبل توقيفه. يضيف هؤلاء إن حاسوب فيصل أكبر يحوي نسخة عن كل واحد من التقريرين. ويقول الأمنيون ذاتهم إن فيصل أكبر، عندما استمعت إليه لجنة التحقيق الدولية بعد أكثر من عام على التحقيق معه في فرع المعلومات، لم يتعرف إلى الصور التي عرضها عليه المحققون الدوليون، والتي تظهر فيها شوارع تحدّث عنها وربطها بجريمة اغتيال الحريري، كأحد شوارع منطقة ركن الدين في دمشق. ويلفت أحد الأمنيين اللبنانيين المعنيين بالتحقيق مع فيصل أكبر قائلاً: عندما أنهى المحققون الدوليون استجواب فيصل، قال لهم ضاحكاً: هل صدقتم أنتم أيضاً ما قلته في التحقيق عن المعلومات؟
«مصادفات» غريبة
رواية المعنيين في فرع المعلومات تجد من يفندها ويرد عليها بسهولة. يقول أحد المعنيين بالتحقيق: في البداية، لم تكن دائرة القرار عند آل الحريري وفي فرع المعلومات قادرة على تجاهل تدوين الإفادة، وخاصة أن اعتراف فيصل جرى بحضور ستة محققين، بينهم أمنيون غير مأموني الجانب، من الناحية السياسية على الأقل. وما يقوله المشرفون على التحقيق مع فيصل أكبر تعتريه ثُغر عدة، أبرزها اثنتان. الأولى أن ثمة في رواياته «مصادفات» غريبة، لناحية تزامن بعض المحطات في إفادته مع التوقيت الذي ظهر في بيانات الهواتف الخلوية التي استخدمها مراقبو تحركات الحريري. وفي إفادته، قال فيصل أكبر إن مجموعة المراقبة مؤلفة من خمسة أشخاص، وإنهم كانوا يتواصلون مع جميل، مساعد أمير تنظيم القاعدة في بلاد الشام الذي كان فيصل يرافقه يوم الجريمة. وعندما سئل فيصل عن عدد الهواتف الخلوية المستخدمة، قال إنها سبعة: خمسة للمراقبين، وسادس مع جميل والسابع في حوزته هو (فيصل). وقال فيصل إن جميل كان يتلقى الاتصالات من المراقبين. ولم يذكر ورود اتصالات إليه هو (فيصل) من مجموعة رصد الحريري. بل أكد أن جميل أوصاه بعدم الاتصال به إلا في الحالات الطارئة. نتيجة لذلك، يصبح عدد الأرقام الهاتفية التي تحدث عنها فيصل مطابقة للعدد الحقيقي الذي استخدم لمراقبة الحريري حتى يوم اغتياله. فرغم أن لجنة التحقيق الدولية تحدثت في تقريريها الأول والثاني عن استخدام 8 هواتف خلوية لمراقبة الحريري، فإن التحقيقات التي أجرتها مديرية استخبارات الجيش وفرع المعلومات (قبل لجنة التحقيق الدولية) أظهرت أن المجموعة التي يعتقد أنها راقبت الحريري استخدمت 8 خطوط خلوية هي: 03129893 ـــــ 03129678 ــــــ 03129652 ـــــــ 03127946 ـــــــ 03125636 ـــــــــ 03123741 ــــــ 03478662 ــــــ و03292572. وتظهر التحقيقات ذاتها أن الرقمين الأخيرين لم يستخدما إلا لإجراء 13 اتصالاً من أصل 432 اتصالاً أجراها أفراد المجموعة في ما بينهم وبخدمة التشغيل في شركة ألفا. ويعتقد الأمنيون الذين عملوا في هذا المسار التحقيقي أن الرقمين الإضافيين أُبقيا احتياطاً، وخاصة أنهما لم يستخدما مطلقاً خلال الأسابيع الثلاثة السابقة لاغتيال الحريري. ما ذكر عن إفادة فيصل بخصوص عدد الخطوط الخلوية هيّن وضعه في خانة المصادفات. وتزداد المصادفة غرابة عندما يتحدث عن الوقت الذي ترك فيه، مع جميل وخالد طه وأحمد أبو عدس، شقة الضاحية الجنوبية. فهو يقول إنهم عادوا للنوم بعدما صلّوا الفجر، واستيقظوا عند العاشرة صباحاً، وخرجوا لتنفيذ العملية. هذا في إفادته. أما بيانات الاتصالات، فتظهر أن أول اتصال أجرته المجموعة التي يعتقد أنها كانت تراقب الحريري صباح اغتياله، جرى عند الساعة 11:00:55 قبل الظهر، من منطقة تشملها محطة إرسال في شارع كاراكاس. ذلك كله، يضعه المشرفون على التحقيق في خانة المصادفات. إلا أن ما لا يجدون جواباً له هو المعلومات التي أدلى بها فيصل، رغم أن المحققين أنفسهم كانوا يجهلونها، ولم يتمكنوا من الحصول عليها إلا بعد مضي أربعة أشهر على ختم التحقيق معه، كقصة شاحنة الميتسوبيشي التي استخدمت في اغتيال الحريري. فطوال عام 2005، والثلث الأول من عام 2006، لم يكن لدى فريق التحقيق اللبناني أو الدولي أي معلومات عن الشاحنة سوى أنها سرقت من اليابان في تشرين الأول 2004. ولم يتمكن المحققون من تحديد المسار الدقيق الذي سلكته قبل إدخالها الأراضي اللبنانية، ولا كيفية عبورها الحدود.
لكن فيصل أكبر، في الشهر الأول من عام 2006، قال خلال التحقيق معه لدى فرع المعلومات إن جميل أخبره بأن الشاحنة اشتُريت من طرابلس! وبعدما تراجع عن اعترافه، أُهمل هذا الجانب من إفادته، وخاصة أن الفكرة التي كانت تسري كحقيقة مطلقة بين المحققين هي أن الشاحنة أدخلت إلى لبنان بطريقة غير مشروعة. كان على المحققين أن ينتظروا حتى يوم 24 نيسان 2006 حتى تثبت لهم الوقائع أن ما قاله فيصل أكبر بشأن الميتسوبيشي صحيح. ففي ذلك التاريخ، نظم فرع المعلومات محضراً ظهر فيه أن الشاحنة دخلت لبنان براً محمولة على مقطورة كبيرة، مع شاحنة أخرى. وقد استقدمت من الإمارات العربية المتحدة براً عبر السعودية ثم الأردن فسوريا، واستقرت في معرض للسيارات قرب طرابلس، حيث اشتُريت بطريقة شرعية، لكن باستخدام أوراق ثبوتية مزورة. وهذه الحقيقة لم تظهر إلى العلن إلا عندما أعلنتها لجنة التحقيق الدولية بعد أكثر من عام، أي في التقرير الثامن الصادر يوم 12 تموز 2007 (الفقرة 24). وبعيداً عن التحليل والاستنتاج، ثمة ثغرة في التحقيق باغتيال الحريري، مرتبطة بإفادة فيصل أكبر، لا تجد من يسدها. فصحيح أن لجنة التحقيق الدولية استمعت إلى إفادات عدد من أفراد مجموعة الـ13. وقد استدعي بعضهم لنحو ست مرات، فيما اكتفى المحققون الدوليون باستجواب أحد أبرز أفراد المجموعة مرتين اثنتين فقط، مدة كل واحدة منهما ساعتان، بينها الوقت الذي استهلكه الشاب في الوضوء والصلاة. كل ذلك يمكن تبريره. لكن ما لا يمكن أن تعثر على تفسير منطقي له، هو أن لجنة التحقيق الدولية والمحكمة الدوليّة من بعدها، لم تستمعا إلى أي من المحققين الستة الذين استجوبوا فيصل أكبر، والذين شهدوا تراجعه، لمعرفة ملابسات ما جرى خلال التحقيق معه. كذلك، فإنها لم تستمع إلى إفادة كل من سمير شحادة أو وسام الحسن. (غداً: أحمد مرعي في مسرح الجريمة)
رسالة إلى خالد طهخلال التحقيق مع فيصل أكبر، لجأ فرع المعلومات إلى خطوة شديدة الغرابة. فبناءً على أوامر قيادة الفرع، طلب أحد المحققين من الموقوف هاني الشنطي كتابة رسالة إلى خالد طه يطلب منه فيها تسليم نفسه إلى القوى الأمنية اللبنانية! وقد سُمح للموقوف بنشر هذه الرسالة على موقع «الحسبة» الإلكتروني، الذي كان يعدّ في تلك المرحلة أحد المنابر التي يستخدمها تنظيم القاعدة لإعلان إنجازاته. الرسالة التي يذكر فيها الشنطي أحمد أبو عدس (مستخدماً لقبه، أي أبو تراب) بقيت منشورة لأيام عدة قبل أن يحذفها المشرفون على الموقع. في تلك الرسالة، يقول هاني الشنطي (اسمه الأمني مروان المهاجر): الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته الأخيار، أما بعد، فهذه يا أخي الحبيب خالد طه رسالة من أخيك مروان المهاجر (هاني)، أطلب فيها أن تسلم نفسك للسلطات، لا على أنك متهم، بل لتجيب عن بعض الملابسات والمساءلات التي تخص موضوع أبي تراب. فهم لا يريدون منك تراجعاً عن فكرة ومنهاج وتوجه تعتقده وتقتنع به، فأنا بحمد الله على فكري ثابت. فالأمر بإذن الله هين وسهل، ولا داعي لتعقيده. فالاستمرار على إصرارك على عدم تسليم نفسك يمثّل تعقيداً للموضوع واتهاماً لك على أنك تخفي شيئاً ولا تريد إظهاره. ولا تستهن بأي معلومة قد تعلمها تجعلك متهماً، لكن هي في الحقيقة قد تكون خيطاً يدل على المجرم الحقيقي، وخيطاً يدل على براءتك من تهم تكون قد ظنت بك بسبب إصرارك على عدم المجيء والإدلاء بشهادتك، وهذا ما تمنيت لو أني فعلته. فلو أني جئت وأدليت بما أعلمه وما اختفيت لما أصبحت الآن موقوفاً ومتهماً بأني أخفي معلومات والله يشهد أني لا أخفي شيئاً، فلا تضع نفسك في هذا الموقف المحرج، فلا تتأخر ولا لحظة وسارع بالأمر، فالأمر هيّن فلا تعقّده كما كان يوماً من الأيام هيناً عليّ وعقّدته بسبب تشبثي كما أنت اليوم متشبث، لكن مع الفارق وهو أن الأوان لم يفتك، فهلمّ وأرح إخوانك أراحك الله دنيا وآخرة، ولا تظن بذلك أني أطلب ما يتناقض مع ما تآخينا عليه من الجهاد وحب الشهادة، فالله وحده يشهد كم تتوق نفسي إلى ساحات الجهاد ونيل الشهادة ورضوان الله، وإنما كلامي على أمر لا يناقض الشريعة، فالصحابة عندما هاجروا إلى الحبشة وقفوا وأجابوا بكل صراحة عن معتقدهم وما يدينون به، وبرأوا أنفسهم من الاتهامات فاستخر الله عز وجل ولا تستصعب الأمر، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أخوك المحب ورفيق عمرك مروان المهاجر ملاحظة: أطلب من مشرفي المنتديات تثبيت الموضوع، وعدم حذفه وإني سائلهم أمام الله على إيصال هذه الرسالة وإبقائها حتى تصل إلى أهلها وإني خصيمه يوم الحساب إن حذفها أو ساعد على عدم إيصالها وجزاكم الله خيراً. الفقير لعفو ربه مروان المهاجر (انتهت رسالة هاني الشنطي). رسالة هاني الشنطي إلى خالد طه، إن دلت على شيء، فإنما تدل على خفة بالتعامل مع هذا الملف، من جانب فرع المعلومات. ويرى أحد الأمنيين المتابعين لقضايا تنظيم القاعدة أن هذه الرسالة، بمجرد وصولها إلى خالد طه، فإنها ستدفعه إلى الحذر، هذا إن لم تكن قد تضمنت رسالة مبطنة له يقول له فيها الشنطي إن فرع المعلومات لا يعرف شيئاً عنه أو عن أحمد أبو عدس. ويربط الأمني ذاته بين رسالة الشنطي والرسالة التي ضبطت في حوزة حسن نبعة، والموجهة من شقيقه مالك إلى خالد طه. فبعد استدعاء مالك نبعة للتحقيق في تموز 2005، ثم إطلاق سراحه، كتب مالك رسالة إلى خالد طه يقول له فيها إن ما يعرفه المحققون عنه وعن أبو عدس ليس سوى «اجتهادات وظنون». وعندما سئل مالك نبعة خلال التحقيق الثاني معه عن سبب بعثه بهذه الرسالة، قال للمحققين: أردت إقناع خالد طه بالمثول أمامكم!
أبو مصعب الزرقاويبين مضبوطات المجموعة، عثر الأمنيون على رسالة موجهة من أبو مصعب الزرقاوي إلى حسن نبعة في منتصف عام 2005، يطلب منه فيها التوجه إلى لبنان، مستخدماً عبارة «اذهب إلى الضيعة». وخلال التحقيق مع بعض أفراد المجموعة، أفادوا بأن الزرقاوي نحّى حسن نبعة عن الإمارة، لأنه غضب منه بسبب الصراع الذي وقع على الأراضي السورية بين المجموعات التابعة لنبعة وتلك التابعة لتنظيم جند الشام (غير التنظيم الموجود في مخيم عين الحلوة)، محملاً إياه المسؤولية عن تقصير المجاهدين. وبناءً على رسالة الزرقاوي، توجه فيصل أكبر في حزيران 2005 إلى العراق لمقابلة أبو مصعب. وبحسب ما تظهر وثائق اطّلعت عليها «الأخبار»، فإن فرع المعلومات زوّد أجهزة أمنية أميركية بمعلومات عن الزرقاوي حصل عليها المحققون اللبنانيون من استجواب أفراد المجموعة. وتضمنت إحدى الرسائل التي بعث بها الأميركيون إلى فرع المعلومات أسئلة لطرحها على الموقوفين، بهدف المساعدة على تحديد مكان وجود أبي مصعب الزرقاوي في العراق!
لؤي السقافي محضر التحقيق مع مجموعة الـ13، يبرز فجأة اسم لؤي السقا. الشاب السوري الموقوف في تركيا، والمتهم بأنه يعمل لحساب تنظيم القاعدة. وقد حكم على السقا في شباط 2007 بالسجن المؤبد، لإدانته بالضلوع في تفجيرات إسطنبول عام 2003. وبحسب إفادات عدد من أفراد المجموعة، فإن السقا كان في إحدى المراحل مرشحاً لتولي منصب أمير التنظيم في بلاد الشام. وكان اسم السقا قد وضع قيد التداول الإعلامي والسياسي ابتداءً من يوم 8/11/2005، عندما بعث برسالة عبر محاميه من داخل سجنه في تركيا، يقول فيها إن ثلاثة أشخاص أجانب زاروه في سجنه، وعرضوا عليه الإدلاء بإفادة أمام لجنة التحقيق الدولية يقول فيها إن العماد آصف شوكت طلب منه إحضار انتحاري من العراق مباشرة قبل اغتيال الحريري. وقال السقا إن زائريه عرضوا عليه الحماية ومبلغاً كبيراً من المال، إلا أنه رفض. بعد إعلان رسالة السقا، أعلن وزير العدل التركي حينذاك فتح تحقيق مع محامي السقا، عثمان قره هان، مؤكداً أن كل ما أدلى به وموكله ليس سوى محض افتراء وكذب. نتائج التحقيق التركي لم تعلن. أما لجنة التحقيق الدولية باغتيال الحريري، فقد استجوبت لؤي السقا في سجنه في آذار 2007، بحسب ما ذكرت وكالة الصحافة الفرنسية آنذاك.
نسب إلى رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط أخيرا، في معرض حديثه عن المأزق الذي يتخبط فيه الحريري الابن، قوله: «إن على الأخير المفاضلة بين أحد خيارين، أن يختار بين رفيق الحريري وسعد الحريري».كان المقصود بذلك أن على الحريري أن يختار بين دم والده الراحل ورئاسة الحكومة، لأن لكل منهما مسارا مختلفا من شأن تلازمهما أن يفضي في لحظة ما إلى تناقض حاد، لا يسعه أن يكون رئيسا لحكومة كل لبنان، وفي الوقت نفسه لا يكتفي بأنه لا يملك حلا لاتهام حزب لبناني عضو في حكومته باغتيال الحريري الأب، بل يلزم الصمت إزاء القرار الاتهامي، خصوصا أن الاتهام المبكر بدأ يطابق بين حزب الله وطائفته.
والعارفون بما هدف اليه السيد حسن نصرالله من توجيه التحية الى الزعيم الدرزي لا يقتصر على الدور الجديد ـ القديم الذي يضطلع به بل يشمل أيضا صراحته واعترافه بأن التسييس ينخر جسم المحكمة الدولية الناظرة في جريمة اغتيال الرئيس الحريري، وقد سمع منه هذا الكلام في اجتماع المصالحة الأول الذي عقده مع جنبلاط قبل صدور مجلة «دير شبيغل» الالمانية في شهر مايو من العام 2009، يومئذ أبلغ نصرالله أكثر من قيادي في المعارضة وقائع ما تضمنه الاجتماع مع جنبلاط بهذا الخصوص، حيث أخبره الأخير بأنه بات على قناعة بأنه لا يمكن ان يتوقع العدالة ومعرفة حقيقة من قتل الرئيس الحريري على يد المحكمة التي تعمل على ما يبدو وفق مخططات مشبوهة لأهداف وغايات سياسية بحتة.
وقال جنبلاط: «اذا كان مروان حمادة متورطا في قضايا شهود الزور فأنا مستعد لرفع الغطاء عنه»، هذا الكلام اعلنه النائب وليد جنبلاط امام وفد من حزب الله زاره لمزيد من التشاور والتنسيق، لكن الكلام الجنبلاطي اتى ردا على مقررات المؤتمر التأسيسي لحزب المستقبل في البيال الذي انتخب بموجبه الزميل علي حمادة في المكتب السياسي بعدما كان جنبلاط يؤكد امام الصقور في حزبه أن مروان وعلي هما من اهل البيت الاشتراكي.
عمر نشّابة نُشرت قواعد الإجراءات والإثبات الخاصّة بالمحكمة الدولية الخاصّة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، في 20 آذار 2009، وخضعت لسلسلتين من التعديلات (في 10 حزيران وفي 30 تشرين الأول 2009). غير أن تلك التعديلات لم تصحّح الثُّغر التي تتيح التلاعب بالتحقيقات الجنائية عبر فبركة معلومات واختلاق شهود وتشويه الحقيقة. وقبل الدخول في مراجعة نقدية لبعض القواعد المثيرة للشكوك، لا بدّ من توضيح أن مراجع «تفسير القواعد» محدّدة في القاعدة الثالثة على النحو الآتي: «تُفسَّر أحكام النظام الحاضر على نحو يتوافق مع روح النظام الأساسي، وعلى نحو يتوافق مع (أ) المبادئ المحددة في القانون العرفي الدولي (...)، و(ب) المعايير الدولية لحقوق الإنسان، و(ج) المبادئ العامة للقانون الجنائي الدولي وقواعد الإجراءات، وعند الاقتضاء (د) قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني، على أن تُحترم القواعد المذكورة بحسب أولوية ترتيبها». يعني ذلك أن معايير قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني تأتي في المرتبة الرابعة والأخيرة. رغم ذلك، لا ينفكّ البعض يصف المحكمة بالمختلطة وبأنها تعتمد روحية القانون اللبناني. ورد في نصّ القاعدة 133 من قواعد الإجراءات والإثبات: احتمال اعتماد «تدابیر خاصة لمنع الكشف للجمهور أو لوسائل الإعلام عن هویة أو مكان وجود متضرر أو شاهد أو أقاربه أو شركائه». وبالتالي تسمح القواعد بشاهد سرّي يعمل لمصلحة جهاز استخباري معاد للبنان (إسرائيلي أو حليف للإسرائيلي) وتسمح القواعد بإخفاء ذلك عن «الجمهور» وعن الأشخاص الذين سيُتّهمون وقد يرفضون المثول أمام المحكمة. ومن التدابير التي يمكن أن تتخذها المحكمة للحفاظ على سرّية الشاهد: «أ. شطب الأسماء وبیانات تحدید الهویة من السجلات العامة للمحكمة»، ما يعني إخفاء أي أثر لهوية ذلك الشاهد في المستندات العلنية وغير العلنية. «ب. عدم الكشف للجمهور عن أیة سجلات تحدد هویة الشاهد. ج. استعمال وسائل تقنیة لتحویر الصورة أو الصوت. د. الإدلاء بالشهادة عبر نظام تلفزيوني مغلق أو نظام المؤتمرات التلفزيونية. هـ. واستخدام أسماء مستعارة». ولا تحديد في القواعد لمنهجية اختيار الأسماء المستعارة، ما يفتح المجال لاستخدام إيحاءات وتلاعب في تحديد الهوية. وأخيراً، تشير القاعدة 133 إلى إمكان «عقد جلسات سریة». أما القاعدة 155، فتذكر: «تقرر غرفة الدرجة الأولى، بعد الاستماع إلى الفريقين، ما إذا كان يتعيّن أن تطلب من الشاهد المثول أمامها للاستجواب المضاد. ولها أن تقرر أن مصلحة العدالة ومقتضيات المحاكمة العادلة والسريعة تبرر استثنائياً قبول الإفادة أو النص المدوّن، كلياً أو جزئياً، بدون إجراء استجواب مضاد». وهنا نسأل كيف يمكن أن تحرم غرفة الدرجة الأولى فريق الدفاع الصادق حقّه في الاستجواب المضاد للشهود، وتكون الإجراءات عادلة؟ لا بدّ من التنويه بأن القاعدتين 133 و155 تنطبقان على الشهود الذين يمثلون أمام غرفة الدرجة الأولى (هيئة المحكمة) أي بعد صدور القرارات الاتهامية وبعد إحالتها من مكتب المدعي العام إلى قاضي الإجراءات التمهيدية، ومنه إلى غرفة الدرجة الأولى. غير أن القاعدة 159 تتناول «الشاهد» من دون تحديد مرحلة الإجراءات القضائية. فالمادة تشير إلى أن الإدانة لا يمكن أن تستند إلى إفادة أدلى بها شاهد سرّي، بينما لا إشارة إلى مرحلة الاتهام، ما يعني أن القرار الاتهامي يمكن أن يستند إلى تلك الإفادة. لكن أبرز الثُّغَر في قواعد الإجراءات والإثبات تظهر بوضوح في نصّ القواعد 74 و115 و116 و117 و118 و137. فالقاعدة 74 تجيز «لقاضي الإجراءات التمهيدية، وفقاً لما تقتضيه مصلحة العدالة، أن يأمر بعدم إعلان قرار الاتهام للعموم أو أية مستندات أو معلومات مرتبطة به» بينما «يجوز للمدعي العام إعلان قرار الاتهام أو جزء منه لسلطات دولة معيّنة إذا رأى في ذلك ضرورة لغرض التحقیق أو الملاحقة». ويمكن أن تكون تلك الدولة معادية للبنان (أو دولة حليفة لدولة معادية للبنان) فالقواعد لا تستثني أياً من الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة. كذلك فإن القاعدة 74 لا تحدّد «ما تقتضيه مصلحة العدالة»، بل قد يخضع ذلك لاقتناع قاضي الإجراءات التمهيدية البلجيكي دانيال فرانسين والمدّعي العام الكندي دانيال بلمار ورئيس مكتب الدفاع الفرنسي فرانسوا رو. القاعدة 115 تجيز «للمدعي العام، في ظروف استثنائية، الطلب من قاضي الإجراءات التمهيدية أو من غرفة الدرجة الأولى إصدار أمر بعدم الكشف مؤقتاً عن هوية المتضرر أو الشاهد الذي قد يكون مهدّداً أو معرضاً للخطر». لا تحدّد القاعدة «الظروف الاستثنائية»، ما يفتح الباب واسعاً لاعتبارات لا علاقة لها بمعايير العدالة. فكيف يُحدَّد كونُ الشاهد مهدّداً أو معرّضاً للخطر؟ هل يُفتح تحقيق بذلك أم يُعتمد على إفادة الشاهد؟ هنا أيضاً يفتح الباب واسعاً أمام اعتبارات لا علاقة لها بتحقيق العدالة. وإذا كان الإبلاغ عن هوية شاهد «قد يؤدّي إلى المساس بالمصالح الأمنية لإحدى الدول أو لإحدى الهيئات الدولية، يجوز للمدعي العام الطلب من قاضي الإجراءات التمهيدية في غرفة المذاكرة، بصورة غير وجاهية، إعفاءه كلياً أو جزئياً من موجب الإبلاغ الملحوظ في القواعد» (القادة 117). من هي الجهة التي تحدد ما إذا كان هناك احتمال «مساس بالمصالح الأمنية»؟ وماذا تشمل «المصالح الأمنية»؟ الكشف عن معلومات استخبارية؟ ألا يمكن أن تكون إحدى هذه الدول (الأعضاء في الأمم المتحدة) إسرائيل؟ فتكون بذلك المحكمة الخاصة بلبنان حريصة على مصالح إسرائيل الأمنية؟ وتتابع المادة 118 «عندما تكون بحوزة المدعي العام معلومات قدّمت له بصفة سرية وتمس بالمصالح الأمنية لدولة ما أو هيئة دولية أو ممثل عنها، لا يعمد المدعي العام إلى إبلاغ تلك المعلومات ومصدرها إلا بموافقة الشخص أو الهيئة التي قدّمتها». ويمكن المدعي العام «اقتراح تدابير موازية (للإبلاغ عن هوية الشاهد السرّي) تتضمّن خصوصاً معلومات جديدة ذات طبيعة مشابهة أو إبلاغ هذه المعلومات بشكل مختصر أو مموّه أو عرض الوقائع المهمة». يفتح ذلك المجال واسعاً أمام التلاعب بالشهادة السرية أو المعلومات المقدمة، ويمكن التأثير على القضاة من خلال ذلك «التمويه».
و«إذا طلب المدّعي العام شاهداً ليقدم كوسيلة إثبات أية معلومات معطاة بموجب هذه المادة (118)، فلا يجوز لقاضي الإجراءات التمهيدية ولا لغرفة الدرجة الأولى إلزام هذا الشاهد بالإجابة عن أي سؤال يتعلق بالمعلومات أو مصدرها إذا امتنع الشاهد عن الإجابة بداعي السرية». القاعدة 137 تتناول كذلك «الجلسات السرية» فتنصّ: «لأسباب تتعلق بالمصالح الأمنية الوطنية لدولة معينة» يجوز لغرفة الدرجة الأولى أن تأمر «بإخراج الصحافة والجمهور من قاعة المحكمة خلال جميع الجلسات أو بعضها». القاعدة 116 تشير إلى أنه إذا كان الإبلاغ عن مصادر بعض المعلومات التي جمعها المدعي العام «لسبب أو لآخر هو مخالف للمصلحة العامة، يجوز للمدعي العام الطلب من غرفة الدرجة الأولى (...) إعفاءه كلياً أو جزئياً من موجب إبلاغ المعلومات المنصوص عليه في القواعد الحاضرة. على المدعي العام، عند تقديمه هذا الطلب، أن يطلع غرفة الدرجة الأولى على المعلومات التي يطلب بقاءها سرية وترفق ببيان يقترح فيه تدابير موازية تشمل خصوصاً تحديد معلومات جديدة وذات طبيعة مماثلة، وتقديم هذه المعلومات مختصرة أو مموّهة، أو عرض الشق الأهم من الوقائع». وبالتالي، يمكن التلاعب عبر التمويه وعبر «اختيار» الشقّ الأهم من «الوقائع». واللافت هنا استخدام مصطلح «الوقائع»، بينما لم تثبت حقيقتها إلا بعد عرضها على المحكمة واتخاذ القرار المناسب بخصوص صدقيتها. لكن قبل كلّ ذلك نسأل: من يحدّد «المصلحة العامة»؟ هل هي مصلحة مجلس الأمن الدولي الذي أنشأ المحكمة؟ وماذا لو تناقضت «المصلحة العامة» مع المصالح اللبنانية؟
تُعتبر الثقة بعدالة المحكمة وتجردها، أية محكمة، من جانب المجتمع المعني بقراراتها، شرطاً أساسياً لفاعلية هذه القرارات وإيجابية أثرها. ولا تشذ عن هذه القاعدة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. فبقدر ما تحوم الشكوك حول نزاهة المحكمة الدولية واستقلالها وتجردها، بقدر ما تتحول النظرة للمحكمة من مصدر للعدالة وإحقاق الحق إلى أداة لإيقاع الظلم.من أسف أن معظم ما قام به بناة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان يدفع إلى التشكيك بتجردها واستقلالها عن المآرب السياسية وينال من صدقيتها، وما يلي هو عيّنة من الأدّلة على ذلك:هذه عيّنة من الأفعال الاستثنائية التي تدفع إلى الحذر وتثير الشبهات حول الأهداف الحقيقية وراء إنشاء المحكمة، والتي قامت بها الدول المنشئة للمحكمة الدولية. ونستثني هنا ما قام به الطرف اللبناني من تنازلات عن حقوق سيادية ومخالفات دستورية كأن يتنازل بعض من السلطة الإجرائية، (بعد استقالة عدد من الوزراء في الحكومة وإبعاد رئاسة الجمهورية عن القرار بشأن إبرام الاتفاقية المنشئة للمحكمة)، عن صلاحية السلطة القضائية في تطبيق القانون بالنسبة لكل الجرائم التي ترتكب في لبنان والتي يفرضها الدستور اللبناني، فضلاً عن مخالفة مبدأ فصل السلطات. 1) الاتهامات والأحكام المسبقة التي كان يطلقها مسؤولون رسميون، وخاصة في الدول التي كانت لها الباع الأطول في إقامة لجنة التحقيق أولاً، ومن ثم المحكمة الدولية، بحق أطراف معينة منذ اللحظة الأولى لاغتيال الرئيس الحريري، وقبل إجراء أي تحقيق أو الحصول على أيّة أدلّة. 2) التجاوزات الهادفة التي ارتكبتها لجنة التحقيق الدولية، برئاسة ديتليف ميليس، بما في ذلك مخالفة معظم أصول التحقيق الجنائي، إن لجهة انتهاك مبدأ سرية التحقيق أو لجهة بلوغ استنتاجات قطعية في أول تقاريرها دون الاستناد إلى أيّة أدلّة مقبولة قانونياً، واستغلال تلك التقارير لاستصدار قرارات تعسفية من مجلس الأمن الدولي. وكذلك اتخاذ إجراءات ليس لها مبرر قانوني، مثل اعتقال الضباط المسؤولين عن الوضع الأمني في لبنان. 3) إنشاء مجلس الأمن، لأول مرة في تاريخه، محكمة دولية هدفها محاكمة المسؤولين عن جريمة لا تعريف ولا عقوبة لها في القانون الدولي، ويطبق بشأنها القانون الوطني حصراً (في وضعنا القانون اللبناني). ويتجاهل مجلس الأمن مجرد التحقيق في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، الذي هو في صلب القانون الجنائي الدولي ومبرر إقامة كل المحاكم الدولية التي سبقت المحكمة الخاصة بلبنان. وقد ارتكبت إسرائيل هذه الجرائم بحق لبنانيين في فترة تلت اغتيال الرئيس الحريري وسبقت إنشاء المحكمة، أي في عام 2006. 4) لأول مرة، ومن المستبعد جداً أن تتكرر، يلجأ مجلس الأمن إلى الفصل السابع من الميثاق الأممي لإنشاء محكمة أساسها القانوني اتفاقية لم تستوفِ الشروط الدستورية لإبرامها، إن لجانب الجهة الصالحة للتفاوض بشأنها، أو لجهة موافقة السلطة التشريعية للدولة عليها التي هي الطرف الأساسي في هذه الاتفاقية، ما يطرح علامة استفهام كبرى حول قانونية المحكمة. 5) لأول مرة تنشئ الدول المقررة في مجلس الأمن محكمة دولية بموجب الفصل السابع لا تنظر بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية التي كانت تعتبرها هذه الدول المبرر الوحيد لإقامة محاكم جنائية دولية بموجب الفصل السابع. 6) ولأول مرة يقيم مجلس الأمن محكمة دولية باللجوء إلى الفصل السابع من الميثاق الأممي لا تموّل من الموازنة العامة لللأمم المتحدة، بل تتولّى تمويلها دول متطوعة هي في الغالب القوى التي عملت على إنشاء المحكمة، بالإضافة إلى لبنان طبعاً، ما يطرح علامات استفهام إضافية بشأن استقلالية المحكمة بقطع النظر عن نزاهة قضائها.
لا سابق للجهود التي بذلتها قوى دولية، وفي طليعتها الولايات المتحدة، بهدف إقامة إجراءات قضائية على الصعيد الدولي للبحث عن قتلة الرئيس الحريري ومعاقبتهم، وهي تدّل على الأهمية التي تنيطها هذه القوى بعملية الاغتيال وآثارها على مصالح سياسية لها. فلم يسبق أن حظي اغتيال شخصية سياسية، مهما علا شأنها، بالاهتمام الدولي الذي لقيه اغتيال الحريري. فاغتيال رئيسة وزراء باكستان مثلاً، بنازير بوتو، التي لا تقل شهرة عن الرئيس الحريري، والتي اغتيلت في ظروف مشابهة، لم يلق اهتمام مجلس الأمن ولا الدول صاحبة القرار في توجهاته.مهما كان الرأي باستقلالية القضاء الدولي ونزاهته وتجردّه، وخاصة في ما يتعلّق بالمحاكم الدولية التي تقام خصّيصاً للنظر في جرائم معينة، مهمّ جداً ألا يصرف النظر عن الأسباب والدوافع الفعلية التي حملت بعض القوى إلى بذل جهود غير مألوفة دولياً لإقامة محكمة فريدة من نوعها في أساسها القانوني واختصاصها وظروف نشأتها.إن استصدار الدول المقتدرة قرارات من مجلس الأمن بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لا يفسّر بحجّة التوق إلى العدالة أو الرغبة في الاقتصاص من الجاني أو الراعي لجريمة قتل مهما علا شأن الضحية. فليس هناك سابقة بهذا الشأن. الجهود تلك لا يبررها سوى مصلحة عليا غالباً ما تكون في نطاق الأمن القومي للدول المقتدرة. إذا كان هذا المنطق مقبولاً، فعلينا إذاً أن نحاول إلقاء الضوء على الدوافع الحقيقية وراء جهود الدول التي بدونها لا يمكن استصدار قرارات من مجلس الأمن الدولي ولا يمكن بالتالي المحكمة أن ترى النور.بعد سقوط الاتهام باغتيال الرئيس الحريري عن السوريين وإطلاق سراح الضباط المعتقلين وإخراجهم من دائرة الاتهام، لننظر بهدوء إلى الجهة التي يمكن أن تكون وراء اغتيال الرئيس الحريري، فنبدأ بتسليط الضوء على ما لحق اغتيال الرئيس الحريري من أحداث وتطورات، وذلك بهدف اكتشاف المستفيد الأكبر وربما الوحيد من هذه الجريمة. على أثر اغتيال الرئيس الحريري أُخرجت سوريا من لبنان وأُلصقت بها تهم اغتياله، اعتُقل الضباط المسؤولون عن الأمن، عمل الإعلام وبعض السياسيين على تشويه صورة الرئيس لحود وإبعاده عن القرار في كل ما يتعلق بإنشاء المحكمة الدولية، أُدخل لبنان في أزمة حكم وانقسام، وشحن مذهبي لا يزال يعانيه حتى الآن. فمن هو المستفيد الأكبر من كل ذلك؟ وبالتالي من يمكن أي يكون وراء هذه الجريمة ووراء إجراءات قضائية مسيّسة؟ وبهدف تظهير الصورة وإكمال الترابط بين الأهداف والنتائج، لنعد قليلاً إلى الوراء:لعّل الانسحاب الإسرائيلي من لبنان عام 2000 كان يصحبه اعتقاد أو أمل القادة الإسرائيليين بأنّ حزب الله كحركة مقاومة سوف يزول بزوال الاحتلال الإسرائيلي. ولكن بعد الإدراك بأنه باق، وبفعالية، وهو يلعب دوراً هامّاً في مساعدة الدولة على بسط سيادتها على الأرض والمياه والأجواء اللبنانية، وهو عامل أساسي في تنمية ثقافة المقاومة وانتشارها، وكان له تأثير في قيام الانتفاضة الفلسطينية الثانية، أصبح القضاء على حزب الله هدفاً استرتيجياً ملحّاً بالنسبة لإسرائيل.حتى عام 2004 كان الوجود السوري في لبنان يحظى بتأييد الولايات المتحدة، وكان يصفه بعض مسؤوليها بأنه عامل استقرار في لبنان. حاولت إسرائيل عن طريق أصدقاء لها في الولايات المتحدة إغراء سوريا في المساعدة على إنهاء الوجود العسكري لحزب الله في لبنان. فقدّم، على سبيل المثال، توم لانتوس، وقد شغل منصب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأميركي وكان من أقرب المقرّبين لإسرائيل، تعهداً للسفير السوري في واشنطن، الدكتور عماد مصطفى، بأنه يضمن لسوريا بقاءً دائماً في لبنان مقابل المساعدة في إنهاء الوجود المسلّح لحزب الله. فلمّا لم يلق العرض الصهيوني ــــ الأميركي استجابة لدى السوريين، أصبح لا بد من وضع خطّة مستقلة متكاملة للقضاء على من اعتبره الرئيس الإسرائيلي، شيمون بيريز، خطراً وجودياً على إسرائيل.من الطبيعي أن تستهدف هذه الخطّة إضعاف حزب الله، عن طريق عزله وتجريده من داعميه ومؤيّديه، وخلق مناخ عدائي له في الداخل اللبناني وفي الخارج. فكان قرار مجلس الأمن الرقم 1559 في أيلول 2004 ويتضمن أهدافاً ثلاثة: (1)الانسحاب السوري من لبنان، أي قطع الرعاية والدعم العربي المباشر والأساسي لحزب الله (2) منع التمديد للرئيس لحّود الذي بصفته الممثل الأعلى للشرعية كان مصدر الدعم الرئيسي لحزب الله في لبنان (3) نزع سلاح المقاومة. وبالرغم من أنّ التجاوزات والأخطاء التي ارتكبها مسؤولون سوريون قد هيأت القسم الأكبر من اللبنانيين للمطالبة بالخروج السوري من لبنان، إلا أنّ القرار 1559 لم يكن بذاته يضمن الخروج السوري السريع من لبنان، فكان لا بّد من حدث يكون بمثابة زلزال سياسي، كما يقول وليد جنبلاط، يحتّم إنهاء الوصاية السورية ويعجّل بها، ويخلق شرخاً مذهبياً يسهل استغلاله في إضعاف حزب الله داخليّاً، فكان اغتيال الرئيس الحريري. وقد تحقق كل ذلك بمساعدة تعبئة سياسية وحملة إعلامية على المستويين الدولي والمحلّي كانت بمنتهى الفعالية.ولإعطاء مصداقية للاتهامات والادعاءات السياسية، بدءاً بما كان يصدر عن البيت الأبيض، وكذلك للحملة الإعلامية التي تشيع بأن سوريا هي وراء اغتيال الرئيس الحريري، ومن أجل إخلاء الساحة الأمنية لتسهيل عمل الاستخبارات الخارجية في زرع الجواسيس وتعميق الفتنة في آن، كان لا بّد من إيجاد هيئة قضائية دولية لاختلاق تهمة تورّط كبار الضباط المسؤولين عن الأمن في لبنان كجزء من المؤامرة السورية لاغتيال الحريري. فتكتسب كذلك عملية تلفيق التهم وجهاً شرعيّاً، إذ يصبح الاتهام قراراً للعدالة الدولية وليس مجرّد ادّعاء أطراف ذات مصالح خاصة. وهكذا كان.أمّا الرئيس لحّود الذي لم ينجح القرار 1559 في منع تمديد مدّة رئاسته، فقد عزله رعاة القرار 1559 وممثّلو الأمم المتحدة للتفاوض على الاتفاقية المنشأة للمحكمة الدولية ولو أدّى ذلك إلى مخالفة الدستور اللبناني في ما يتعلق بإبرام الاتفاقيات الدولية، وبالتالي التشكيك في قانونية المحكمة.
فإذا اعتبرنا أنّ ما يقوله المسؤولون الإسرائيليون عن حزب الله بأنه يمثل خطراً وجودياً على إسرائيل هو جدّي، ومن غير المنطقي التشكيك بذلك لأنّه مصدر أساسي لانتشار ثقافة المقاومة ويرفض الاستسلام للأمر الواقع، فهل من شكّ في أنّ إسرائيل سوف تفعل المستطاع مباشرة ومن خلال أصدقاء وحلفاء لها للقضاء على هذا الهاجس الوجودي.ففي ضوء الأهميّة التي توليها إسرائيل للقضاء على حزب الله، وبالنظر للجهود غير المألوفة التي بُذلت في إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وما سبقها من أحداث وإجراءات على المستوى الدولي، وأخذاً في الاعتبار النفوذ الذي كان يتمتع به أصحاب القرار من أصدقاء الدولة العبرية في إدارة الرئيس بوش في ما يتعلق بالسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وبخاصة داخل البيت الأبيض وفي مجلس الأمن، فهل يجوز استبعاد أن تكون إسرائيل وحلفاء لها وراء اغتيال الرئيس الحريري، وبخاصة من كان لسقوطهم بعده أثر هام في تعميق الشرخ في الداخل اللبناني واستعداء شريحة كبرى من اللبنانيين لحزب الله، وكذلك دور أساسي في إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان؟هذه بعض الاستنتاجات المنطقية المبنية على الوقائع التي تلت اغتيال الرئيس الحريري. أما القرائن على اهتمام إسرائيل بالمحكمة الدولية ودورها في تجريم حزب الله فيمكن ملاحظتها من خلال اهتمام إسرائيل بأن تأخذ العدالة مجراها في لبنان منذ اللحظة الأولى لاغتيال الحريري، ومن خلال تصاريح مسؤوليها وإعلامها عما توصلت إليه المحكمة الدولية بشأن توّرط حزب الله في الجناية التي هزت لبنان وما ستؤول إليه الأوضاع في لبنان بعد صدور القرار الاتهامي عن المحكمة. وحرصاً من إسرائيل على الثأر للرئيس الحريري، أبدت خشيتها من أن يتساهل ابنه، رئيس الوزراء اللبناني، في الثأر لدم أبيه.كل ذلك يثقل كاهل المحكمة لجهة الصدقية والاستقلال عن المآرب السياسية لمنشئي المحكمة بقطع النظر عن نزاهة القضاة القيمين عليها ومهنيتهم.أما بالنسبة للإجراءات القانونية التي تبنّتها المحكمة لضبط عملها، فهناك خروج على الضمانات الأساسية لحقوق المتهمين. وعلى سبيل المثال، وكما أكد رئيس المحكمة أنطونيو كاسيزي في بيان نُشِر في 4 آذار 2009، «تستطيع الدول تقديم معلومات إلى الادعاء أو الدفاع قد تفيد تحقيقاتهما، وذلك سراً بدون أن يكون المتلّقي ملزماً بكشف هوية مانح تلك المعلومات». وبموجب مواد عدة في الإجراءات القانونية للمحكمة، تستطيع إسرائيل أو أية دولة أخرى تزويد المدعي العام لدى المحكمة الدولية بمعلومات قد تكون مزوّرة لا يستطيع الإعلان عن مصدرها إلا إذا وافق هذا المصدر، وإذا أخذنا بالحسبان ما يمكن النشاط الإسرائيلي في ميدان التجسس في لبنان، وخاصة في فرع الاتصالات، أن ينتج من سجلات مزورة، فهل في ذلك مدعاة اطمئنان لتجرد المحكمة وتحصينها واستقلالها عن إرادة بعض منشئيها وأصحاب المصلحة في انحرافها؟ فضلاً عن ذلك، مثّل قرار المحكمة بعدم صلاحيتها في ملاحقة شهود الزور الذين كان لهم الدور الأبرز في الظلم الذي صدر عن لجنة التحقيق الدولية، وهو ظلم شارك فيه القضاء اللبناني، عاملاً إضافياً في تقويض الثقة بتجرّد المحكمة واستقلاليتها في البحث عن الحقيقة.
إذاً، ما العمل؟
لا بد من إنشاء هيئة قوامها أفراد مشهود لهم بالنزاهة والكفاءة المهنية، ويتمثل فيها: الأطراف السياسية في لبنان كافة، ومهمتها القيام بالتحقيق في كل ما هو متوافر من أدّلة بشأن اغتيال الرئيس الحريري، والذين سقطوا بعده، وأن تضع هذه الأدلة أمام المحكمة الدولية. ففي ذلك فوائد عدة: أولاها استعادة بعض السيادة التي تنازل عنها لبنان من خلال القبول بتحويل حق وواجب القضاء اللبناني في تطبيق القانون اللبناني بشأن جريمة ارتُكبت في لبنان. ومن شأن مثل هذه الخطوة تعطيل عوامل الفتنة ورأب الصدع الذي بدأ يتعمق داخل المجتمع اللبناني على أثر اغتيال الرئيس الحريري وتولّي أطراف خارجية التحقيق وإقامة المحكمة. وكذلك وربما الأهم هو مساعدة المحكمة في تحصين تجردّها واستقلالها عن إرادة صانعيها وإزالة الشوائب التي رافقت نشأتها. ولا يجوز القول إن في ذلك مساساً بنزاهة المحكمة واستقلاليتها، أو بالمبادئ الضامنة لبلوغ العدالة. مبدأ أساسي من مبادئ العدالة في القضاء الجزائي هو الفصل بين التحقيق والمحاكمة. أمّا إذا بادرت الدول المنشئة للمحكمة إلى إلغائها، فتكون قد أوضحت هدفها من وراء إنشاء المحكمة ووفرت على لبنان المطالبة بإلغائها.
داود خير الله
ابراهيم الأمين مَن يعرض سيناريوات الأطراف المعنية بالمحكمة الدولية، داخلياً وخارجياً، يجد نفسه أمام مشهد سوريالي، لا قاعدة له سوى الحسابات السياسية التي لا تتّصل بأيّ عمل مهني ـــــ احترافي ذي صدقية. ومن أبدى إعجابه وموافقته وثقته بمن جيء بهم من الخارج لتحقيق العدالة في لبنان، هو نفسه الفريق الذي يحتاج بين وقت وآخر إلى تعديل في صياغاته وفي معلوماته وفي أدلّته المفترضة، التي تقود إلى نتيجة واحدة هي: تصفية الحسابات بدل الوصول إلى الحقيقة. بعد أيام قليلة على اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط عام 2005، سارع فريق سياسي وإعلامي وأمني محسوب على الولايات المتحدة الأميركية والأجهزة الأمنية الغربية قبل أن يتألف في إطار لبناني، إلى وضع لائحته الاتهامية. قرر فوراً أن كل خصوم الحريري في لبنان وسوريا والمنطقة هم من يقف خلف الجريمة. ولم يمض وقت طويل حتى تحوّل الاتهام إلى شعار واحد أحد لكل نشاط سياسي أو مدني أو إعلامي أو اجتماعي. وصدر نوع من الحرم على كل من يخالف هذا الاستنتاج. وهو أمر قاده فريق بشري، له اسم وله عنوان وله هوية وظيفية. وهو لا يزال حتى اللحظة ينتشر بيننا، بالأسماء والعناوين والوظيفة نفسها، لكن مع لسان آخر، وشكل آخر من الحديث والإعلان. هل يتذكر اللبنانيون السجال الذي دار حول ما إذا كان انفجار السان جورج قد وقع من تحت الأرض أو من فوقها؟ هل تتذكرون تلفزيون «المستقبل» وبرامج التسلية المسائية وهي تعرض الوثائق والمعلومات والخرائط؟ هل تذكرون محمد قباني، كيف كان يعرض رأيه بصفته مهندساً وخبيراً أمنياً محلفاً؟ أو تذكرون تصريحات بهية الحريري عن أن الدرك أتوا بقطع سيارة ورموها في أرض الجريمة لتعمية الحقيقة التي تقول بأن الانفجار حدث من خلال عبوة زرعت تحت الطريق؟ هل تذكرون فريق الحريري ووليد جنبلاط وآخرين من أبناء وأولاد غازي كنعان، وهم يشرحون لنا كيف أن رئيس الجمهورية إميل لحود وقائد حرسه الجمهوري مصطفى حمدان أدارا الأشغال قرب مكان الانفجار ومررا المتفجرات؟ وكيف أن الأجهزة الأمنية السورية واللبنانية تولت عملية التنسيق؟ هل تذكرون كيف امتلأت الشاشات والصحف والمنابر التي تشرح لنا كيف أن قادة الأجهزة الأمنية اللبنانية، ومعهم قادة من أجهزة أمنية سورية، قد اجتمعوا في شقة في الضاحية الجنوبية وخططوا للعملية ثم عمدوا إلى تنفيذها، لذلك قرر القضاء اللبناني تنفيذ توصية ديتليف ميليس باعتقال الضباط الأربعة والعمل على طلب اعتقال ضباط سوريين آخرين؟ هل تذكرون كيف أنّ قادة الأجهزة هؤلاء هم الذين خططوا ونفذوا ومسحوا آثار الجريمة من دون أن يعاونهم أي شخص آخر، لا مرافق ولا سائق ولا مخبر ولا عامل ولا أي أحد؟ هل تذكرون كيف اعتقل الأخوان عبد العال لأنهما تحدثا على الهاتف مع القصر الجمهوري أكثر من مرة بعد حصول الجريمة؟ هل تذكرون كيف تطابقت وجهة الاتهام ومشاعر الجماهير قبل حصول الاعتقال، بأن رفعت صور الضباط الأربعة في التظاهرات؟ هل تعرفون كيف طُبعت هذه الصور ومن تولى الأمر ومن رتّب شعارات الحقيقة وغيرها؟ أو هل عرفتم من كان يقف خلف كل هذه الحيلة التي انطلت على الناس وأوقعتهم في رعب العدالة ما عدا قلة قليلة صمدت وسرعان ما توسعت لتمنع تنفيذ مؤامرة قذرة شارك فيها وزراء حاليون ونواب حاليون وسياسيون حاليون وقضاة حاليون وأمنيون حاليون وإعلاميون حاليون ومخبرون حاليون؟ هل تذكرون كيف وصل ديتليف ميليس إلى بيروت، وكيف رُتبت أموره على عجل، من اللقاءات الاجتماعية على أنواعها، الى رحلات الاستجمام على اختلافها، إلى كل أنواع الإحاطة التي يشتهر بها ثوار الأرز وعملاء أميركا وغيرها؟ هل تذكرون كيف عُدّ كل من يعارض حكم 14 آذار شريكاً في قتل الحريري؟ وكيف أن كل تحقيق أمني أو قضائي أو علمي يخالف نتيجة الاتهام السياسي هو تحقيق مشبوه ومرفوض وملعون؟ هل تتذكرون كيف شُغل الناس في إعطاء تفاصيل لحكايات ليست معروفة المصدر، ثم كيف كانوا يتوقعون الخطوات اللاحقة من الحرب على المقاومة في لبنان؟ هل تذكرون كيف كان مقرراً إغلاق صحف بالمال أو القمع، وكيف كان مطلوباً الحجز على محطات إعلامية تلفزيونية، وكيف كانت قوى سياسية وشخصيات معرضة للاعتقال والتشهير لأنها لا توافق على الاتهام السياسي؟ هل تذكرون كيف عاش اللبنانيون أشهراً طويلة في ظل استنفار لا سابق له أمنياً وسياسياً وإعلامياً؟ هل تذكرون كيف وُجِّهت التحيات إلى الجيش اللبناني لأنّه سهّل التظاهرات ثمّ كاد يُمنَع من التحرّك والعمل وأُغلقت الأبواب أمام أي مساهمة لاستخباراته في التحقيق وخلافه؟ هل تذكرون شهود الزور الذين يجري تداول أسمائهم الآن، أو الذين لا يزالون إلى اليوم طيّ الكتمان، وهم يقدمون لنا روايات لم يجرؤ كاتب بوليسي على تخيّلها؟ وهل تذكرون كيف صار الناس يشتم بعضهم بعضاً في الشوارع، ويُطرد هذا من عمله، ويُمنع آخر من دخول مدرسته أو جامعته، وكيف يُنقل هذا الموظف من دائرته لأن أصحاب الياقات البيضاء لا يوافقون على وجهه ومحيّاه؟ كل ذلك حصل تحت ستار الغبار الكثيف لأكبر جريمة عرفها لبنان منذ نهاية القرن الماضي. تلك الجريمة التي جرّت على لبنان ويلات ولا تزال، فيما نحن الآن على عتبة فصل جديد من هذه الجريمة المتمادية. خلال السنوات التي مرّت، شارك وزراء في الحكومات الثلاث السابقة، ونواب بعضهم لا يزال في المجلس النيابي، وموظفون كبار لا يزال بعضهم في الخدمة الفعلية، وقضاة لا يزالون يشغلون مناصب رفيعة، وضباط كبار من الجيش وقوى الأمن الداخلي والأجهزة الأمنية، وكوادر ناشطون في أحزاب سياسية وجمعيات أهلية ومنظمات غير حكومية، وإعلاميون ينتشرون كالفطر في وسائل إعلامية داخلية وخارجية... كل هؤلاء شاركوا في أقذر عمل استهدف النيل من أشخاص ومجموعات بأكملها، ومن دولة وجمهور ومن مقاومة كانت ولا تزال هي الهدف. كل ذلك، ولم يرفّ جفن لأحد من هؤلاء. هؤلاء هم الذين كذبوا على الناس وتبنّاهم سعد الحريري، ثم صار يكذب مثلهم على نفسه وعلى أهل بيته وعلى ناسه وجمهوره وعلى مواطني بلده. هؤلاء هم الذين فبركوا الاتهامات والأدلة. هؤلاء أنفسهم يعملون اليوم على نقل الاتهام مباشرة إلى المقاومة، وهم أنفسهم الذين يريدون جر البلاد إلى أكبر الفتن والحرب الأهلية التي تنفخ في نارها خطابات السفهاء وقليلي الحياء. هل يتحمّل لبنان مغامرة جديدة، أم وجب تكنيس هؤلاء من مواقع المسؤوليّة لمرّة واحدة وأخيرة؟
أقرّ رئيس الحكومة، أمس، بوجود شهود الزور وبأنهم ضللوا التحقيق وألحقوا الأذى بسوريا ولبنان. وفيما تحفّظ زعيم المختارة على تفسير سبب هذه الخطوة، فـ«المهم أننا عدنا»، فإن هناك من قابلها بالصمت وإقفال الهواتف لا يُحسد رئيس الحكومة سعد الحريري على موقعه الحالي. فالرجل الذي تمنّى في أحد مجالسه الخاصة أن «أنام وأصحو في اليوم التالي لأجد أن لا مشاكل ولا توتر في لبنان، لا محكمة دولية ولا قرار ظنياً ولا شيء يعكّر الأوضاع»، بدا أمس في حديثه إلى صحيفة الشرق الأوسط كأنه بدأ خطواته الأولى على طريق تحقيق حلمه. صحيح أنّ نجل الرئيس المغدور رفيق الحريري بقي في حديثه الصحافي، الذي نشر أمس، على موقفه من موضوع المحكمة الخاصة بجريمة اغتيال والده، إلا أن ما قاله لم يكن قليلاً، وخصوصاً أنها المرة الأولى التي يقرّ فيها زعيم فريق 14 آذار بوجود شهود زور. وقد ذكر العبارة حرفياً، إذ بعدما بدأ بالحديث عن وجود «أشخاص ضلّلوا التحقيق، وهؤلاء ألحقوا الأذى بسوريا ولبنان، وألحقوا الأذى بنا كعائلة الرئيس الشهيد، لأننا لا نطلب سوى الحقيقة والعدالة، ولم نطلب أكثر من ذلك»، أردف بالقول «وشهود الزور هؤلاء خرّبوا العلاقة بين البلدين وسيّسوا الاغتيال. ونحن في لبنان نتعامل مع الأمر قضائياً». وحاول تحييد المحكمة عن قضية شهود الزور والتسييس، بالقول «للمحكمة مسارها الذي لا علاقة له باتهامات سياسية كانت متسرّعة (...) فالمحكمة لا تنظر إلا في الدليل، وهناك إجراءات قانونية معروفة من ادّعاء ودفاع وغيرهما». وعندما سئل عن التسرّع في الاتهامات، ردّ بأن «الاتهام كان سياسياً، وانتهينا منه، وفي عداد شهود الزور اثنان في السجون اللبنانية، وآخر مطلوب للقضاء اللبناني بتهمة المشاركة في اغتيال الرئيس الشهيد». ونفى معرفته بمضمون القرار الاتهامي، وقدرته على التدخل فيه «ولا أحد يستطيع ذلك. كل ما أطلبه هو الحقيقة والعدالة».
نجار وبلمار
في هذه الأثناء، تبيّن أن وزير العدل إبراهيم نجار قد باشر سلسلة من الخطوات في إطار سعيه إلى وضع ملف شهود الزور ضمن إطار مهني. وهو توجّه إلى النيابة العامة سائلاً عمّا لديها من معلومات عن الملف، فوصله الجواب أن لبنان التزم بالاتفاق مع المحكمة الدولية، وأودعها النسح الأصلية عن كل ملفات التحقيق الذي جرى في لبنان أو التي حصل لبنان عليها، وذلك ضمن إجراء نقل الاختصاص كاملاً إلى المحكمة الدولية، ما دفع نجار إلى مراسلة المدّعي العام الدولي دانيال بلمار سائلاً إياه تزويده بما لديه من معلومات عن شهود الزور، وخصوصاً أن نجار كان قد حصل من جهات عدة في الحكومة على ملفات تخص خمسة على الأقل من شهود الزور الذين وردت معلومات بشأنهم في تقارير لجنة التحقيق سابقاً أو أدلوا بتصريحات. وطلب نجار من بلمار تزويده ما لديه من معلومات في هذا الشأن، بالطريقة نفسها التي طلب بها اللواء جميل السيد الملفات والمعلومات من بلمار، وهو الطلب الذي لا يزال ينتظر قرار قاضي الإجراءات التمهيدية دانييل فرانسين والمرتقب خلال عشرة أيام. وعلم أن نجار لم يكن حتى أمس قد تلقّى أي جواب رسمي على طلبه من بلمار، الذي تردّد أنه ينتظر قرار فرانسين قبل بتّ الأمر.
التحوّل الحريري
وفيما علم أن نجار سيُطلع مجلس الوزراء الذي سيُعقد اليوم استثنائياً، بسبب سفر الحريري إلى السعودية غداً لأداء العمرة، على ما توافر لديه في ملف شهود الزور. فإن مفاجأة رئيس الحكومة في ما خصّ هذا الملف لم تقتصر مفاعيلها على الحلفاء الذين أصيبوا بالصمت المطبق أمس، والخصوم الذين رحّب بعضهم وحذّر البعض الآخر من «الذي جرّب المجرّب كان عقله مخرّب»، بل سبّبت ما يشبه الضياع وسط أفراد طاقم تيّاره السياسي والإعلامي، الذين عجزوا أمس عن تفسير خطوة زعيمهم، حتى إن نواباً من المستقبل فضّلوا إقفال هواتفهم ليتجنّبوا أي سؤال أو تحليل.
لكن سرّ التحوّل الحريريّ لم يبق طيّ الهواتف المغلقة، إذ إن متابعين لما يجري يشيرون بداية إلى أن دمشق ملّت من كون رئيس الحكومة يزورها ويلجأ إلى رئيسها «للاتقاء من شرّ حزب الله، ويتدلّل على المسؤولين السوريين»، وبعدما يسمع الرأي الآخر يقول في ختام المحادثات: «نعم فهمت ما تقصدونه، سنقوم بهذا ونعمل ذاك»، وعندما يعود إلى بيروت «لا يقوم بأي شيء». ولذلك سمع الحريري خلال زيارته الأخيرة كلاماً واضحاً من أحد المسؤولين، وأهمه أن «المقاومة خط أحمر وليس فؤاد السنيورة». ومع ذلك، يسارع زوار سوريا إلى القول إن السرّ لا يكمن في السحور الدمشقي، فـ«الزيارة الأخيرة كانت الأقل إنتاجية من كل الزيارات السابقة»، وكان الأهم منها هو اللقاء بين رئيس فرع المعلومات العميد وسام الحسن ورئيس فرع الاستخبارات في دمشق وريفها اللواء رستم غزالي. فبعد فشل كل الكلام السوري في دفع الحريري إلى اتخاذ خطوات جدية تبرهن عن صفاء علاقته مع سوريا وتسهم في الدفاع عن المقاومة، تلقّى نصيحة بلقاء النائب وليد جنبلاط الذي كان قد طلب من القيادة السورية إعطاءه فرصة لإقناع الحريري بالخطوط العريضة التي يجب أن تسير عليها القافلة «المستقبلية» في هذه المرحلة، وخصوصاً في موضوعي المحكمة الدولية والتهدئة الداخلية. ويبدو أن جنبلاط استطاع القيام بالمهمة التي وعد بها السوريين، فقال الحريري ما قاله أمس، رغم أن الأول يرفض نسب الأمر إلى نفسه مباشرة، وقال لـ«الأخبار» إنه يعتقد أن الحريري مقتنع بالعلاقة الشخصية مع الرئيس السوري والعلاقة السياسية مع دمشق، «هذا اقتناعه، وهذا أفضل من أن يكون أحد قد أقنعه بها»، مضيفاً «هذا الأمر يعيدنا إلى نظرية الـ«س.س» والطائف ـــــ اللذين يريد بعض اللبنانيين نسيانهما ـــــ فالذي بنى الطائف هو السعودية والرئيس حافظ الأسد والرئيس رفيق الحريري، ضمن الثوابت التي نعرفها جميعاً من الهدنة وتلازم المسارات، كما في مدريد وبعدها والعروبة وتحرير مزارع شبعا والحوار الوطني على أساس تلازم مسارات الجيش والشعب والمقاومة. هذا هو الإطار العريض الذي وضعناه منذ حرب الجبل ومشينا به». ويتابع جنبلاط بصيغة الجمع «جنحنا في الـ2005 يميناً أو غربياً، سمّها كما تشاء. ولكن المهم أننا عدنا. أحياناً نضيع في التفاصيل مثلما جرى في برج أبي حيدر، ولكن علينا أن نلتزم بالثوابت. دوري أنا أن أذكّر الجميع بهذه الثوابت، والحريري مرتاح للعلاقة الشخصية (مع الأسد)، ولكن علينا ترجمتها، وهنا ذكّرت أنا بالعناوين الكبرى، وعلينا ألّا نقع في وهم الوصول إلى حل شامل في المنطقة». وإذ يرى متابعون لطريق دمشق في اعتراف رئيس الحكومة بوجود تضليل للتحقيق «تمهيداً لخطوة التخلّي عن المحكمة»، يربط زوار الرياض استعجاله في تنفيذ الطلبات السورية بتخوّفه من استبعاده ولو مؤقتاً عن كرسي الرئاسة الثالثة، ناقلين أن الملك السعودي بات شبه مقتنع بإمكان إجراء تعديل حكومي، يمكن من خلاله تجنّب تداعيات المحكمة وقرارها الاتهامي. لكنّ الرئيس الشاب طلب إعطاءه مهلة لمعالجة الأمور.
حسن عليق ليس غسان الجد شخصية مجهولة في عالم مكافحة التجسس. فجهاز أمن المقاومة رصد تحركاته في أكثر من منطقة، منذ نهاية 2005. وفي 2006، سلم حزب الله معطيات عنه إلى فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي، ليتحقق الفرع من هذه الشبهات، تمهيداً لتوقيفه. بعد ذلك، تعززت المعطيات الموجودة في حوزة جهاز أمن المقاومة عن الرجل، وقتَ توصلت مديرية استخبارات الجيش إلى معطيات مرتبطة ببيانات الاتصالات الهاتفية، تشير إلى تورّط الجد بالتعامل مع الاستخبارات الإسرائيلية. كان ذلك في أيار 2009. وعندما رصدت استخبارات الجيش، أرضياً، منزل العميد المتقاعد من الجيش، تبين أنه ليس موجوداً في منزله. بعض التحريات الإضافية أظهرت أن الرجل غادر إلى فرنسا. ومنذ ذلك الحين، لم يعد. في مؤتمره الصحافي أول من أمس، لم يشأ الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، رداً على سؤال طرحته عليه «الأخبار»، الكشف عن الجهاز الأمني اللبناني الذي تسلّم من حزب الله معلومات عن وجود شبهات حول العميل الفار غسان الجد. قال نصر الله مبتسماً إنه لا يريد «فتح مشكل في البلد». لكن قليلاً من التدقيق في هذه المسألة يظهر أن الجهاز الأمني الرسمي الذي قصده نصر الله ليس سوى فرع المعلومات (علماً بأن جريدة «اللواء» المحسوبة على فريق الرئيس سعد الحريري السياسي، نشرت أمس أنّه مديرية الاستخبارات في الجيش). ففي النصف الأول من 2006، لم تكن العلاقة بين حزب الله وقيادة الفرع (ومن خلفها الرئيس سعد الحريري) قد وصلت إلى هذا الدرك من التشكيك المتبادل. وفي أحد اللقاءات التي جمعت رئيس الفرع العقيد وسام الحسن ورئيس لجنة الارتباط والتنسيق في حزب الله وفيق صفا، تحدّث الطرفان عن مسألة مكافحة شبكات التجسس العاملة لحساب الاستخبارات الإسرائيلية. قال الحسن إن فرع المعلومات غير قادر على التوصل إلى معطيات تمكنه من توقيف أشخاص عاملين لحساب الاستخبارات الإسرائيلية، طالباً مساعدة حزب الله. ردّ صفا بأنه سيأتي بالخبر اليقين خلال أيام معدودة. وبالفعل، جرت اتصالات بين الرجلين خلال الأيام اللاحقة، قبل أن يسلّم صفا الحسن معطيات تشير إلى الاشتباه بتعامل خمسة أشخاص لبنانيين مع الاستخبارات الإسرائيلية. وبين هؤلاء كان اسم غسان الجد، العميد المتقاعد من الجيش اللبناني، والرقيب الأول في قوى الأمن الداخلي هيثم السحمراني. يقول معنيون بعمل فرع المعلومات إن محققين منه دققوا في بيانات الاتصالات الهاتفية للأشخاص الواردة أسماؤهم في التقرير الوارد من حزب الله، «ولم يلفت نظرهم ما يثير الريبة». وخلال الأشهر اللاحقة، أتت حرب تموز وما تلاها من انقسام سياسي في البلاد. أهمل فرع المعلومات المعطيات التي كانت بين يديه، ولم يقم بأي تحرك للتثبّت منها، ما عدا الارتكاز على تحليل «بدائي» لبيانات الاتصالات الهاتفية. فالفرع، على حد قول مسؤولين فيه، لم يكن قد حصل بعد على برامج معلوماتية تمكنه من تحليل الاتصالات الهاتفية على نحو متطور. لكن ما لا يمكن تبريره حتى اليوم، هو أن فرع المعلومات، المعنيّ بالأمن العسكري في قوى الأمن الداخلي، لم يضع السحمراني تحت المراقبة، رغم وجود معلومات لديه عن أن شقيقة السحمراني هربت قبل سنوات إلى فلسطين المحتلة مع أحد عملاء ميليشيا لحد. ففرع المعلومات يعتمد حصراً في مكافحة التجسس على تحليل البيانات الهاتفية. كذلك فإنه ظن، بحسب أحد المعنيين بعمله، أن حزب الله «يحاول اختباره في ملفات لا قيمة لها، إذ إن الشبهة التي تدور حول هؤلاء الأشخاص ضعيفة جداً». هذا ما كان يردده أحد أبرز المعنيين بعمل فرع المعلومات، حتى أيار 2009. ففي ذلك الحين، طلبت مديرية استخبارات الجيش من قوى الأمن الداخلي (وفقاً لما هو متبع بين المؤسستين) توقيف الرقيب الأول في قوى الأمن الداخلي هيثم السحمراني، بسبب وجود شبهات بتعامله مع الاستخبارات الإسرائيلية. نفذ فرع المعلومات طلب استخبارات الجيش، وأوقف السحمراني. وبحسب معنيّ بالتحقيقات التي أجريت حينذاك، فإن السحمراني أقر مباشرة بتعامله مع الاستخبارات الإسرائيلية، «وأدلى باعترافات لدى محققي فرع المعلومات مطابقة لما هو وارد في الملف الذي قدمه حزب الله إلى الفرع». في اليوم التالي لتوقيفه، أحال فرع المعلومات السحمراني على مديرية استخبارات الجيش، حيث حُقِّق معه لساعات، أقرّ خلالها بتفاصيل صلته بالاستخبارات الإسرائيلية. المفاجآت في هذا الملف لم تقتصر على السحمراني. ففي الشهر التالي، توصلت مديرية استخبارات الجيش إلى معطيات تقنية يمكن من خلالها ربط العميد المتقاعد من الجيش، غسان الجد، بالاستخبارات الإسرائيلية. حاولت توقيفه، إلا أنه كان قد فرّ إلى خارج لبنان. وبحسب مصدر مطّلع، فإنّ عملية الفرار جرت بعد حصول المشتبه فيه على إشارات معيّنة لم يُعرف ما إذا كانت تسريباً مقصوداً أو معلومات وفّرتها له إسرائيل. ذلك أنه عندما تقرر توقيف الجد، أبلغ قائد الجيش العماد جان قهوجي وزير الدفاع إلياس المر بالأمر، فطلب الأخير التمهّل لبعض الوقت، لكنّ الجد سافر في اليوم التالي إلى خارج لبنان. ومنذ ذلك الحين، أظهرت البيانات الهاتفية التي حللها محققو فرع المعلومات واستخبارات الجيش، والمعلومات التي جمعتها استخبارات الجيش، أن غسان الجد ينتمي إلى «طبقة العملاء التنفيذيين». فبحسب مسؤولين أمنيين معنيين بملفات مكافحة التجسس، ينقسم العملاء إلى فئات عدة، أبرزها فئتا العملاء الاستعلاميين والعملاء التنفيذيين. عملاء الفئة الأولى مكلفون جمع معلومات إما بوسائط بشرية، أو من خلال أجهزة ومعدات يزودهم إياها الإسرائيليون. ويستفيد الإسرائيليون من بعض هؤلاء العملاء الذين ينفذون مهمات «لوجستية» متصلة، على نحو غير مباشر، بعمليات أمنية أو اغتيالات ينفذها الإسرائيليون. وخير مثال على ذلك، يضيف الأمنيون، الدور الذي اعترف الموقوف أديب العلم بتنفيذه في عملية اغتيال الأخوين المجذوب في صيدا، في أيار 2006. ففي ذلك الحين، لم يكن العلم يعرف شيئاً عن عملية الاغتيال، بل إن ما طلبه منه مشغّلوه الإسرائيليون انحصر في مراقبة الخط الساحلي في مدينة جبيل، وتحديد ما إذا كان ثمة تحركات مريبة أو دوريات أمنية وعسكرية. وربط الأمنيون المعنيون بين هذه المهمة التي نفذها العلم، وما كان قد اعترف به العميل محمود رافع الذي شارك في اغتيال الأخوين مجذوب. فقد قال رافع إنه نقل ضابطاً إسرائيلياً من الحدود الجنوبية في اليوم السابق لتنفيذ الجريمة، ثم أقلّه إلى شاطئ مدينة جبيل بعد التنفيذ، حيث حضرت قوة كوماندوس إسرائيلية لتأخذ الضابط. أما الفئة الثانية من العملاء، فتضم التنفيذيين، الذين تتضمن مهماتهم جمع معلومات. إلا أن عملهم الرئيسي هو تنفيذ الأعمال الأمنية، كالاغتيالات والتفجيرات وأعمال المراقبة السابقة لها، وإعداد الشؤون اللوجستية المرتبطة بها، فضلاً عن نقل ضباط إسرائيليين إلى داخل الأراضي اللبنانية وإيوائهم ونقلهم إلى المناطق التي سيخرجون عبرها من لبنان، سواء من البحر أو البر. كذلك يتولى هؤلاء عمليات زرع البريد الميّت. ومن أبرز الأمثلة على هؤلاء، العميلان محمود رافع (أوقف عام 2006) وجودت حكيم (عام 2009).
وينتمي غسان الجد إلى فئة العملاء التنفيذيين. فبحسب المعلومات التي توافرت عنه للأجهزة الأمنية اللبنانية، كان الرجل يتنقل في مناطق زرع البريد الميت، الوعر منها والسهل. وكان يضع في هذه الأماكن متفجرات وأموالاً، وأجهزة اتصال ورسائل، ليأتي من بعده عملاء آخرون لتسلم هذه الأغراض. وكان يشتري بطاقات هاتف خلوي، ويرسلها إلى مشغّليه الإسرائيليين. وقد شارك الرجل، أكثر من مرة، في نقل ضباط إسرائيليين من شاطئ البحر إلى داخل الأراضي اللبنانية، وهو ما كشف عنه الأمين العام لحزب الله في مؤتمره الصحافي أول من أمس. أما أبرز ما قاله نصر الله عنه، فهو أن الجد كان موجوداً في منطقة السان جورج، في اليوم السابق لاغتيال الرئيس رفيق الحريري.
العلم واغتيال غانم
«مصادفات» وجود العملاء في مسارح عدد من الجرائم لا تقتصر على وجود الجد في منطقة السان جورج. فبحسب معلومات موثقة، تبين لفرع المعلومات بعد توقيف أديب العلم عام 2009، من خلال بيانات اتصالاته الهاتفية، أنه كان موجوداً في منطقة سن الفيل، على مقربة من مكان اغتيال النائب أنطوان غانم، قبل نحو ساعتين على وقوع الجريمة. وعندما سُئِل العلم عن هذه «المصادفة»، أجاب بأنه كان قد أوصل زوجته إلى صالون تزيين قريب. زوجته الموقوفة بالتهمة ذاتها، أكدت ما أدلى به زوجها، فتوقف التحقيق بهذه المسألة عند هذا الحد. «مصادفة» غريبة لعميل كان الإسرائيليون قد كلفوه تنفيذ استطلاع شاطئ منطقة جبيل، تمهيداً لإجلاء أحد ضباطهم منها، قبل سنتين من اغتيال غانم.
المحكمة: بلمار مستعد للتدقيق في أدلة جدّيةفي مؤتمره الصحافي أول من أمس، أكد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، أن المعلومات التي كشفها ليست أدلة قطعية، بقدر ما هي معطيات يمكن الاستناد إليها لفتح تحقيق في فرضية أن تكون إسرائيل تقف خلف عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري. من الناحية القانونية، يقول أحد القضاة اللبنانيين إن نصر الله أصاب في وصفه. «فما ذكره لا يرقى إلى مستوى الدليل. إلا أنه ممّا لا يمكن تجاهله، إذ إن التحقيق مع المشتبه فيه بالتعامل مع الاستخبارات الإسرائيلية، غسان الجد، واجب في هذه الحالة، ولو بصفة شاهد على أقل تقدير». كذلك فإن التحقيق في المعطيات التي قدّمها نصر الله عن حركة الطيران الإسرائيلي بحاجة إلى التوسع بها، تمهيداً لحسم علاقتها بالجريمة أو عدمها. وبحسب القاضي اللبناني، فإن كلام نصر الله يمكن تحويله إلى إخبار، لو كانت القضية مرفوعة أمام القضاء اللبناني، إذ إن تنظيمه في تقرير مفصّل من محامين، أو من الضابطة العدلية، كان سيمكّن قاضي التحقيق العدلي في الجريمة من ضم هذه المعطيات إلى ملف التحقيق والاستناد إليها للتوسع في عمله. بدوره، يقول المحامي والأستاذ الجامعي وسيم منصوري، إن ما تقدم به نصر الله «يؤكد بتسلسل منطقي وجود قرائن قوية تشير إلى إمكان إدانة إسرائيل بارتكاب الجريمة». وبحسب منصوري، فإن مراجعة التقارير التي قدمتها لجنة التحقيق الدولية السابقة إلى مجلس الأمن الدولي، «تظهر أن ثمة تعقيداً كبيراً في عملية اغتيال الحريري، وأن من ارتكب الجريمة قام بها مستخدماً وسائل تقنية متطورة». ويخلص منصوري إلى القول إن لدى إسرائيل الدافع لتنفيذ الجريمة، والمصلحة والتقنيات التي استخدمتها لمراقبة شخصيات تعرضت للاغتيال، كذلك فإنها نفذت سابقاً عمليات اغتيال بحسب ما هو ثابت في اعترافات عدد من العملاء وفي أحكام قضائية أصدرتها المحاكم اللبنانية. «وإذا عطفنا هذه المسائل بعضها على بعض، نستطيع القول إن لدينا معطيات يمكن الاستناد إليها لفتح مسار تحقيقي في فرضية تورط إسرائيل بالجريمة». لكن ذلك لا يعني، يضيف منصوري، «أن لدينا دليلاً لإدانتها حالياً». وبحسب منصوري، فإن أي هيئة في المحكمة الدولية لا يمكنها أن تطلب من المدعي العام الدولي فتح تحقيق في قضية مرتبطة بالجريمة، ولا حتى مكتب الدفاع الذي تنحصر مهمته في تقديم المساعدة لمحامي الدفاع عن المتهمين. وفيما التزم مكتب المدعي العام في المحكمة الدولية، دانيال بلمار، الصمت، أشارت المتحدثة باسم المحكمة الدولية فاطمة العيساوي إلى أن المدعي العام دعا في أكثر من مناسبة «كل من لديه أدلة متعلقة بقضية اغتيال رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري إلى تقديمها»، لافتة إلى أنه «مستعد للنظر في أي أدلة تستند إلى عناصر جدية». وفي حديث تلفزيوني، لفتت العيساوي إلى أن «نهج بلمار الثابت هو عدم التعليق على مضمون التحقيقات»، مؤكدة أنه «لم يعد للقضاء اللبناني صلاحية التحقيق بالقضية، وأنه يجب تقديم أي دليل لبلمار». وفي ما يتعلق باستبعاد اتهام إسرائيل، قالت إن «بلمار لم يكشف شيئاً يتعلق بالتحقيق وبالجهات التي حُقِّق معها».