أقرّ رئيس الحكومة، أمس، بوجود شهود الزور وبأنهم ضللوا التحقيق وألحقوا الأذى بسوريا ولبنان. وفيما تحفّظ زعيم المختارة على تفسير سبب هذه الخطوة، فـ«المهم أننا عدنا»، فإن هناك من قابلها بالصمت وإقفال الهواتف لا يُحسد رئيس الحكومة سعد الحريري على موقعه الحالي. فالرجل الذي تمنّى في أحد مجالسه الخاصة أن «أنام وأصحو في اليوم التالي لأجد أن لا مشاكل ولا توتر في لبنان، لا محكمة دولية ولا قرار ظنياً ولا شيء يعكّر الأوضاع»، بدا أمس في حديثه إلى صحيفة الشرق الأوسط كأنه بدأ خطواته الأولى على طريق تحقيق حلمه. صحيح أنّ نجل الرئيس المغدور رفيق الحريري بقي في حديثه الصحافي، الذي نشر أمس، على موقفه من موضوع المحكمة الخاصة بجريمة اغتيال والده، إلا أن ما قاله لم يكن قليلاً، وخصوصاً أنها المرة الأولى التي يقرّ فيها زعيم فريق 14 آذار بوجود شهود زور. وقد ذكر العبارة حرفياً، إذ بعدما بدأ بالحديث عن وجود «أشخاص ضلّلوا التحقيق، وهؤلاء ألحقوا الأذى بسوريا ولبنان، وألحقوا الأذى بنا كعائلة الرئيس الشهيد، لأننا لا نطلب سوى الحقيقة والعدالة، ولم نطلب أكثر من ذلك»، أردف بالقول «وشهود الزور هؤلاء خرّبوا العلاقة بين البلدين وسيّسوا الاغتيال. ونحن في لبنان نتعامل مع الأمر قضائياً». وحاول تحييد المحكمة عن قضية شهود الزور والتسييس، بالقول «للمحكمة مسارها الذي لا علاقة له باتهامات سياسية كانت متسرّعة (...) فالمحكمة لا تنظر إلا في الدليل، وهناك إجراءات قانونية معروفة من ادّعاء ودفاع وغيرهما». وعندما سئل عن التسرّع في الاتهامات، ردّ بأن «الاتهام كان سياسياً، وانتهينا منه، وفي عداد شهود الزور اثنان في السجون اللبنانية، وآخر مطلوب للقضاء اللبناني بتهمة المشاركة في اغتيال الرئيس الشهيد». ونفى معرفته بمضمون القرار الاتهامي، وقدرته على التدخل فيه «ولا أحد يستطيع ذلك. كل ما أطلبه هو الحقيقة والعدالة».
نجار وبلمار
في هذه الأثناء، تبيّن أن وزير العدل إبراهيم نجار قد باشر سلسلة من الخطوات في إطار سعيه إلى وضع ملف شهود الزور ضمن إطار مهني. وهو توجّه إلى النيابة العامة سائلاً عمّا لديها من معلومات عن الملف، فوصله الجواب أن لبنان التزم بالاتفاق مع المحكمة الدولية، وأودعها النسح الأصلية عن كل ملفات التحقيق الذي جرى في لبنان أو التي حصل لبنان عليها، وذلك ضمن إجراء نقل الاختصاص كاملاً إلى المحكمة الدولية، ما دفع نجار إلى مراسلة المدّعي العام الدولي دانيال بلمار سائلاً إياه تزويده بما لديه من معلومات عن شهود الزور، وخصوصاً أن نجار كان قد حصل من جهات عدة في الحكومة على ملفات تخص خمسة على الأقل من شهود الزور الذين وردت معلومات بشأنهم في تقارير لجنة التحقيق سابقاً أو أدلوا بتصريحات. وطلب نجار من بلمار تزويده ما لديه من معلومات في هذا الشأن، بالطريقة نفسها التي طلب بها اللواء جميل السيد الملفات والمعلومات من بلمار، وهو الطلب الذي لا يزال ينتظر قرار قاضي الإجراءات التمهيدية دانييل فرانسين والمرتقب خلال عشرة أيام. وعلم أن نجار لم يكن حتى أمس قد تلقّى أي جواب رسمي على طلبه من بلمار، الذي تردّد أنه ينتظر قرار فرانسين قبل بتّ الأمر.
التحوّل الحريري
وفيما علم أن نجار سيُطلع مجلس الوزراء الذي سيُعقد اليوم استثنائياً، بسبب سفر الحريري إلى السعودية غداً لأداء العمرة، على ما توافر لديه في ملف شهود الزور. فإن مفاجأة رئيس الحكومة في ما خصّ هذا الملف لم تقتصر مفاعيلها على الحلفاء الذين أصيبوا بالصمت المطبق أمس، والخصوم الذين رحّب بعضهم وحذّر البعض الآخر من «الذي جرّب المجرّب كان عقله مخرّب»، بل سبّبت ما يشبه الضياع وسط أفراد طاقم تيّاره السياسي والإعلامي، الذين عجزوا أمس عن تفسير خطوة زعيمهم، حتى إن نواباً من المستقبل فضّلوا إقفال هواتفهم ليتجنّبوا أي سؤال أو تحليل.
لكن سرّ التحوّل الحريريّ لم يبق طيّ الهواتف المغلقة، إذ إن متابعين لما يجري يشيرون بداية إلى أن دمشق ملّت من كون رئيس الحكومة يزورها ويلجأ إلى رئيسها «للاتقاء من شرّ حزب الله، ويتدلّل على المسؤولين السوريين»، وبعدما يسمع الرأي الآخر يقول في ختام المحادثات: «نعم فهمت ما تقصدونه، سنقوم بهذا ونعمل ذاك»، وعندما يعود إلى بيروت «لا يقوم بأي شيء». ولذلك سمع الحريري خلال زيارته الأخيرة كلاماً واضحاً من أحد المسؤولين، وأهمه أن «المقاومة خط أحمر وليس فؤاد السنيورة». ومع ذلك، يسارع زوار سوريا إلى القول إن السرّ لا يكمن في السحور الدمشقي، فـ«الزيارة الأخيرة كانت الأقل إنتاجية من كل الزيارات السابقة»، وكان الأهم منها هو اللقاء بين رئيس فرع المعلومات العميد وسام الحسن ورئيس فرع الاستخبارات في دمشق وريفها اللواء رستم غزالي. فبعد فشل كل الكلام السوري في دفع الحريري إلى اتخاذ خطوات جدية تبرهن عن صفاء علاقته مع سوريا وتسهم في الدفاع عن المقاومة، تلقّى نصيحة بلقاء النائب وليد جنبلاط الذي كان قد طلب من القيادة السورية إعطاءه فرصة لإقناع الحريري بالخطوط العريضة التي يجب أن تسير عليها القافلة «المستقبلية» في هذه المرحلة، وخصوصاً في موضوعي المحكمة الدولية والتهدئة الداخلية. ويبدو أن جنبلاط استطاع القيام بالمهمة التي وعد بها السوريين، فقال الحريري ما قاله أمس، رغم أن الأول يرفض نسب الأمر إلى نفسه مباشرة، وقال لـ«الأخبار» إنه يعتقد أن الحريري مقتنع بالعلاقة الشخصية مع الرئيس السوري والعلاقة السياسية مع دمشق، «هذا اقتناعه، وهذا أفضل من أن يكون أحد قد أقنعه بها»، مضيفاً «هذا الأمر يعيدنا إلى نظرية الـ«س.س» والطائف ـــــ اللذين يريد بعض اللبنانيين نسيانهما ـــــ فالذي بنى الطائف هو السعودية والرئيس حافظ الأسد والرئيس رفيق الحريري، ضمن الثوابت التي نعرفها جميعاً من الهدنة وتلازم المسارات، كما في مدريد وبعدها والعروبة وتحرير مزارع شبعا والحوار الوطني على أساس تلازم مسارات الجيش والشعب والمقاومة. هذا هو الإطار العريض الذي وضعناه منذ حرب الجبل ومشينا به». ويتابع جنبلاط بصيغة الجمع «جنحنا في الـ2005 يميناً أو غربياً، سمّها كما تشاء. ولكن المهم أننا عدنا. أحياناً نضيع في التفاصيل مثلما جرى في برج أبي حيدر، ولكن علينا أن نلتزم بالثوابت. دوري أنا أن أذكّر الجميع بهذه الثوابت، والحريري مرتاح للعلاقة الشخصية (مع الأسد)، ولكن علينا ترجمتها، وهنا ذكّرت أنا بالعناوين الكبرى، وعلينا ألّا نقع في وهم الوصول إلى حل شامل في المنطقة». وإذ يرى متابعون لطريق دمشق في اعتراف رئيس الحكومة بوجود تضليل للتحقيق «تمهيداً لخطوة التخلّي عن المحكمة»، يربط زوار الرياض استعجاله في تنفيذ الطلبات السورية بتخوّفه من استبعاده ولو مؤقتاً عن كرسي الرئاسة الثالثة، ناقلين أن الملك السعودي بات شبه مقتنع بإمكان إجراء تعديل حكومي، يمكن من خلاله تجنّب تداعيات المحكمة وقرارها الاتهامي. لكنّ الرئيس الشاب طلب إعطاءه مهلة لمعالجة الأمور.