ما علاقة وسام الحسن وعدنان البابا بالصدّيق؟

إنه نجم النجوم، زهير محمد الصديق، الشاهد الذي أدلى بإفادة مطابقة للاتهام السياسي الذي رفع في اللحظة التالية لاغتيال الحريري. حصانته أقوى من أن يُسمح لأي سلطة بالمسّ به، وخاصة عندما يتعلق الأمر بمحاولة كشف من يرعاه ويقف خلفه ويحميه. وأبرز ما في قصته، هو مسار التحقيق الذي نُسِج حول إفادته، حيث التحقيق يخدم الشاهد لا العكس

من الاحتجاجات اللاحقة لاغتيال الرئيس رفيق الحريري (أرشيف ــ هيثم الموسوي)

حسن عليق يوم 20 تشرين الأول 2005، صدر التقرير الأول للجنة التحقيق الدولية التي كان يرأسها القاضي الألماني ديتليف ميليس. في ذلك التقرير، أوحى ميليس أنه اقترب من كشف المتورطين باغتيال الرئيس رفيق الحريري. بدا واثقاً من النتيجة التي توصل إليها. كيف لا، وهو الذي يحمل بين يديه ورقة يقرّ كاتبها بأنه أحد الذين شاركوا «في مرحلة التخطيط المباشر التي سبقت الاغتيال»، بحسب ما ورد حرفياً في الفقرة 112 من التقرير. صاحب هذه الإفادة هو زهير محمد الصدّيق، الشخص الذي حمل يوماً لقب الشاهد الملك، ويكاد يكون الشخص الأكثر إثارة للجدل في ملف التحقيق باغتيال الحريري. ورغم أن التحقيقين اللبناني والدولي أثبتا أن ما ذكره الصدّيق هو محض تلفيق، فإن الرجل لا يزال حتى اليوم يحظى بمظلة تقيه المساءلة القضائية، رغم أن إفادته سبّبت إضراراً بالتحقيق أولاً، وبأشخاص سجنوا لفترات طويلة ثانياً. في إفادته التي أدلى بها في إسبانيا، حيث كان يقيم في فندق بلازا سويتس في منطقة بورتو بانوس بمرابيا (كان الفندق مملوكاً من رفعت الأسد)، قال الصدّيق إن الضباط اللبنانيين الأربعة (اللواءين جميل السيد وعلي الحاج والعميدين مصطفى حمدان وريمون عازار)، إضافة إلى العميدين السوريين عبد الكريم عباس وظافر يوسف، عقدوا اجتماعات في منزله بخلدة، ولاحقاً في شقة يملكها رجل أعمال لبناني اسمه مالك المحمد في شارع معوض في الضاحية الجنوبية لبيروت، من أجل الإعداد لتنفيذ الجريمة، وذلك بناءً على قرار اتخذته القيادة السورية كما أفاد الصدّيق، الذي أضاف أسماء آخرين، بينهم العماد آصف شوكت والنائب السابق ناصر قنديل. وحدد الصدّيق توقيت الاجتماعات بأنها جرت في الفترة ما بين تموز 2004 وبداية عام 2005. إفادة الصدّيق كانت شاملة، واستحق معها لقب الشاهد الملك. فإضافة إلى حضوره اجتماعات التخطيط للجريمة، قال إنه شاهد شاحنة الميتسوبيشي التي استخدمت لاغتيال الحريري في معسكر الزبداني داخل الأراضي السورية، عندما كان عسكريون سوريون يجهزونها بكمية كبيرة من المتفجرات. ولم تقتصر مشاهداته على ذلك، بل إنه ذكر في إفادته أنه رأى بأمّ عينيه، في المعسكر ذاته، أحمد أبو عدس. في الخلاصة، كانت الشهادة كافية لاتهام سوريا بتنفيذ الجريمة، ولإصدار قرار بتوقيف الضباط اللبنانيين الأربعة. ولإضفاء الصدقية على كلامه، وقّع الشاهد إفادة خطية يقول فيها إنه أحد المشاركين في التخطيط للجريمة. استندت إفادة الصدّيق إلى معرفته اللصيقة بالضابطين السوريين عبد الكريم عباس وظافر يوسف، وخاصة أنه ادعى أنه ضابط في الاستخبارات السورية. لكن عارفيه اللبنانيين، وبينهم ضباط من القيادة الحالية لفرع المعلومات، يؤكدون أنه كان يعمل سائقاً (بشكل غير رسمي) للعميد السوري عبد الكريم عباس، منذ أن تقرب من الأخير الذي ساعده على تخطي مشاكل قانونية في سوريا ناتجة من فراره من الخدمة العسكرية. هو مجنّد فارّ من الجيش السوري، وليس رائداً في الاستخبارات العسكرية. حتى تموز 2004 كان عباس ويوسف يتابعان دورة أركان في لبنان، مع عدد من زملائهم السوريين، وفقاً لما هو متبع بين الجيشين اللبناني والسوري. وقد سكن الضابطان، عباس ويوسف، في الشقة التي تحدث عنها الصدّيق، الكائنة في شارع معوض. وقد استفادا من كون صاحب الشقة على علاقة قوية وشخصية بالضابط السوري جامع جامع الذي كان يخدم في لبنان. وكان الصدّيق يتولى الخدمات العامة والخاصة بالضابط عباس، ومن بينها متابعة علاج ابنه من مرض في الكلى، في مستشفى الساحل الواقع في محلة الغبيري.

لكن الضابطين غادرا الشقة المذكورة في حزيران 2004، ولم يعودا إليها. وقد ثبت ذلك في التحقيقات التي أجراها فرع المعلومات ولجنة التحقيق الدولية. فهذا ما أكده الشهود، وهو ما أثبتته سجلات وزارة الدفاع اللبنانية (تاريخ تخرج الضابطين من دورة الأركان وصوَر حفل التخرج)، وكذلك بينت سجلات مستشفى الساحل وإفادات العاملين فيها، إضافة إلى رسالة الشكر التي وجهها الضابطان إلى مالك المحمد وزوجته في تموز 2004، والتي كان المحمد لا يزال يحتفظ بها. وأبرز ما ظهر في التحقيقات أن الفحوص المخبرية المعمّقة التي أجرتها لجنة التحقيق الدولية لم تظهر أي أثر لوجود الضباط اللبنانيين الأربعة في شقة معوض. وفي نيسان 2006، كشف المحققون اللبنانيون في فرع المعلومات أن شاحنة الميتسوبيشي التي استخدمت لاغتيال الحريري بيعت في معرض للسيارات قرب طرابلس، ما تناقض مع التوقيت الذي كان الصدّيق قد قال إنه شاهدها فيه خلف أسوار معسكر الزبداني في سوريا. وفي فرع المعلومات في بيروت، كان غير محقق قد أكد لقيادة الفرع الذي كان يقوده المقدم سمير شحادة ويشرف على عمله المقدم وسام الحسن، أن الصدّيق غير صادق، وأن له سجلاً إجرامياً يضعف صدقيّته. وثمة من المحققين الذين تحدثوا لـ«الأخبار» من أكد أن شحادة والحسن كانا مقتنعين، على الأقل حتى نهاية عام 2005، بأن الصدّيق يقول الحقيقة. ووصل الأمر بشحادة إلى حد أنه طلب من أحد المحققين عدم تدوين إفادات شهود في محاضر رسمية، لأن إفاداتهم تدحض كلام الصدّيق. ففي إحدى المرات، أخذت إفادات عدد من الشهود في منطقة معوض. وأكد جميعهم أن العميدين السوريين لم يترددا إلى شقة مالك المحمد في النصف الثاني من عام 2004. وحده فتى صغير السن قال إنه يعتقد أنه رآهما قبل رأس السنة. فقال المقدم سمير شحادة لأحد المحققين: دَوِّن إفادة الفتى وأهمِل الإفادات الأخرى، إنهم يكذبون. لكن المحقق أصر على تدوين كل الإفادات. وفي السياق ذاته، استدعى فرع المعلومات أحد الموظفين في مستشفى الساحل. كان شحادة يريد الاستماع إلى إفادته. عندما وصل الموظف، تعمّد شحادة تركه ينتظر أكثر من خمس ساعات. وعندما استمع إلى إفادته، أكد الموظف أن ابن العميد عبد الكريم عباس لم يدخل المستشفى في النصف الثاني من عام 2004. لكن عدداً من العاملين في فرع المعلومات فوجئوا بالمقدم شحادة يقول لهم: إنه يكذب. ربما زوّر السجلات بناءً على طلب الاستخبارات السورية. أضف إلى ذلك أن مالك المحمد ووجه بإفادة الصدّيق خلال التحقيق معه في فرع المعلومات وأمام لجنة التحقيق الدولية. وعندما كان ينفي ما أورده الصدّيق، بالأدلة الحسية أحياناً (ككتاب الشكر مثلاً)، كان المحققون يصدّقون إفادة الصدّيق ويكذّبون المحمد، الى أن قيل له في إحدى الجلسات: «سنوفر لك ولعائلتك الحماية لقاء الشهادة ضد الضباط السوريين واللبنانيين». وقد أدى هذا السلوك التحقيقي إلى توقيف المحمد في عدد من السجون اللبنانية مدة تجاوزت ستة أشهر. وفي إحدى المرات استدعيت زوجته إلى التحقيق ضمن مسلسل الضغط عليه، وتعرّضت لترهيب يقول المحمد إنه أدى إلى وفاتها.

وجهة وحيدة للتحقيق

في الخلاصة، كان المسؤولون الأمنيون الذين يشرفون على التحقيق باغتيال الحريري، وخاصة في فرع المعلومات، مقتنعين بأن الصدّيق يقول الحقيقة، وأن سوريا هي التي نفذت جريمة اغتيال الحريري. والأمر لا يستند بالضرورة إلى نتائج تحقيقية. بل هي في معظمها اقتناعات مسبقة. ويروي أحد الأمنيين الذين كانوا قريبين من سمير شحادة حواراً جرى بينه وبين الأخير، مباشرة عقب محاولة اغتيال الإعلامية مي شدياق. لم يكن المحققون قد تمكنوا بعد من جمع أي معلومات تفيد التحقيق. كانوا لا يزالون في بداية عملهم. في الحوار بينهما، كان الأمنيّان يضعان احتمالات عن الجهات التي قد تكون متورطة بالاغتيال. مباشرة، قال سمير شحادة إنها سوريا. ردّ الأمني الآخر بالقول: لماذا لا نفتح الاحتمالات؟ أليس من الأفضل أن نقول إن احتمال أن تكون الاستخبارات السورية قد نفذت الجريمة لا يزيد على 50 في المئة؟ أضاف الأمني: ما أقوله نابع من المعطيات الأولية المرتبطة بمكان حصول الجريمة وضرورة أن يكون منفذها عارفاً بالمنطقة، وأن يتمكن من التحرك فيها بحرية. ويختم الأمني روايته لـ«الأخبار»: عندما قلت ذلك، انتفض شحادة وقال لي: «ما في غيرهم إخوات (....) السوريين». في الواقع، لم يكن سمير شحادة وحده الذي يحمل هذا الاقتناع. فوسام الحسن ومن خلفه السواد الأعظم من فريقه السياسي كان يحمّل سوريا مسؤولية كل الشرور التي تقع في البلاد. ولم يكن أي من هؤلاء يقبل النقاش في هذا الأمر. وعندما كانوا يُسألون عن الدليل، كانوا يجيبون بأن لديهم معلومات لا يمكنهم الإفصاح عنها حالياً، لأن ذلك سيضر بسير التحقيقات. وفي أحسن الأحوال، كانوا يتحدثون عن وجود معلومات في عهدة لجنة التحقيق الدولية لا يعرفون مضمونها، لكنهم على يقين من أنها تثبت التورط السوري.

الصدّيق بين الحسن وسلمان

ويؤكد عدد من العاملين في فرع المعلومات أن العقيد وسام الحسن، الذي لم تكن لديه في ذلك الحين صفة رسمية في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي (استقال عندما خرج الرئيس رفيق الحريري من الحكم نهاية عام 2004، وعاد عن استقالته بعد وصول اللواء أشرف ريفي إلى المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي) كان يتابع، شخصياً، التحقيقات في المسار المبني على إفادة الصدّيق. وفي إحدى مراحل التحقيق مع مالك المحمد، كان الحسن يتصل هاتفياً بالصدّيق (الموجود في فرنسا) لطرح أسئلة عليه تتعلق بإفادة مالك المحمد، بحسب ما يؤكد محققون تحدثوا لـ«الأخبار». ففي إحدى المرات، طلب الحسن من المؤهل ع.ب. شراء بطاقة هاتف خلوي مسبقة الدفع، واستخدمها للتحدث مباشرة مع الصدّيق، وطرح أسئلة عليه مستقاة من إفادة مالك المحمد.

وللحسن صلة بقضية زهير محمد الصدّيق تعود إلى أيلول 2005. ففي السادس والعشرين من ذلك الشهر، استمعت لجنة التحقيق الدولية إلى إفادة الصدّيق. وكان الحسن حاضراً في جلسة الاستماع. وقد عقد المحققون الدوليون جلسات عدة مع الصدّيق ابتداءً من السادس والعشرين من أيلول. وفي اليوم التالي، كتب الصدّيق إقراراً بمشاركته في التحضيرات المباشرة لاغتيال الحريري. وقد وقّع الحسن على إفادة الصدّيق. ومنذ ذلك الحين، تُوجه إلى الحسن تهمة المشاركة في تلفيق الإفادة. ولا يقنِع مطلقي التهمة تأكيد اللواء أشرف ريفي والعقيد وسام الحسن أن الأخير شارك كمترجم بين الصدّيق والمحققين الدوليين، بناءً على طلب من لجنة التحقيق الدولية التي كانت تعاني نقصاً في المترجمين، بعدما استغنت اللجنة عن خدمات عدد منهم بسبب الشك في تسريبهم مضمون التحقيق، فضلاً عن مغادرة بعضهم طوعاً. يضيف المسؤولون المعنيون في المديرية قائلين إن الصدّيق كان يعيش في فرنسا تحت رعاية مباشرة من لجنة التحقيق الدولية، «وكان يتولى هذه الرعاية بصورة مباشرة، معن سلمان»، المحقق اللبناني الأصل في لجنة التحقيق الدولية، الذي لا يزال يمارس وظيفته ضمن فريق التحقيق التابع لمكتب المدعي العام الدولي. عودة إلى الحلقة ذاتها. فمعن سلمان مقرب من سياسيين لبنانيين، حتى إن تقريراً ورد إلى زعيم إحدى الطوائف عن أن سلمان كان على صلة بالوزير مروان حمادة ويضعه في الأجواء أولاً بأول. وهو أمر ينفيه حمادة، من دون أن ينفي تماماً معرفته بالمحقق. كذلك كانت لسلمان علاقة ببعض من وردت أسماؤهم في قضايا شهود الزور التي ظهرت إلى العلن، كهسام هسام وإبراهيم جرجورة. ويؤكد المعنيون في القيادة الحالية لفرع المعلومات أنهم، في النصف الأول من عام 2006، رفعوا مذكرة خطية إلى المدعي العام التمييزي القاضي سعيد ميرزا وإلى لجنة التحقيق الدولية يؤكدون فيها أن الصدّيق شخص فاقد للصدقية. لكن بعض المتضررين من إفادة الصدّيق يؤكدون أن الأخير كان يحظى برعاية مباشرة من الفريق الأمني والمالي لآل الحريري. يتحدثون عن شخصيتين رئيسيتين في هذا المجال، العقيد وسام الحسن والموظف في فريق الحريري الإداري عدنان البابا، الذي ورد اسمه في العديد من التقارير والمواقف، لكنه لم يعلق على الأمر نهائياً، رغم أن مقربين منه ينفون ذلك قطعاً. ويسأل أحد المعنيين مباشرة بقضية الصدّيق: «ليفسروا لنا لماذا كان الصدّيق يستأجر السيارات من مكتب في الدائرة العاشرة في باريس، يملكه شخص مصري يدعى أ.ع. والأخير هو المزود الرئيسي لآل الحريري بالسيارات في فرنسا. والهاتف الذي استخدمه الصدّيق قدم من الشخص نفسه، حتى إن رقم الهاتف كان قد استخدمه موظف يعمل عند الحريري، وإن هذا الموظف هو مَن كان يدفع بدل إيجار سيارات الصدّيق». في النهاية، أثبتت الإفادات والفحوص المخبرية والتحليلات عدم صحة إفادة زهير الصدّيق. لكن الجميع ينفضون يدهم منه. في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، يقول مسؤول معنيّ بالقضية إن التحقيقات التي أجراها فرع المعلومات عام 2005 في ما أدلى به الصدّيق جرت «بناءً على طلب من لجنة التحقيق الدولية وبإشارة من النائب العام التمييزي القاضي سعيد ميرزا، وباستنابات قضائية صادرة عن المحقق العدلي القاضي الياس عيد. وبالتالي، اقتصر دورنا على الجانب التنفيذي». في المحصلة، يتقاذف المعنيون المسؤولية عن الأداء التحقيقي الذي أرسته إفادة زهير الصدّيق. وثمة محاولة اليوم للقول إن ما قام به الرجل لم يكن نابعاً إلا من قرار شخصي يقصد من خلاله الرجل الانتقام من القيادة السورية، إضافة إلى رغبته في تحقيق مجد شخصي زائف.

الحماية الدولية

لكن هذا القول يناقض واقع «الحماية الدولية» التي يحظى بها الصدّيق، والتي تحول دون مساءلته، إضافة إلى الرعاية المالية التي تُغدَق عليه حيث يصل ويقيم. وعند الحديث عن الحصانة، لا بد من العودة إلى عام 2005، وبالتحديد إلى يوم 13 تشرين الأول. ففي ذلك اليوم، بناءً على اقتراح لجنة التحقيق الدولية، ادعى المدعي العام التمييزي القاضي سعيد ميرزا على الصدّيق بجرم المشاركة في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وأحال الادعاء على المحقق العدلي القاضي الياس عيد، الذي أصدر مذكرة توقيف غيابية، سرعان ما تحولت إلى مذكرة توقيف دولية. وإنفاذاً لها، أوقفت السلطات الفرنسية الصدّيق يوم 16 تشرين الأول 2005، بعدما تقدمت السلطات اللبنانية بطلب لاسترداده. لكن السلطات الفرنسية، وبالتحديد محكمة استئناف فرساي، رفضت الطلب يوم 24 شباط 2006، معللة قرارها بغياب الضمانات التي تحول دون تنفيذ عقوبة الإعدام بحق الصدّيق. بعد ذلك، أطلقت السلطات الفرنسية سراح الصدّيق، ليبقى في عهدة لجنة التحقيق الدولية. لكن من كان يوفر الحماية له هو الجهاز ذاته الذي يوفر حماية كبار الشخصيات الفرنسية. ورغم أن رئيس الجمهورية العماد إميل لحود وقّع يوم 27/7/2006، تعهداً بمنح الصدّيق عفواً خاصاً في حال الحكم عليه بالإعدام، إلا أن السلطات الفرنسية بقيت ترفض نقل المدعى عليه إلى لبنان. لكن ما تغير بعد خروج الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك من الحكم هو نقل الصدّيق من عهدة جهاز حماية كبار الشخصيات الفرنسية (RAID) إلى جهاز حماية تابع للشرطة الفرنسية (CRS). وفي آذار 2008، اختفى الصدّيق من فرنسا، ليظهر في ما بعد في الإمارات العربية المتحدة، حيث أوقفته السلطات في نيسان من العام نفسه، بتهمة حيازة جواز سفر تشيكي مزوّر استخدمه لدخول البلاد.

الصدّيق يتحول إلى سامي السيد

مرة جديدة، تظهر الحماية التي يتمتع بها الرجل. فبحسب المعلومات الموثقة التي حصلت عليها «الأخبار»، انتقل الرجل من فرنسا إلى المغرب يوم 11/3/2008، مستخدماً جواز سفر تشيكياً (رقمه 3664380) يحمل صورته الشمسية واسم «سامي السيد». بعد أربعة أيام، غادر المغرب قاصداً الإمارات. وصل إلى مطار أبو ظبي يوم 15 آذار (بحسب الختم الموجود على الصفحة العاشرة من جواز السفر). حينذاك، أكدت السلطات الفرنسية مغادرته الأراضي الفرنسية، من دون أن تكشف الوجهة. وما لم تكشفه أيضاً هو أن شخصين فرنسيين يعملان لحساب جهاز أمني رسمي في بلادهما كانا برفقة الصدّيق. والشابان يحملان جوازي سفر باسمي «سيدي محمد ماريف» و«طارق دريوش». وفي مصادفة لافتة، ظهر الرئيس الأول للجنة التحقيق الدولية ديتليف ميليس على شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال يوم 18 آذار 2008 ليوجه انتقادات قاسية إلى خلفه سيرج براميرتس، معلناً أن الصدّيق لا يزال يمثّل ركيزة أساسية لأي تحقيق في اغتيال الحريري! من أبو ظبي، انتقل الصدّيق إلى إمارة الشارقة، ونزل في جناح أحد الفنادق، حيث كانت زوجته وأولاده بانتظاره. في اليوم ذاته، استأجر ثلاث سيارات، وضع اثنتين منها بتصرف مرافقيه الفرنسيين اللذين مكثا في الإمارات أسبوعاً واحداً فقط. وبعد رحيلهما، خصّته السفارة المصرية في الإمارات بمرافق يدعى إسماعيل ع.ي. وقال الصدّيق إنه تمكن من التوسط لدى السلطات المصرية لإحضار زوجة إسماعيل وأولاده من مصر إلى الإمارات. تبدلت ملامح الصدّيق بعض الشيء. غيّر تسريحة شعره الشهيرة، وأطلق «سكسوكة خفيفة»، وبدت على وجهه زيادة الوزن. في الإمارات، لم يلتزم الشاهد الملك الصمت طويلاً. في الفترة الأولى، ادّعى أمام مقربين منه أنه تاجر كبير، وأنه من عائلةٍ صادَرَ النظام السوري ممتلكاتها، مشيراً إلى قربه من رجال أعمال سوريين من آل العظم يعيشون في المملكة العربية السعودية. لاحقاً، قال الصدّيق لأحد أصدقائه إن شخصاً يدعى عدنان، يعمل في شركة «سعودي أوجيه»، هو من يتولّى تغطية نفقاته المالية. في الأيام الأولى التي تلت وصوله إلى الإمارات، دفع الصدّيق ثمانية آلاف دولار لقاء الحصول على إقامة عمل، قبل أن يؤسس شركة بكفالة وصلت إلى 100 ألف درهم (نحو 27 ألف دولار أميركي)، إضافة إلى الحصول على رخصة تجارة عامة درجة أولى. وقد كلفه الأمر نحو 350 ألف درهم (نحو 90 ألف دولار). وفي الأسابيع اللاحقة لدخوله الإمارات، حاول فتح حساب مصرفي بمبلغ 200 ألف درهم إماراتي، إلا أن إدارة المصرف طلبت توضيح مصدر الأموال قبل فتح الحساب، وخاصة أن المبلغ كان نقداً. لكن مدير المصرف (س.غ.) تلقى اتصالاً من مسؤول رسمي كبير في الدولة، فسوّي الأمر. سريعاً بدأ الصدّيق يكشف هويته الحقيقية. أسرّ لأحد المقربين منه بأنه أدلى أمام التحقيق الدولي بنحو 10 في المئة فقط مما في حوزته، وأن الباقي سيقوله في المحكمة. وفي بعض الأحيان، كان يقول إنه أدلى بإفادته لأن النظام السوري صادَرَ أملاكَ عائلته، و«الحرب خدعة، والنبي خدع الكفار في الحرب».

وفي إحدى المراحل، قال الصدّيق لأحد المقربين منه: «المحكمة في يد أبو متعب»، وعندما سئل عمّن يعني بكلامه، أجاب: «الملك عبد الله (بن عبد العزيز). هو الأب الروحي للمحكمة». لاحقاً، بعدما وصلت إلى السلطات الإماراتية معلومات مؤكدة عن أن من يحمل جواز السفر التشيكي باسم «سامي السيد» ليس إلا زهير محمد الصدّيق، أوقفته السلطات الإماراتية (منتصف نيسان 2009)، قبل أن تصدر يوم 5 تشرين الأول 2009 حكماً بسجنه ستة أشهر، وبإبعاده بعد انقضاء مدة الحكم. انتهت محكومية الصدّيق بعد نحو 10 أيام من صدور الحكم (لأنه كان قد سجن في نيسان). ومنذ ذلك الحين، لا يزال مكان وجوده لغزاً. قيل إنه لا يزال في الإمارات حياً. وقيل إنه قتل فيها، وقيل إنه يعيش في هولندا بحماية المحكمة الدولية، أو في بلجيكا. وفي تشرين الثاني من العام ذاته طلبت السلطات السورية استرداده لكونه ملاحقاً أمام القضاء السوري. ورغم أن الدولتين السورية والإماراتية ملزمتان بحسب معاهدة موقعة عام 1983 بتبادل المطلوبين، إلا أن السلطات الإماراتية لم تستجب للطلب السوري. وفي أيار الفائت، أعادت السلطات القضائية السورية مطالبة الإمارات بالكشف عن مصير الصدّيق، من دون أن يردها أي جواب. وبينما عادت صحيفة «السياسة» الكويتية إلى نشر أخبار عن التحقيقات، فقد تولت إعادة الاعتبار الى الرجل، ونشرت تصريحات للصديق رداً على ما جرى في المحكمة الدولية من جلسة بناءً على طلب اللواء جميل السيد، ثم للحديث عن دور لحزب الله في جريمة اغتيال الحريري. وترافقت التصريحات مع نشر معلومات عن أن الصدّيق سافر من الإمارات وهو موجود في مقر سري وفي عهدة المحكمة الدولية. لكن المفاجأة ظهرت من جديد؛ إذ ذكر شخص معنيّ بإفادة الصدّيق لـ«الأخبار» أن الشاهد الملك لا يزال موجوداً في الإمارات، وأنه شوهد خلال الأسبوع الماضي ساهراً في ملهى ليلي تابع لأحد الفنادق المعروفة في دبي. (غداً: ماذا قال الشاهد الإسرائيلي في التحقيق؟)

الصدّيق واتهام حزب الله

استناداً إلى رواية زهير محمد الصدّيق، كان ضباط لجنة التحقيق الدولية يركزون خلال استجوابهم للأشخاص الذين لهم صلة بشقة معوض على دور حزب الله. كانوا يسألون عما إذا كان الحزب هو من يحمي الضباط السوريين، مستفسرين عن عدد من الشخصيات المعروفة في الحزب، بينهم قادة بارزون في المقاومة. ولفت بعض الذين استجوبوا في هذه القضية إلى أن المحققين الدوليين، منذ آب 2005، كانوا يستفسرون عن عدد من قادة المقاومة الذين لا يظهرون إلى العلن، وعلى رأسهم القائد الجهادي عماد مغنية. كان ذلك قبل أن تخرج فرضية اتهام أفراد من حزب الله إلى النور، وقبل أن يكفّ التحقيق الدولي عن محاولة إثبات صلة الاستخبارات السورية بالجريمة. وكشف أحد الذين استجوبتهم اللجنة حينذاك عن أن المحققين الدوليين سألوه خلال استجوابه عمّا إذا كان يعرف مكان وجود مغنية، ومكان وجود أحد قادة المقاومة المقربين منه.

نيّوف والصدّيق

باريس ـــ الأخبار نزار نيّوف، المعارض السوري الذي رفض معظم معارضي النظام في الخارج التعامل معه، واتهموه بأنه لا يبتعد كثيراً عن النظام، تخصص موقعه الإلكتروني (الحقيقة) بنشر تقارير معادية للنظام في سوريا، مع أخبار يصعب التثبت منها. ومع الوقت، صار ينشر تقارير ضد معارضي سوريا في لبنان والمنطقة، ما جعل معارضي سوريا في لبنان يتهمونه بأنه على صلة بالاستخبارات السورية، علماً بأن نيّوف كان من أوائل الصحافيين الذين كشفوا النقاب عن تفاصيل تخص زهير محمد الصدّيق. تربط نيّوف بلجنة التحقيق الدولية في ملف الحريري علاقات غامضة. العاملون في اللجنة يقولون إنهم استمعوا إلى إفادته في باريس، بناءً على تقارير تشير إلى أنه نشر معلومات «قيّمة» تفيد التحقيق. ويقول نيّوف إنه كان قد أخبر الرئيس الثاني للجنة التحقيق، سيرج براميرتس، بمراسلاته مع سمير قصير وجبران تويني، التي جرت بعد اغتيال الحريري، وإنه سلم اللجنة الدولية نسخاً منها. كذلك نصحه بوجوب الاستماع إلى شهادة الصحافية الأميركية ـــــ الفرنسية لارا مارلو (الزوجة السابقة لروبرت فيسك)، التي كانت آخر من التقى الحريري قبل اغتياله، لأنها أخبرت نيوف ـــــ كما يزعم ـــــ بما قاله لها الحريري لجهة أنه غير مهدد. أما العلاقة مع جبران تويني، فيقول نيوف: «هذه قصة أخرى. وهي محض إنسانية. فحين كنت في السجن (في سوريا)، أدى جبران ووالده دوراً محورياً في مساعدتي. كان جبران مكلفاً من رئيس «الجمعية العالمية للصحف» تيموثي بالدنيغ متابعة ملفي. وقد بذل جهوداً كبيرة للضغط من أجل إطلاق سراحي، وقبل ذلك، لتأمين عقار العلاج (من مرض سرطان الدم) لي (من موازنة الجمعية) بعدما رفض النظام معالجتي. وبهذا المعنى، أنا مدين لجبران. كذلك تعرض لعتاب من جماعة 14 آذار لأنه كان أول من سلمني سر وجود شخص اسمه زهير محمد الصدّيق، وأنه في الطريق لتقديم شهادة كاذبة، وأنا فضحت الأمر. والواقع أن جبران، وقبله سمير قصير، قد طلبا مني استشارة بشأن هذا الشخص عما إذا كان فعلاً ضابط استخبارات وذا صدقية، وأبلغاني بحكايته كلها».

جوازات سفر الصديق ومرافقيه الفرنسيين ونسخة عن طلب إقامته في الإمارات

آخر تعديل على Tuesday, 01 September 2009 11:26

الأكثر قراءة