نقولا ناصيف قد يكون من المبكر توقع نتائج فورية للقمّة الثلاثية في بيروت أمس. إلا أن حركة اللقاءات والمشاورات التي واكبتها، من غير أن تكون مدرجة سابقاً في جدول الأعمال، علناً على الأقل، أحيت انطباعات جدّية بمقدار الجهود المبذولة لإيجاد حل يجنّب لبنان تقويض استقراره. والمقصود بذلك التوصّل إلى تسوية ترضي رئيس الحكومة سعد الحريري والأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله في آن واحد، الأمر الذي يبدو ـــــ في الظاهر في أحسن الأحوال ـــــ متعذّراً حتى الآن نظراً إلى التناقض الحاد بين ما يطلقانه: يتمسّك الحريري بالمحكمة الدولية ولا يدرجها في أي مساومة من غير أن يتخذ موقفاً صريحاً من القرار الظني الذي يتهم حزب الله باغتيال والده الرئيس رفيق الحريري، ويرفض نصر الله هو الآخر مساومة تستند إلى القرار الظني بتأجيله ويجد في المحكمة الدولية استهدافاً جدّياً لحزب الله، ولا يسعه إلا مقاومتها. يتناقض الرجلان من غير أن يتحاورا في ظلّ انقطاع الاتصال المباشر بينهما. واجتماع الحريري بالمعاون السياسي لنصر الله الحاج حسين خليل ليل الثلاثاء الماضي (27 تموز) طبعته مسحة تشاؤم من جراء عدم اتفاقهما على سبل مقاربة القرار الظني. وعلى وفرة ما أُشيع أمس بعد ارفضاض القمّة الثلاثية، وخصوصاً في ساعات متقدّمة من المساء عن نتائج محتملة لها، لا تزال أسيرة التكهّنات، فإن ما حدث في اجتماع منتصف ليل الخميس (30 تموز) في دمشق بين العاهل السعودي الملك عبد الله والرئيس السوري بشّار الأسد، واستمر ثلاث ساعات، وشارك فيه مستشار الملك ونجله عبد العزيز بن عبد الله، رسم باكراً ملامح قمّة بيروت، وكذلك المرحلة المقبلة. وعلى أثر هذا الاجتماع، توجّه الأمير عبد العزيز إلى بيروت، وأطلع الحريري ليلاً، ومع الساعات الأولى من الفجر، على مداولات قمّة دمشق بين الملك والرئيس. وبحسب المعلومات المتوافرة عن قمّة دمشق، كان توجّه الرئيس السوري هو إلى إنهاء المحكمة الدولية، إذ رأى أنها أضحت عبئاً سياسياً ثقيلاً على لبنان وعلى الاستقرار فيه، وأن التجربة التي خبرتها سوريا مع المحكمة عندما وجّه التحقيق الدولي أولاً شبهات إليها ثبت بطلانها رغم تعاون سوريا معها، لا تبرز عناصر مشجعة على المضي في المحكمة والتيقن من عدم تسييسها. وكادت المحكمة ـــــ أضاف الأسد ـــــ تخرّب لبنان والمنطقة في آن واحد. اليوم تتكرّر التجربة نفسها مع حزب الله باتهامه باغتيال الرئيس الحريري، وهي بذلك تعرّض لبنان مجدّداً للتخريب. تالياً لا بد من ترتيبات واضحة لإنهاء هذا الموضوع. قال الرئيس السوري أيضاً للملك السعودي، مؤيداً موقف حزب الله: لن ترضى المقاومة في لبنان بالمحكمة الدولية، وهي تتهمها باغتيال الرئيس الحريري. وإذا كان هناك إصرار على المضي في المحكمة الدولية، فإن المقاومة ستواجهها لأنها تستهدفها، ونحن نجد المقاومة خطاً أحمر لن نسمح باستهدافه. قال الأسد كذلك: لن يقبل حزب الله بتأجيل قرار ظني يتهمه باغتيال الحريري، ولن يقبل بتسويات تقع في هذا النطاق. كان على المحكمة الدولية أن تبحث عن القاتل الفعلي والحقيقي. جميعنا تحدثنا عن الحقيقة والعدالة في المرحلة السابقة وتمسّكنا بهذين المطلبين، لكن مهمة المحكمة اليوم انحرفت عن ذلك إلى استهداف قوى الممانعة والمقاومة. وهو أمر غير مقبول. وطبقاً للمعلومات نفسها، لم يُبدِ العاهل السعودي للرئيس السوري تحفظاً عمّا أدلى به، وبدا مهتماً بالبحث عن الإجراءات الآيلة إلى إيجاد حلّ للمحكمة الدولية وتجنيب لبنان الإنفجار، وخصوصاً أن الرئيس السوري أفصح أمامه بعبارات مباشرة ودقيقة وصريحة بأن حزب الله لن يسكت بإزاء القرار الظني والمحكمة الدولية، وسيقوم بكل ما في وسعه لمواجهتها. طبعت قمّة دمشق المعادلة الآتية: كان الملك يستمع، والرئيس يشرح وجهة نظر حزب الله التي يدعمها. وصلت هذه المداولات إلى رئيس الحكومة عبر مستشار الملك، ثم أتى لقاءان بالغا الأهمية عُقدا البارحة على هامش القمّة الثلاثية في بيروت كي يثبتا المأزق الذي أضحت عليه المحكمة الدولية: الخلوة التي جمعت عبد الله بالحريري في بيت الوسط، واجتماع وزير الخارجية السوري وليد المعلم بكتلة نواب حزب الله التي اطلعت منه على مداولات الليلة السابقة في دمشق. في الحصيلة، تقرّر أن يتوجّه إلى دمشق في الساعات المقبلة موفد لحزب الله للاجتماع بالرئيس السوري، والاطلاع منه على المعطيات المتصلة بنتائج قمّتي دمشق وبيروت ومسار المرحلة المقبلة. قمّة بيروت ورغم أن البيان الصادر عن القمّة الثلاثية كرّس بضع ثوابت متطابقة، كالوفاق الوطني والحوار والاستقرار والتهدئة ونبذ العنف، وأخرى متنافرة كدعم اتفاق الدوحة واستكمال تنفيذ اتفاق الطائف. إلا أن المعلومات الضئيلة التي توافرت لدى جهات تتبعت عن قرب القمّة الثلاثية تحدّثت عن ملاحظات ثلاث: أولاها، أن العاهل السعودي لم يحمل إلى الرئيس السوري في قمّة دمشق صيغة حلّ لأزمة القرار الظني. تالياً، لم يحمل عبد الله والأسد إلى قمّة بيروت التسوية المرتجاة. إلا أن الزعيمين العربيين أكدا، تبعاً للجهات نفسها، في دمشق كما في بيروت، ضرورة استمرار جهود التهدئة والحوار بين الطرفين اللبنانيين المعنيين، وتفادي الانزلاق إلى خضات داخلية. ثانيتها، تأكيد الرياض ودمشق أنهما تمثّلان المرجعية المعنية بمراقبة الاستقرار في لبنان والسهر عليه وإدارته، والحؤول دون أي محاولة لزعزعته. بدا واضحاً أمس من اللقاءات التي أجريت على هامش القمّة الثلاثية، بين الأسد ورئيس المجلس نبيه برّي، وبين عبد الله والحريري، وبين المعلم وحزب الله، أن هاتين العاصمتين لا تزالان تتكفلان بحمل حلفائهما اللبنانيين على التزام التهدئة في انتظار إيجاد تسوية. ثالثتها، تفادي ربط الموقف من المحكمة الدولية بمصير حكومة الوحدة الوطنية وتعريض هذه للانهيار. وبدا أن الملك السعودي والرئيس السوري حرصا أمام الذين اجتمعا بهم على تأكيد دعم حكومة الوحدة الوطنية والمحافظة على استقرارها كوعاء لتناقضات أعضائها، وخصوصاً أن تقويض حكومة الحريري لا يكتفي بشلّ شرعيتها فحسب، بل يضع البلاد في مهب اضطرابات غير محمودة. تحت وطأة الصعوبات التي تعصف بالجدل الداخلي حول القرار الظني، اجتمع عبد الله والأسد على موقف مشترك حيال الأفرقاء اللبنانيين، ملازم للحض على ضمان الاستقرار، وهو الحوار والتواصل المباشر في سبيل ذلك. كان الحريري قد سمع الموقف نفسه من الرئيس السوري في أثناء زيارته الأخيرة لدمشق في 18 تموز. يومذاك أفصح رئيس الحكومة عن قلقه من مواقف حزب الله من المحكمة الدولية والقرار الظني وتأثيرها السلبي على الاستقرار الداخلي. كان ردّ الأسد تبرير تلك المخاوف وقد عدّها مشروعة، إذ رأى أن الحزب والمقاومة ينظران إلى المحكمة الدولية على أنها تستهدفهما عبر اتهامهما باغتيال الحريري الأب.
وأضاف: نحن في سوريا أيضاً عشنا مثل هذه المخاوف وأقلقتنا وأدركنا هذه التجربة عندما اتهمت سوريا باغتيال الحريري، إلى حدّ أنكم كلكم كنتم تعلنون أنكم متيقنون من أن سوريا قتلت الرئيس الحريري. وكان هذا الاتهام جازم لديكم ومحسوم وغير قابل للمناقشة والبحث، وأنا احتفظ بتسجيلات بالصوت والصورة لكثيرين من الذين كانون يتهمون سوريا باغتيال الرئيس الحريري، وبينهم أنت (متوجّهاً إلى رئيس الحكومة اللبنانية)، وكنتم تؤكدون أنها هي الفاعلة، ثم تبين أن الواقع مغاير تماماً. وهذه الحال تشبه مخاوف المقاومة اليوم التي تتهم، بعد سوريا، باغتياله، وهو اتهام باطل. أضاف: نصيحتي لك، التواصل مع سماحة السيّد للاتفاق على المعالجة والمحافظة على الاستقرار والتضامن الداخلي. بعد عودته من دمشق، قصد الحريري رئيس الجمهورية ميشال سليمان وأطلعه على محادثاته مع الرئيس السوري، راغباً في دوره في فتح قنوات حوار مع نصر الله التي يوصدها دونه. خابر الرئيس مسؤولاً بارزاً في حزب الله، فكان الجواب في ما بعد أن الأمين العام ليس جاهزاً تماماً للحوار قبل موقف محدّد من الحريري. وفي اجتماعه بالنائب سليمان فرنجية في بنشعي قبل أيام، فاتحه رئيس الحكومة في الأمر نفسه، فنصحه الزعيم الزغرتاوي بالحوار مع الحزب. لم يكن لقاء الحريري بالمعاون السياسي لنصر الله ليل الثلاثاء إلا «تنفيسة» للحوار بين الطرفين، في ظلّ إصرار نصر الله على إبقاء أبواب الحوار المباشر مع الحريري موصدة، إلى أن يتخذ الأخير موقفاً من القرار الظني على نحو يدحض الوجهة الحالية للمحكمة الدولية. كانت الرسالة البليغة بذلك، أن أبواب التسوية مقفلة، فيما أبواب الحوار مشرّعة إذا سبقها موقف ينم بالفعل عن رغبة في مواجهة القرار الظني، الأمر الذي لم يقرّره رئيس الحكومة بعد، ولا يبدو أنه وحلفاءه جاهزون له بعد.