وسيم ابراهيم - السفير
قاطعت هتافات الحشد أليكسيس تسيبراس وهو يوشك على إنهاء خطابه. وكان تسرّب وراءه من جانب المنصة شاب نحيل بشعر مربوط إلى الخلف. في الأصل كان يوماً عاطفياً لأنصار حزب «سيريزا»، فهم يسمعون زعيمه لآخر مرة في العاصمة قبل الحسم الانتخابي يوم غد الأحد. يتحضّرون للنصر، ويحشدون له. لكنّ المقبل الجديد عزيز على قلوبهم أيضاً. أخذه تسيبراس بالأحضان، ولوّحا معاً للجمهور المبتهِج. قاده إلى المنبر لتحية الناس وقول شيء لهم. لكن الأغنية التي تعلو من المكبرات فرضت نفسها، إذ كان المغنّي يقول حينئذٍ «... ثم نأخذ برلين». ضحك تسيبراس، ثم تقدّم قليلاً وصار يصفق للناس مع إيقاع الأغنية. لحظة ـ وتصمت الموسيقى، فيهمّ الضيف بالكلام. حشد أنصار «سيريزا» يعرفه بالطبع. إنه بابلو إيغليسياس (1978)، الذي يصغر تسيبراس بأربعة أعوام، ويتزعم حزب «بوديموس» الإسباني. كلاهما من معسكر «اليسار الراديكالي»، وصعدا من قلب الاحتجاجات الشعبية ضد سياسات التقشف. في حين تؤكد الاستطلاعات فوز «سيريزا» في اليونان، فهي تضع أيضاً «بوديموس» في صدارة الأحزاب الإسبانية، برغم أنه تشكل قبل أقلّ من عام. اليونانيون يحفظون شعاراً ابتكره أنصار الحزب الاسباني ابتهاجاً بأخوّة أحزاب ولدت من همومهم. لم يتمكن إيغليسياس من الكلام، فصوت المحتشدين علا بالشعار: «سيريزا بوديموس فين سي ريموس»، مقلّدين تقطيع الإسبان الكلمة الأخيرة لصنع الإيقاع في الهتاف (فينسيريموس بمعنى سننتصر). «شكراً لكم»، قال إيغليسياس ردّاً على تحية الجمهور، مكمّلاً وهو يبتسم: «أولاً نأخذ منهاتن، ثم نأخذ برلين». يشتعل التصفيق والهتاف من جديد. هنا أوروبا أخرى، تلك التي تحلم الآن. هذا المشهد رآه الملايين حول القارة، خصوصاً في دول الجنوب الأوروبي المأزوم، في إسبانيا والبرتغال وإيطاليا. هناك أيضاً أرهقتهم سياسات التقشف، وجعلت أكثر من نصف الشباب الإسباني واليوناني عاطلاً عن العمل. بهذه الإحصاءات التعيسة يسجلون أرقاماً قياسية وغير مسبوقة. في بروكسل، راقب صناع القرار الأوروبي المشهد بامتعاض. فألمانيا ليست سعيدة أبداً بخيار اليونانيين. «سيريزا» يرفع شعار الخروج من سياسات التقشف المفروضة، والالتفات لحل الأزمة الاجتماعية عبر «إعادة بناء الأمل». الانطلاق من توفير فرص للشباب، استعادة دور الدولة في الرعاية الاجتماعية، ومساعدة مئات العائلات الفقيرة التي تضررت بشدة. حكومة برلين حذرت علناً بأنها لن تقبل أو تتسامح مع برنامج سياسي كهذا، لكنها تراجعت إلى الصمت لأن كلامها أتى بأثر عكسي. التحذيرات لم ترفع شعبية حزب «الديموقراطية الجديدة»، من عائلة «المسيحيين الديموقراطيين»، وهو حزب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بل زادت غضب اليونانيين ليدعموا أكثر خصمه. آخر الاستطلاعات واصلت إعطاء «سيريزا» الصدارة، مع 32.5 في المئة، متقدّماً بفارق خمس نقاط على «الديموقراطية الجديدة» الذي شكّل الحكومة المنتهية ولايتها. السؤال الذي يتردّد الآن لم يعُد إن كان «سيريزا» سيفوز، بل بأيّ نسبة وفارق عن خصمه. يحث تسيبراس اليونانيين على التصويت بزخم، علّ المفاجأة تكون أكبر بما أن هناك أكثر من 7 في المئة من الناخبين لم يحسموا أمرهم. إذا فاز حزبه بنسبة 38 في المئة، فيمكنه قيادة الحكومة وحده (يعطيه ذلك 151 مقعداً في برلمان يضم 300 عضو)، من دون الحاجة إلى تشكيل ائتلاف مع حزب آخر. لكن مَن عرضوا الائتلاف مسبقاً هم أحزاب عدة. هذا ما فعله حزب «بوتامي»، الذي يعارض برنامج الإنقاذ وجعلته الاستطلاعات ثالثاً مع 6 في المئة، وهناك «الحزب الشيوعي» الذي يتوقع أن يعزز موقعه مع 5 في المئة. رئيس الوزراء الحالي أنطونيو سامراس يقود حملة حزب «الديموقراطية الجديدة»، ويسوق للجمهور أن التزامه بشروط الدائنين الدوليين بدأ يؤتي ثماراً تحتاج وقتاً كي تنعكس على وضع الناس. من سخرية الأقدار التي تعكس عمق أزمة اليونان، أن زعماء حزب «الفجر الذهبي» (النازييون الجدد) يديرون حملتهم من خلف قضبان السجن. صعد حزبهم أيضاً في السنوات الأخيرة، وحصل على عشرة في المئة في الانتخابات الأوروبية السنة الماضية. قادته ما زالوا يحاكمون بتهمة تشكيل «عصابة إجرامية»، بعد مجموعة حوادث قتل اتهم بها أنصار الحزب. وبرغم انخفاض شعبيتهم، لا تزال الاستطلاعات تعطيهم فرصة للمنافسة على المركز الثالث. كل أنظار أوروبا موجهة الآن إلى «سيريزا»، فانتصاره يجعله أول حزب يصل إلى الحكم في التكتل الأوروبي حاملاً سخط الشعب. شقيقه «بوديموس» سيكون نهاية العام على موعد أيضاً مع حسم انتخابي. هكذا يتعمّق الشرخ بين جنوب أوروبا، وشمالها الذي يشهد اتجاهاً معاكساً مع صعود أحزاب اليمين المتطرف. إنها «لحظة تاريخية» لليسار الأوروبي، كما تقول زعيمة تكتله في البرلمان الأوروبي، النائبة الألمانية غابي زيمار. كانت قبل أيام تشهد بنفسها التغيّر الذي تعيشه شوارع اليونان. خلال حديثها إلى «السفير»، تقول زيمار إن «الأزمة الإنسانية التي تعيشها اليونان عميقة جداً، لذلك سيكون فوز سيريزا لحظة مهمة للتغيير في أوروبا، وهذا يمكنه أن يفتح الباب لسياسة بديلة عن التقشف، ولليسار البديل وللقوى التقدمية». وبالنظر إلى النجاح الذي يحققه «سيريزا»، تقول زيمار إن اليسار الأوروبي يمكنه التعلم منه: «داعمو سيريزا في اليونان ليسوا فقط أنصار اليسار الراديكالي، بل حلف واسع من الناس على الأرض. هذا ما يجب أن نتعلّمه من سيريزا، أن النضال لا يكون فقط على جبهة الأيديولوجيا بل عبر الاندماج بالناس». حينما كانت «السفير» تتجوّل في أثينا قبل أيام لاستطلاع مزاج الشارع، قابلت من يعتبرون تسيبراس غير واقعي. بعض أنصاره لم يكونوا ينزعجون من الوصف، لكن يصححونه «إنّه حالم أكثر مما هو سياسي». يمكن لذلك أن يكون انتقاداً، لكنّ الشاب الذي قاله كان معجباً، «أنا نفسي شخص حالم. ليس بالضرورة أن يُصاب الحالمون بالخيبة، يمكنهم أن ينتصروا أحياناً». حينما صعد ايغليسياس لعناق تسيبراس على منصة أثينا، كان الحشد يلوّح بلافتات كتب عليها: «تغيير اليونان، تغيير أوروبا». أما الأغنية التي تصدح، فكانت للمغنيّ الشهير والشاعر الكندي ليونارد كوين. روحها تحمل طاقة حلم جبّار، ممتلئ بتصميم صاحبه. تقول مقدّمتها الهادئة التي تصدح بالجملة الأخيرة: «حكموا عليّ بعشرين سنة من الضجر، لمحاولتي تغيير النظام من الداخل. أنا آتٍ الآن. آتٍ كي أكافئهم. أولاً نأخذ منهاتن.. ثم نأخذ برلين».