مايكل عادل - الاخبار
القاهرة | «- أنا لو مُت مش هزعل - بعد الشر عليك، إحنا هنزعل. - اتفلقوا، وأنا مالي؟» هذا الحوار القصير الذي دار مع الشاعر الراحل الخالد أحمد فؤاد نجم (23 مايو 1929 - 3 ديسمبر 2013)، هو ملخّص فلسفته في الموت. دار هذا الحوار على أريكته في «دار ميريت للنشر» حين ورد ذِكر الروائي الراحل إبراهيم أصلان. «الفاجومي» لم يجد في الموت ما يثير حزن الراحل تجاه نفسه، فالحزن يليق أكثر بمحبيه المتألمين لفراقه، بينما يجد هو في الموت رحلة جديدة شيّقة تقوده بعيداً من «وجع الدماغ» والحزن والألم. من شاء أن يبكيه، فليبكِ، ومن شاء أن يرثيه فليرثِ، بينما هو لن يعبأ ولن يهتم وربما لن يفتقد إلا وطنه الذي لطالما غازله بأجمل الكلمات ونعته بـ «حبّي الوحيد». «شَرط المحَبّة الجسارة، شَرع القلوب الوفيّة» حين تتحدّث عن الحب في حياة نجم، فلتنحّ جانباً مفهوم الحب الكلاسيكي السائد في أغلب القصائد والأغاني. الحب في نظره ليس منفصلاً عن شخصيّته المقاتلة، والعِشق في نظره هو المعركة المحسومة دائماً بالفوز. المعركة التي ينتصر فيها الخير على الشر. حين تعرّف نجم إلى الشيخ إمام عيسى الذي صار في ما بعد المطرب الرسمي والأبرز والملحّن الأكبر لقصائده، جاءت أولى الأغنيات التي تعاونا فيها عام 1964 أغنية عاطفية من طراز خاص هي «أنا أتوب عن حبّك». وقد أطلقا عليها اسم «الأغنيّة البكريّة». وكانت تشبه إلى حد كبير في كلماتها وألحانها الأعمال الغنائية التي قام بتأليفها بيرم التونسي ولحّنها الشيخ زكريا أحمد. يتجلّى مفهوم نجم عن الحب حين يقول: «أنا عمري ما أخاف من غدرك يوم». وهنا، ندرك أنّ الحب في قلب «عم أحمد» لم يشُبه القلق، ذاك الحب النابع من القوّة، بل إنّ القوّة هي التي نبعت من هذا الحب. الحب هنا ليس الضعف والاتكال المعهود في الأغنية العاطفية والعلاقات المعروفة، بل هو الحب الذي قوامه الجسارة والقدرة على الصمود والطمأنينة والإحساس بالجمال. في قصيدته «بلدي وحبيبتي» التي كتبها لحبيبته عزّة الخميسي، لم يكتف «الفاجومي» بأن يرسل لها كلام العشق، بل أضاف إليه لمسته المتمرّدة وسخريته المعهودة من النظم والحكام، لم تكن تلك القصيدة تقليدية أو حتى مجرد قصيدة مميزة، بل كانت حالة. كانت قصيدة «بلدي وحبيبتي» هي الحالة التي عاشها نجم في ليلة ما وظل يعيشها حتى آخر يوم في حياته داخل الجسد. في يوم ما وكان نجم خارجاً لتوّه من المعتقل، قابل أفراداً من عائلة الخميسي من بينهم عزّة. وهنا وقع في شرك العشق بمجرد رؤيتها. طلب الزواج منها فتزوجها، ولم يكتمل فرحهما الذي بدأ لتوّه. فقد اقتحمت الشرطة منزله وتم القبض عليه وتفريقهما عن بعضهما. وهنا ولدت قصيدة «بلدي وحبيبتي» التي اختتمها بوصفه لمشهد القبض عليه وسخريته من نظرة الذين أتوا لإحضاره حين لم يروا في عينه خوفاً قائلاً: «كان مُناه يلمح علامة خوف بسيطة، طب هاييجي الخوف منين ابن العبيطة؟». ثم يضيف: «هو مين فينا الجبان؟ ولّا مين فينا اللي خان؟»، كأنه قد قتل كل مشاعر الخوف في قلبه بمجرد إخلاصه ونقائه. ويختتم القصيدة التي كانت بمثابة رسالة غرام لزوجته قائلاً: «أصله شاف صورتين جُمال في العيون الطيّبين، مصر في العين الشمال، وانتي في العين اليمين». ربما كانت تلك هي قصة الحب الأبرز في حياة نجم. كانت قصة عزّة التي تحوّلت إلى "عزيزة" في ما بعد، هي أهم تجربة عاطفية وجدانيّة مرّ بها. لم يقص تلك القصة لكثيرين، وليس لمن يعرفون تفاصيلها كاملة أن يقوموا بسردها، لكن ما يُمكن أن يُقال عنها إنّها كانت أقصر وأطول قصة يمكن أن تُعاش. أرقّ وأمَرّ تجربة عاطفية قد يمر بها شاعر، يحيا بها ويتذكّرها حتى آخر يوم في حياته. هكذا كان يحب نجم، وهكذا كان يُجرح، هكذا كان يقابل، وهكذا كان يفارق. نعلم أنه الآن يتابع حالنا ويسخر ويضحك ويلقي نكاته علينا. نعلم ونكاد نسمع، نودّع ونتمنى اللقاء، نرثي ونضحك على همومنا كما علّمتنا، نحب بولع وجسارة ونفارق بقوّة وحنين. ما زلنا نذكر كل شيء كأنه بالأمس في الليلة التي تكمل بها عامك الأول وسط النجوم، يا أبا النجوم.