آمال خليل - الاخبار
رايات جبهة المقاومة الوطنية رسمت الطريق، أمس، إلى منزل حسن إسماعيل في زوطر الشرقية. عبارات الرثاء على اللافتات الحمراء التي ظلّلت الشوارع، لم تستطع اختصار تاريخ الرفيق «أبو نيبال». لكن بالنسبة إليه، لم يكن صعباً عليه إنهاء ستين عاماً قضى معظمها في النضال العسكري والفكري والاجتماعي في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني، برصاصة واحدة من مسدسه الحربي.
رصاصة اخترقت الرأس الذي لم يحد عن ثوابت اليسار والعلمانية برغم تبدل الخنادق. فهل عاقب عقيدته بالرصاصة وجلد جسده الذي جرح في جبهات القتال وتعذب في سجون العدو الإسرائيلي، بالدم الذي سال فوقه، مغطياً سترته العسكرية التي اختار الموت وهو يرتديها؟ لا أحد رصد اللحظات الأخيرة في حياة الرفيق حسن. وحده كان يجلس في الغرفة التي تملكها العائلة في بستان مطل على نهر الليطاني في وادي البلدة، قبل أن يطلق النار على رأسه. الرفيق والوادي يعرفان بعضهما جيداً، منذ الأيام الأولى للاجتياح الإسرائيلي في عام 1982، عندما ترصد جنود العدو وآلياته. مثلما أنهى حياته طوعاً، خلع بزة الدرك عند بدء الحرب الأهلية وانضم إلى خندق العدالة الاجتماعية. ضربات «القبضاي» الموجعة، دفعت العدو إلى ملاحقته سريعاً. طوّق زوطر من نواحيها كافة وأنزل مروحية لسحبه. تحريره من معتقل عتليت في عام 1984، شحذ همته مجدداً. رافق الأمين العام للحزب الشيوعي الأسبق الشهيد جورج حاوي، في وقت تابع فيه تنفيذ عمليات المقاومة وصنع العبوات. تقاعد المقاومة الوطنية في عام 1990، لم يقعده. واصل دربه مع زياد الرحباني، ممثلاً في ثلاث من مسرحياته ومسؤولاً عن أمنه الشخصي. في عام 1997، امتهن أشغالاً مختلفة من منقذ بحري وصولاً إلى افتتاح فرن في بلدته قبل عامين. حينها، عاد خائباً من جمهورية توغو الأفريقية التي سافر إليها مرغماً، باحثاً عن أسلوب حياة مختلف، لكن جذوره أعادته. بين تلك السنوات المفصلية، روايات تتخم أرشيف جبهة المقاومة والحزب الشيوعي. لكن صداها سرعان ما يتبدد أمام النحيب المتصاعد من غرف منزل الرفيق حسن. انهيار ابنتيه هيفاء ويسار يكاد يخترق جدران غرفتهما. في غرفة الجلوس، تتلقف الندب أم حسن. سيدة سبعينية تضم دموعها بين كفيها وترميها على الأرض وتنوح على شمعتها الأولى التي عوضت حزنها على طفلها الذي توفي سريعاً. منذ صغره، توافق الوالدان على أن حسن «غير كل إخوته السبعة». لأنه «مرضي وهني، قرر الذهاب إلى الموت لملاقاة والده وشقيقه عبودي الذي استشهد عام 1981 بقذيفة» تقول والدته. بصوتها الذي قطعه النحيب، تارة تهديه رضاها ودعواها وتارة تعاتبه لأن ظهرها «لا يحتمل هذه الكسرة التي لا تتجبر». بجانبها، تولت رفيقتها تهدئتها. سيدة تقمع الحزن في عينيها. لكنها سرعان ما تنهار، مشيرة على أم حسن بالتمثل بمعاناتها. إنها الرفيقة أم خالد فوعاني، التي افتتحت ارتباطها بالموت بالشهيدين الأسير فرج الله فوعاني وهنا، ثم ناديا وخالد. في مسيرة تشييع الرفيق حسن، سار اليأس جنباً إلى جنب مع رفاقه. الرعيل الذي أسس جبهة المقاومة ومتن جسور اليسار قبل أن تقعده الأزمات والمذهبيات جانباً. لم ينقلب على الأطر التنظيمية لحزبه. المشكلة ليست في الكوادر، بل في الجو العام. يجزم نجله البكر نيبال بأن لا أسباب مادية وراء قرار والده بالرحيل. يصرّ على أن الإحباط المتراكم من تراجع اليسار وسيادة المذهبية والانتهازية ولصوص المبادئ، دفعه إلى المغادرة عندما لم يجد أنه قادر على التغيير أو أداء دور ما. لم يخطر بباله أن ينتظر حركة تصحيحية في الحزب تبعث فيه الأمل. لا يريد نيبال أن يحمّل أحداً مسؤولية قرار والده، لكنه طلب من الأمين العام للحزب الشيوعي خالد حدادة، أن يفرج عن أرشيف الرفيق شريف وأمثاله ويخرجوهم من عزلتهم ويكرموهم. يشير نيبال إلى أن والده لم يقتل نفسه بالسلاح الذي قاتل به في صفوف الجبهة. لسنوات، ترك بيت النار مليئاً بالرصاص جاهزاً للمواجهة. تفقد نيبال السلاح أمس، فوجده خالياً. قبل 22 عاماً، في مسرحية «بخصوص الكرامة والشعب العنيد» للرحباني، أدى حسن دور «خي الشهيد». طلب منه «أن يطلع من الكادر». قال «بديش أني خي الشهيد». حينها، ظن أنّ المكان مكانه. منذ نحو شهر، بدأ يشعر بأوجاع في معدته والبنكرياس. على نحو تدريجي ومن دون سبب واضح ومباشر، شعر المحيطون به بإحباطه وحزنه. قبل يومين، ترك المكان للرصاصة وطلع من الكادر.