أتمّ الوزير السابق شربل نحاس السبت الفائت عامه الستين. في السنوات الأخيرة، خاض معارك عدة تحت شعار إحراج النظام تمهيداً لكسره. غالباً لم يربح، لكنه استطاع أن يجعل من معظم تحرّكاته مادة لسجال عام. اليوم، مع دخوله العقد السادس، نستعيد معه مرحلة من تاريخ لبنان يرويها من خلال إعادة تأويل سيرته
مهى زراقط - الاخبار
يرتبك الوزير السابق شربل نحاس لدى السؤال عن أمر شخصي. يصف احتفال العائلة بعيد ميلاده بـ«الإشارات اللطيفة». يحاول سريعاً الانتقال بالحديث إلى مكان آخر، يضفي على التجربة الذاتية أهميتها «لأن لها تأثيراً كبيراً جداً على ما سيكون عليه موقعنا العلني والمفبرك في هذه الحياة».
يبدأ الأمر من الطفولة، حين يجهز الأهل الأنماط المسبقة لأولادهم وينتظرون نتائجها. «إذا مرّت الأمور بشكل سلس، يكون منسجماً مع هذه الانتظارات. أما إذا ارتبكت هذه الصور، فسيبذل الشخص جهداً ليحرّك رأسه، ويتخذ موقفاً نقدياً من بعض الأمور».
اللغة العربية
ينتمي نحاس إلى «جيل الشرابل». عندما ولد عام 1954 كان «مار شربل» لا يزال على طريق القداسة. اختارت والدته، ابنة العاقورة، الاسم، وكان نادراً وذا طابع قروي. فدخل من خلال الاسم أولاً ضمن الازدواجية التي تميّز عائلة والدته الريفية عن عائلة والده البورجوازية. هذا الفارق هو أوّل ما تأثّر به. كانا عالمين مختلفين يصعب أن يلتقيا. وعندما يكبر طفل بين هذين العالمين، سيلاحظ الفرق الهائل. أول التحديات كان أي لغة يستخدم بعدما اعتقد لسنوات أن «العربية لغة ناس، والفرنسية لغة ناس آخرين، وعليه أن يتخذ موقفاً». الأمر الثاني الذي أثّر في طفولته كان فارق العمر الكبير بينه وبين والده بما يتجاوز الخمسين عاماً. «كل الأحداث التي كنت أقرأ عنها في كتاب التاريخ، عاشها أبي ولديه روايته الخاصة لها. وهي مختلفة تماماً عن المكتوب». هذا ما جعله يتعامل باكراً جداً مع هذه الروايات بـ«تشكيك بالحد الأدنى». كما جعله ينظر إلى السياسيين في مواقع السلطة بطريقة مختلفة، بما ان والده اخبره الكثير عنهم ما يزيل الهالة التي قد تحيط بمواقعهم.
رغم هذا الوعي، لم يحد عن السكة المرسومة له في منزل عائلته على صعيد الدراسة. لعب دور «التلميذ الشاطر» الذي كانت تعدّه والدته له. بدأ في اليسوعية، فالجمهور، وسافر إلى فرنسا حيث التحق بواحدة من المدارس التحضيرية للهندسة التي لا تستقبل إلا المتفوقين (ecole polytechnique). عامان من المباريات التحضيرية عاش خلالهما وكأنه في معسكر ليربح التحدّي. مع انتهاء العامين، كانت الحرب اللبنانية بدأت. تفاعل مع اغتيال الزعيم معروف سعد. وبدأ الحديث بينه وبين عدد من أصدقائه عن أهمية العودة إلى لبنان «في تلك المرحلة، لم تكن الهجرة خياراً لأحد. قلة هي التي قررت البقاء». لكن قبل العودة، كان لا بد من بناء «العدّة» اللازمة في العمل. «درست إلى جانب الهندسة (التنظيم المدني والبنى التحتية) العلوم السياسية والاقتصادية والانتروبولوجيا». عاد إلى لبنان عام 1979 حاملاً الى شهادة الهندسة، دكتوراه في الانتروبولوجيا، دراسات معمّقة في الاقتصاد، وشهادة الـpolytechnique.
كلية الهندسة
تزامن وصوله مع تولي الرئيس سليم الحص الحكومة في عهد الرئيس الياس سركيس. كانت الأجواء تشير إلى تهدئة. وقّع عقداً لمدة سنة مع مجلس تنفيذ المشاريع الإنمائية، بدأ خلالها التحضير مع عدد من زملائه لتأسيس كلية هندسة في الجامعة اللبنانية، هي الأولى بعد التفريع الذي حصل بسبب الحرب. يصف هذه المرحلة بالمهمة «أسّسنا ثلاثة فروع، كان الأول في الشمال لنكسر القاعدة». أهمية التجربة «أننا انطلقنا لدى وضع المنهاج التدريسي من أننا نريد أن نخرّج نخبة تكون قادرة على التكيّف مع التطورات العلمية المتسارعة من جهة، وأن نكون أعلى مستوى من الجامعات الثانية من جهة ثانية». في المرحلة الأولى كان مبنى الكلية ــ الفرع الثالث في مبنى كلية التربية في الأونيسكو «لكن واحدة من الميليشيات طردتنا». انتقلت الكلية إلى جسر المطار، وبعد وقت قصير حصل الاجتياح الاسرائيلي عام 1982. توقفت الدراسة، وفي انتظار الترميم، تعرّف نحاس إلى المهندس الفضل شلق «قيل لي إنه مكلّف من قبل شخص متموّل بتنظيم تنظيف العاصمة. هذا الشخص كان الرئيس رفيق الحريري». انتهى المشروع، وعاد نحاس إلى التدريس، لكن ليس لوقت طويل. إذ لم تستقم الأمور طويلاً في كلية الهندسة بعد انتفاضة 6 شباط 1984. يرى نحاس أن هذه المرحلة تميّزت بمفصلين أساسيين: تثبيت سلطة الميليشيات والفرز الطائفي من جهة، وتدهور الليرة اللبنانية من جهة ثانية. «وكنا نعي أن ما يحصل سيجعلنا ننتهي إلى بلد غير الذي كنا نعرفه». استمرّ في التدريس حتى 1991 بعدما انتقل إلى الفرع الأول في الشمال. في منتصف الثمانينات، خاض تجربة لم تكتمل مع شركة أوجيه المملوكة من الحريري. اختلف سريعاً مع الشركة بسبب نقاشات حول إعادة إعمار وسط بيروت ودوره، كانت نتيجته إقفال مكتبه.
بلديات 1998
بدأت رحلة البحث عن عمل جديد، بالتزامن مع انتقاله من الروشة إلى الأشرفية إثر تعرّضه لعملية خطف. تعرّف إلى المصرفي موريس صحناوي وعمل في «سوسييتيه جنرال» من 1986 إلى 1998. وكالعادة، خرج من العمل بـ «خناقة». يستفيض في شرح هذه المرحلة التي كانت خلالها الطبقة الجديدة المنبثقة من الميليشيات تخضع لـ «روداج» (تمرين). حصل هذا في وقت كانت المراهنات الأساسية في المنطقة على التسوية قد سقطت، وتحديداً عام 1996. بموازاة ذلك، تعثّرت العملية المالية القائمة على الديون وبدأت خلافات السياسيين تكثر «لأن القلة بتولّد النقار». وهو ما جعل من الانتخابات البلدية في 1998 محطة مهمة. أولاً بفعل الحملة التي سبقت للمطالبة بها (بلدي، بلدتي، بلديتي) وثانياً لأنها أقرّت بحكم من المجلس الدستوري. خاض نحاس الانتخابات، مع مجموعة من الأصدقاء في مواجهة اللائحة التي ضمّت كلّ الأطراف السياسية الممثلة في السلطة. وحظيت الانتخابات بتفاعل شعبي «لا نجد ربعه اليوم على مسائل أخطر». كانت نتيجة هذه المعركة، الطرد من العمل. وبعد مفاوضات استمرّت سنة، حصل على تعويضه من «سوسييتيه جنرال». أبرز ما خرج به نحاس من هذه التجربة، أنه بات يرى لبنان، بسياسييه وأهله ومؤسساته، بطريقة مختلفة. ذلك أن من يعمل في القطاع المصرفي يصبح مطلعاً على مصدر السلطة الحقيقي «يكفي أنك تعرفين من يملك المال ومن لا يملكه». هذه المرة، لم يبحث عن عمل. التعويض الذي حصل عليه جعله يؤسس مكتب دراسات، لكن لمدة عام واحد لم يستطع خلاله أن «يجري مفاضلة بين أن يكون عنده حرية رأي أكبر، أو يكون ملزماً بتأمين استمرارية المؤسسة». أقفل المكتب وبات منذ ذلك الوقت يعدّ دراسات، سواء لصندوق النقد الدولي أو البنك الدولي أو غيرهما.
وزيراً مرتين
عام 2005 كان مفصلياً. وكان من نتيجة التغييرات أن اقترح عليه أصدقاؤه العونيون تعريفه إلى الجنرال ميشال عون. ولدت حاجة متبادلة بين الطرفين، الأول يريد أن يستفيد من خبرة نحاس، والثاني يريد من يساعده على الخروج من هذا النظام. وبدأت الأمور بدورات تدريب نظمّها نحاس عن الإدارة المالية والاقتصادية للبنان وانتهت بدخوله إلى الحكومة مرتين... ليخرج منها مجدّداً بمشكل. الكثير من التفاصيل يمكن أن تذكر هنا عن محاولاته الاستفادة من الفرصة لكسر مسلّمات في إدارة النظام اللبناني لمؤسساته ومقاربته للقضايا، لكن الخلاصة تبقى في الخاتمة بعدما «ذهب بعيداً» في محاولة تغيير الخيارات الاقتصادية الاساسية، ونظم الرعاية الصحية والضرائب، إلخ. يعترف بحصول خطأ في التقدير «كنت أعتقد أن إثارة النقاش حول هذه المسائل في الفضاء العام سيكون له تأثير أكبر مما حصل بكثير، في وقت لم تخذلني فيه الممانعة، بل لبّت النداء بنسبة 100%». تصاعدت الأزمة، وصولاً إلى الاستقالة التي لم يندم عليها لأن التوقيع الذي كان مطلوباً مني (مرسوم بدل النقل) يعني موافقتي على «بيع كلّ ما كوّنته من أفكار. ومقابل ماذا؟ مقابل ما اختير ليكون رمزاً لذلك. لم يكن الأمر وارداً». لم تمرّ استقالته من دون ردود فعل مستنكرة. لكنها لم تتجاوز عبارات الأسف أو التضامن. لا يحاكم نحاس المواطنين لأن «لديهم صوراً نمطية جاهزة وهم يرون أن القاعدة العامة للامور هي الثبات. رأيي أنهم يصدّقون بنسبة 100% أن التغيير لن يتحقق». وهل تصدّق العكس؟ «أنا لا أصدّق أن التغيير سيحصل، بل أعرف أن من الصعب جداً أن يحصل. لكن ما أقوله إننا يجب أن لا نرضى بهذه الحقيقة». نحاس، الذي لا يتردّد في رمي حجر في البحيرة الراكدة كلما أتيحت له فرصة، خاض معركة سبينيس، ومعركة تلفزيون لبنان والمونديال، وتجربة المؤتمر الوطني للإنقاذ. ليس راضياً عما حققه. بعد ستين عاماً، يعترف بأن شيئاً مما حلم به في سن الشباب لم يتحقق. الاسباب كثيرة، ومنها «لم أكن أتصور أن منطقتنا وبلدنا بالتحديد درجة ورا درجة بيتدجنوا وبيضعفوا وبيهزلوا إلى هذا الحد». لكن، لا مجال للتقاعد: «لا أزال شاباً».
هيئة التنسيق: الغرسة الأجمل
يعترف الوزير السابق شربل نحاس أنه لم يستطع تحقيق الكثير في السنوات الماضية. لكني نجحت في إعاقة سير بعض الأمور. سواء على صعيد المصطلحات، مشاريع القوانين، التعامل مع المالية العامة. وفقت في فرض بعض الأمور، مثل ما حققته خلال وجودي في وزارة الاتصالات وفي إثارة قضايا كانت مغلقة من أبرزها هيئة التنسيق. بالنسبة له «هيئة التنسيق هي الأجمل بين مختلف الغرسات التي حاولت غرسها». الموضوع بالنسبة إليه، ليس تصحيح الأجور، بل «حشر النظام». وقد نجحت الهيئة في ذلك حتى أصبحت اليوم «في وضع مختلف عن الذي انطلقت منه. باتت لاعباً أساسياً وعليها التفكير في تثبيت مواقعها وإذا أمكن تحقق خطوة إضافية مثل التحوّل إلى حركة نقابية». يرفض القول إنه يحمّلها أكثر من طاقتها، خصوصاً عندما اقترح في بيان المؤتمر الوطني للإتقاذ الأخير أن تبادر إلى إجراء انتخابات رئاسية «كنت أفتح نقاشاً. فكرت أنه بحكم الإرباك الموجود لدى السلطة: عوض أن تكون هيئة التنسيق جزءاً من مشكلة انعقاد المجلس النيابي، فلتبادر».