يعود إلينا صاحب «جذور السنديانة الحمراء» بأقلام صادقته وأخرى عملت معه في السياقات الفكرية والوطنية والتنويرية ذاتها، فتُستعاد أجزاء ومحطات وذكريات من سيرته مناضلاً ومثقفاً وناقداً عصامياً في العدد الجديد الذي كرّسته المجلة للاحتفاء برئيس تحريرها الذي قضى نصف قرن بين صفحاتها
حسين بن حمزة- الاخبار
كما في عنوان كتابه «وجوه لا تموت في الثقافة العربية الحديثة»، كان الراحل محمد دكروب (1929 ـ 2013) وجهاً من تلك الوجوه واسماً من بين تلك الأسماء التي كتب عنها وأرّخ تجاربها في حقول الرواية والنقد والنضال السياسي والتنويري. وها هي أجزاء ومحطات كثيرة من سيرته مناضلاً ومثقفاً وناقداً عصامياً يُعاد سردها في العدد الجديد الذي كرّسته مجلة «الطريق» للاحتفاء بـ«صاحب الطريق» ورئيس تحريرها الذي قضى نصف قرن بين صفحاتها. هي «دراسات وشهادات ومتابعات»، وكلماتٌ أُلقيت في حفل تأبينه، إلى جانب الأوراق التي قُدمت في ندوة خُصصت له، وتضمنت محورين، الأول بعنوان: «المثقف الثوري والتغيير»، والثاني بعنوان: «محمد دكروب ناقداً ومؤرخاً ».
يعود إلينا صاحب «جذور السنديانة الحمراء» بأقلام صادقته وأقلام عملت معه في السياقات الفكرية والوطنية والتنويرية ذاتها، فنقرأ مجدداً عن دكروب، وعن سيرته كـ«شغّيل ثقافي »، وناقد أدبي، ومناضل تنويري، وماركسي على طريقته. هي أشياء نعرف غالبيتها، ولكن المتعة المتوافرة في تفاصيل سيرته تمنح تلك الأشياء طاقة كبيرة على بثّ انطباعاتٍ جديدة أو تُديم انطباعاتنا السابقة عنها. لقد ظل دكروب مديناً لواقعيته الفطريته التي قادته إلى واقعية فكرية وجدها في الحزب الشيوعي اللبناني، وفي الفكر الماركسي الذي عثر فيه على صياغاتٍ متماسكة وصلبة لأفكار العدالة والفقر التي خبرها في طفولته وممارسته للعديد من الأعمال الشاقة. في الحزب، وفي صحافته، وفي صداقته مع قياديين ومناضلين فيه، وفي قراءاته المتنوعة لأدباء ومثقفي تلك الحقبة من خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ثقّف دكروب نفسه، وتلقى تلك التربية التي منحته نبرة تنويرية ونهضوية جعلت منجزه النقدي والثقافي منتمياً بمفعول رجعي إلى تراث النهضة وروادها الكبار.
من صحبته مع الكتب والكتّاب، صنع صحبته مع القارئ. ومن لغة تمزج بين النقد والسرد والمعلومة الشفوية والوثيقة التاريخية والحوار المباشر، أنجز مؤلفاته ودراساته التي تصفها الناقدة يمنى العيد في شهادتها بأنها «سرديات نقدية»، جعلت من دكروب «ناقداً متميزاً بخصوصية قوامها ذاكرة تقرأ وتفكر لتجعل من النقد سرداً معرفياً ممتعاً يجاور بين الكلام على الأدب وبين الكلام على شخصية المؤلف وظروف حياته ومجتمعه وثقافته، أي بين الأدب وما يعتبره عوامل ذات أثر فاعل في النتاج الأدبي». ولذلك كان «الشخص يأتي قبل النص »، أو تكون صورة الكاتب جزءاً جوهرياً من الكتابة عنه، كما يقول الناقد فيصل دراج في مداخلته « النقد الأدبي وأخلاق التذكر». وبالنسبة إليه، كان دكروب «راوياً» بارعاً وقادراً على تحويل «النقد الكتابي إلى جملة من الحكايات». خلاصاتٌ مثل هذه نجدها في مقالة ماهر الشريف «إضاءات على فكر المثقف الشغّيل »، حيث يستعيد مسيرة دكروب في مجلة «الثقافة الوطنية»، وفي «الطريق» التي «توحّد معها صوفياً»، ورأى فيها «ميدان نشاطه الأرحب، وأداة التنوير الأفعل». وبالفعل، كان صاحب « الأدب الجديد والثورة» أهم منشط ثقافي عربي، بحسب وصف الناقد المصري سيد البحراوي. لقد صنعت له المجلة علاقات وصلاتٍ مع نخبة من أهم الكتاب والباحثين والنقاد على مساحة العالم العربي. صلاتٌ تسربت بطرق مختلفة إلى قراءات وآراء ونقاشات متبادلة أسهمت في تطوير الكتابة والأساليب، مع التركيز على قراءة الواقع وتحولاته من وجهة نظر ماركسية ويسارية وتقدمية. دكروب أو الدكروب كما كان أغلب أصدقائه يسمونه تحبباً، كان ناقداً على طريقته، كما كان شيوعياً على طريقته. لقد ظلت الماركسية تلمع في منجزه الأدبي والتاريخي، ولكنه ابتعد عن القراءة « الحزبية» للنصوص، بل إنه «أخذ على معظم السياسيين والقادة الحزبيين وحتى المنظّرين منهم، استنكافهم عن قراءة الروايات»، كما يقول الشريف عنه. الرفيق دكروب الذي قال: «سأموت شيوعياً»، كتب سيرة الحزب الشيوعي بالطريقة ذاتها تقريباً التي كتب بها «سردياته النقدية» ، فجمع في كتاب «جذور السنديانة الحمراء» بين التأريخ والرواية والحكايات، معتمداً على «مصادر التاريخ الشفهي»، ومقابلة صنّاع الحدث، واستعان بذاكرتهم، وأعاد تركيب وقائع ودلالات مرحلة بكاملها، بحسب شهادة جاك قبانجي. الخلط بين التاريخ والسرد الحكائي والروائي، هو المادة التي تقوم عليها مقالة الباحثة مريم يونس في المقارنة بين محمد دكروب والمؤرخ الفرنسي مارك بلوخ (1866 – 1944) أحد مؤسسي الأنثروبولوجيا التاريخية. مقارنةٌ تعيدنا إلى «الوصفة النقدية » التي اشتهر بها صاحب «تساؤلات أمام الحداثة والواقعية في النقد العربي الحديث». وهو ما نجده مروياً بلسان دكروب نفسه في حوار مهم باللغة العامية أجراه معه الدكتور أحمد علبي بالعامية سنة 1981، ونشرت المجلة جزءاً منه، إذْ يتحدث عن ممارسة يسميها « تقميش مواد الكتاب» الذي يكون بصدد تأليفه. التقميش هو جمع كل ما يتعلق بالموضوع قبل «خياطته» النهائية. لعل هذا التوصيف (الذي يذكّرنا بالمهن اليدوية التي اشتغلها دكروب في طفولته) هو الأقرب إلى كل تلك الجهود النقدية الثرية والممتعة التي كان الدكروب بارعاً في تأليفها أولاً، وفي جعلها مشوقة وثرية وممتعة بالنسبة إلى القارئ ثانياً. بهذه الطريقة كتب عن أسماء وشخصيات باتت جزءاً من ذاكرتنا الثقافية والفكرية والأدبية. وبهذه الطريقة، حظيت تجارب هؤلاء بأن تُروى من مؤرخ وناقد وحكواتي عرف كيف يُصادق النصوص ويستخرج منها بورتريهات مدهشة وعميقة لأصحابها. وهو ما يسميه الباحث المصري صلاح السروي «شعرية الكتابة عن الآخرين»، ويستعرض فيها ما كتبه دكروب عن أسماء مثل: رفاعة الطهطاوي ونجيب محفوظ والجواهري ومارون عبود ومحمد عيتاني وعبد الرحمن منيف وإميل حبيبي ومهدي عامل وصلاح جاهين. الشهادات والمساهمات الأخرى في المجلة هي مقاربات من زاويا متعددة لدكروب «مبدعاً وناقداً ومؤرخاً»، كما جاء على غلاف العدد. ونذكر منها ما كتبه طلال سلمان بعنوان « محمد الذي جاء ماشياً على البحر»، ومحمد البعلبكي الذي وصف الراحل بأنه «سنديانة من سنديانات لبنان الدهرية» ، ومقداد مسعود الذي عاد إلى مجموعته القصصية الوحيدة «الشارع الطويل»، وأيديولوجية القص في بدايات الكاتب، وعبد الإله بلقزيز الذي كتب عن «شخصيات محمد دكروب المتحدة»، وفريدة النقاش التي كتبت عن « محمد دكروب: تكامل الرؤية»، وحسن إسماعيل الذي درس المنهج التاريخي في «جذور السنديانة الحمراء»، ومروان عبد العال الذي كتب شهادة بعنوان: «محمد دكروب: بين روح الأدب والرومنطيقية الثورية.