حسان الزين - السفير
تحتشد المرحلة، منذ قرر وزير التربية الياس بو صعب منح طلاب الامتحانات الرسمية إفادات نجاح، بالأسئلة عن «هيئة التنسيق النقابية» وخطواتها اللاحقة ومستقبلها، ومستقبل العمل النقابي برمّته. بالرغم من ذلك، أي حكم على مستقبل الهيئة سابق لأوانه، ولن يخلو من السياسة. ولا يمكن أن يحصل ذلك من دون الهيئة وتقويمها نفسها ومراجعتها تجربتها ونقدها. شكلت الهيئة منذ ثلاث سنوات المنصة الوحيدة المتبقية للعمل النقابي، في ظل تدجين «الاتحاد العمالي العام» وغياب الأحزاب التي تولي البعد الاجتماعي اهتماماً. بل بقيت الهيئة الصوت الاجتماعي الوحيد المتبقي في ظل طغيان الأصوات المذهبية. والأسئلة عن هيئة التنسيق ومستقبلها ومستقبل العمل النقابي في هذه اللحظة المصيرية ليست معنية بها الهيئة وحدها، بل الجميع، ولا سيما القوى السياسية، ليس بسبب تمثلها داخل الهيئة، وكلها، من دون شر، لديها مكاتب نقابية وتربوية وما إلى ذلك، إنما بسبب طريقة تعاطيها مع الهيئة ومطالبها وفي مقدمها سلسلة الرتب والرواتب. فتلك القوى، ولاسيما الموجودة في الحكم والحكومة، تعاملت مع الهيئة ومطالبها بوجهين على الأقل. في العلن مع الهيئة والسلسلة إلى حد المزايدة أحياناً، وفي السر ضد السلسلة أو مع تعديلها وتأخير إقرارها والتفاوض في شأن تفاصيلها. وهذا الأمر طبيعي نتيجة علاقات تلك القوى مع «النظام الاقتصادي» اللبناني، ونتيجة الرؤى المختلفة لتلك القوى للاقتصاد والدولة ودورها الاجتماعي وإداراتها ومؤسساتها وللموظف هنا وهناك وكيفية حصوله على وظيفته أولاً وحقوقه فيها ومنها ثانياً. يقول الاقتصادي الدكتور شربل نحاس لـ«السفير»: «ما جرى مع الهيئة يؤكد مجدداً أننا أمام قوى سياسية لا تعبّر إلا عن مصالح المصارف وتجار العقارات وتسعى إلى ضرب أي حراك اجتماعي مستقل. على الهيئة أن تعيد صياغة استراتيجياتها للتصدي لهذه السلطة، بالوسائل التي تراها مناسبة». لا يقل عن ذلك أهمية أن كلا من تلك القوى، أو أعضاءها المرتبطين بهيئة التنسيق على الأقل، في تناقض اجتماعي تمثله الهيئة والعمل النقابي وقيمه من جهة، وسياسي أو مذهبي تمثله القوى السياسية من جهة أخرى. من هنا يفترض حين تُطرح الأسئلة على الهيئة التوجه إلى هؤلاء وأحزابهم وتياراتهم، ولا سيما التي تحدثت بوجهين وناورت على هيئة التنسيق أو فيها. فمآل الأمور لا تتحمل مسؤوليته الهيئة منفردة، خصوصاً إنها بشكل من الأشكال ائتلاف القوى السياسية والاجتماعية. وما قامت به القوى السياسية «أفدح» من سعي الهيئة إلى مطالبها واستخدامها ورقة مقاطعة الامتحانات. فالقوى السياسية هي التي بيدها الحل والربط، وهي التي ناورت واستهلكت الوقت ومصالح المواطنين عموماً والطلاب خصوصاً، وهي التي استخدمت وسائلها الإعلامية، وساهمت في «عزل» هيئة التنسيق. لا يعني ذلك أن الهيئة كانت بأفضل حال شعبياً ومدنياً وسياسياً. فالهيئة بالرغم من وجود القوى السياسية في جسمها إلا أنها سياسياً كانت وحيدة، فتلك القوى لا تشكل حاضنة للعمل النقابي والمطالب الاجتماعية. وبالرغم من أن الهيئة حركة نقابية إلا أنها تعمل في ظل غياب النقابات و«الاتحاد العمالي العام»، ولم يلاقها المجتمع المدني، بالرغم مما تشكله من «رافعة» للعمل النقابي والمدني، وبالرغم من حاجتها وحاجة المجتمع المدني والمجتمع اللبناني عموماً إلى تطوير العمل النقابي والمدني والسياسي أيضاً. ولا يمكن أن يُنسى أبداً أن مكوّنات الهيئة، من موظفي القطاع العام وأساتذة التعليم الرسمي، فئات غير شعبيّة نظراً إلى المحسوبيات والفساد في الإدارات العامة وتراجع مستوى المدرسة الرسمية. وقد نمت في ظل «المواجهة الباردة» بين هيئة التنسيق عموماً والأساتذة خصوصاً وأهالي الطلاب، في فترة مقاطعة الامتحانات، مشاعر غاضبة تشبه الأعشاب البرية بين جارين متخاصمين. هذه الأسباب وغيرها نفّرت كثيرين من المواطنين من الهيئة التي لم «تبخل» القوى السياسية وإعلامها في تصويرها وكأنها تعمل وفق قاعدة «مطالبي أنا ومن بعدي الطوفان». يقول رئيس «رابطة موظفي الدولة» محمود حيدر: «يشكّل غياب الاتحاد العمالي فراغاً كبيراً، تحاول الهيئة تغطية جزء من هذا الفراغ، من دون أن تحل بدلاً منه، خصوصاً أننا موظفون في القطاع العام بينما الاتحاد معني بالقطاع الخاص والعاملين فيه. فالمطلوب من الاتحاد والمجتمع المدني العمل معنا لتحقيق مطالب الهيئة ومن أجل قيام حركة نقابية مستقلة. وهذا لا يكون إلا باستعادة الاتحاد دوره وإعادة النظر بسياساته وهيكليّته للدفاع عمّن يمثّلهم. أما غياب المجتمع المدني فلا يُرضي أحداً ولا جواب عنه». يقول خبير في الشؤون النقابية لـ«السفير»: «اقتصرت معركة الهيئة على تصحيح الأجور، ولم تتجه الهيئة إلى معركة استعادة حق التنظيم وبناء إطار نقابي ديموقراطي مستقل وأوسع. فالهيئة لم تسعَ إلى توسيع معركتها بمخاطبة وتمثيل فئات اجتماعية وعمالية أخرى والربط بين القضايا الاجتماعية، وذلك خوفاً من تهديد وحدتها الداخلية. كذلك لم تلق الهيئة الدعم المناسب من الأطراف التي يفترض منها حمل القضايا الاجتماعية المطلبية، مثل الأحزاب والقوى اليسارية ومنظمات المجتمع المدني. فعُزلت بالكامل، وشُوِّهت صورتها باتهامها أمام المواطنين بالسعي إلى رفع الرسوم والضرائب لتحقيق أهدافها الفئوية». يبدو أن قرار وزير التربية في شأن الإفادات والتصحيح شد العصب النقابي حول السلسلة والهيئة كما هما راهناً. ولعلّه أخر تقييم التجربة بعض الوقت، وجعل المنغمسين في نضال الهيئة وشؤونها الداخليّة، يرون الأمور بإيجابيّة وحماسة، ما دامت المعركة من أجل إقرار السلسلة مستمرّة. يقول حيدر: «الجو الآن ردّة فعل على تدخّل القوى السياسية بالقضية المطلبية للهيئة ومحاولة مصادرتها وشرذمتها. فما فعلته الهيئة في الأيام القليلة الماضية كان مدوّياً وصاعقاً، إذ أكدت وحدتها وتماسكها وقالت إنها صف واحد ولا أحد يصادر قرارها». يتابع: «قلنا للأحزاب ونقولها الآن: عليكم المحافظة على كرامة أعضائكم وحرية عملهم النقابي». وإذ يؤكد حيدر أن لا خوف على وحدة الهيئة واستمرارها «بالرغم من كل شيء»، ويدعو «من يشاء إلى حضور اجتماعاتنا ليشاهد تنوعنا ويسمع أصواتنا العالية المختلفة... وفي آخر الاجتماع نتوصّل إلى رأي واحد. فهذه ظاهرة ديموقراطية حقيقية يجب أن تُعمّم، لا أن تُحارب». وذلك ما يحتفي به النقابي حنّا غريب الذي لا ينفك يؤكد على البعد النقابي في الهيئة، مراهناً على دورها المفصلي والتأسيسي في الحركة النقابية اللبنانية، بالرغم من تركيبة الهيئة الإيجابية والسلبية في آن. «هذا أفضل ما يمكن تحقيقه نقابياً الآن في لبنان الذي دُمرت حياته السياسية والنقابية. والمهم أنه جسر وأرضية للعمل النقابي مستقبلاً»، يقول معني في هيئة التنسيق. في المقابل يرى الخبير في الشؤون النقابية أن الهيئة «لم تتمكن من بناء هيكلية تنظيمية صلبة». ويأخذ الخبير على الهيئة أنها «أخطأت حين سلمت مهمة التفاوض مع وزير التربية والكتل النيابية إلى الرئيس نبيه بري ليفاوض نيابة عنها، ما يضرب جوهر العمل النقابي المستقل». ويرى أن الهيئة «حرصت على التوازنات الطائفية والحزبية داخلها، إلى درجة أنها باتت مكبلة وغير قادرة على استعادة زمام المبادرة. وعلى الهيئة أن تقوم بمراجعة نقدية للفترة الماضية وإعادة هيكلة بنيتها الداخلية بضم فئات عمالية جديدة إلى صفوفها وتغيير استراتيجيات عملها». ويخلص إلى أن «رسالة السلطة عبر قرار إصدار الإفادات، والالتفاف من خلاله على الهيئة، يهدف إلى إحباط أي محاولة تأسيس حراك مطلبي اجتماعي قائم على المصالح والحقوق المشتركة؛ وإلى عدم المساس بالسياسات النقدية والضريبية القائمة مع ما تمثله من مصالح ريعية». وسط ذلك، يلفت حيدر إلى «ضرورة نقل البوصلة من التركيز على معركة الشهادات والتصحيح التي حاولوا من خلالها إرهاقنا وتكبيلنا وتدميرنا وتنسيتنا هدفنا ألا وهو السلسلة، إلى السلسلة نفسها. فهي الهدف، ومعها ما نتحدث عنه من سنوات: «إصلاح النظام الضريبي وتوزيع الثروة، رفض الضرائب على الفقراء وذوي الدخل المحدود ورفض تمويل السلسلة من تلك الفئات وإعفاء الأغنياء والمخالفين».
من هي؟ تضم «هيئة التنسيق النقابية» في عضويتها روابط «أساتذة التعليم الثانوي الرسمي» و«معلمي التعليم الأساسي الرسمي» و«أساتذة التعليم المهني والتقني الرسمي» و«موظفي الإدارة العامة»، و«نقابة المعلمين»، إضافة إلى «رابطة الأساتذة المتعاقدين في التعليم الثانوي الرسمي»، التي انضمت قبل نحو عامين إلى الهيئة. ولا يوجد نظام داخلي لعمل الهيئة، بل اجتماعات وتوافق على مواقف تؤخذ بالاجماع. يجمع أعضاء الهيئة مشروع قانون سلسلة الرتب والرواتب التي يستفيد منها القطاعان العام والخاص، والسلك العسكري بكل مكوناته. بدأت أول تحركات الهيئة في العام 1998، بعد إقرار سلسلة الرتب والرواتب للقطاع العام، وكانت تضم إضافة إلى الروابط المذكورة، «رابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية»، إلا أنه بعد حصول أساتذة الجامعة على سلسلة خاصة بهم، انفصلت الرابطة عن الهيئة، في ظل الفارق الكبير في السلسلة، بين أستاذ الجامعة والأستاذ الثانوي، والذي وصل إلى 52 درجة، أي ما يساوي 104 سنوات من العمل في الإدارة أو التعليم.