للمرة الأولى منذ بدء العدوان على غزة، تحاول إسرائيل الإيهام بأنها قادرة على المبادرة، وأنها ليست في موضع الانجرار وراء ما تريده المقاومة، فتعلن ما يبدو أنها محاولة لفك الاشتباك البري بعد الخسائر الكبيرة التي تكبدها الجيش الإسرائيلي. وأعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو قرار المجلس الوزاري المصغر «بالسعي لإنهاء عملية الجرف الصامد» وإعادة نشر القوات في مواضع جديدة، وإخراج غالبية القوات من حدود قطاع غزة. وأثار هذا القرار غضب أوساط واسعة جدا في الجمهور والحلبة السياسية الإسرائيلية، التي اعتبرته إعلان نصر موهوم للتغطية على تراجع مهين. وهكذا في اليوم السابع والعشرين لحرب «الجرف الصامد» بدأ الجيش الإسرائيلي في الانسحاب من معظم المواضع التي تقدمت فيها قواته على شريط حدودي ضيق في القطاع. واختلفت الآراء في فهم قرار المجلس الوزاري المصغر، حيث رأى البعض أنه إيقاف للعدوان بتدرج، ورأى فيه آخرون إكمالاً له بوسائل أخرى. وفي كل الأحوال فهم القرار على أنه محاولة لتجنب الصدامات البرية مع فصائل المقاومة، وخصوصا «حماس»، في القطاع، والعودة إلى أسلوب الضغط بالقصف الجوي والمدفعي، مع الاحتفاظ بورقة ضغط برية في مواضع مريحة لإسرائيل. لكن المقاومة أعلنت أن إجراءات إسرائيل من طرف واحد لا تهمها، وأنها تواصل عملها من أجل تحقيق مطالبها الأساسية بوقف العدوان وفك الحصار. وقد واصلت المقاومة اشتباكاتها مع قوات الاحتلال على الأرض واستمرت في إطلاق الصواريخ على المدن والمستوطنات الإسرائيلية. ورغم محاولة الجيش الإسرائيلي الإيحاء بأنه أفلح في القضاء على الأنفاق، وتقريبا دمر الجزء الأكبر من صواريخ المقاومة، اعترف التلفزيون الإسرائيلي بإطلاق المقاومة أكثر من 100 صاروخ حتى مساء أمس. وهذا يعني أن صورة النصر التي يحاول الجيش الإسرائيلي عرضها تبددت في أول يوم. وربما أن هذا ما حدا بقائد الجبهة الجنوبية الجنرال سامي ترجمان للإعلان عن أنه لم تعد أمام الجيش الإسرائيلي أية خطوط حمراء، والجيش يقصف كل مكان يشكل خطراً. وأياً تكن الحال، فإن الواقع الميداني أصبح يتسم بأشكال من الغرابة. فبعدما أعلنت إسرائيل عن أسر أحد ضباطها، عادت وأعلنت أن لديها دلائل على مقتله، وأن عندها ما يسمح بتشييعه ودفنه. وبذلك يصل عديد الجنود الإسرائيليين المعلن قتلهم إلى 64 جندياً وضابطاً، إضافة إلى حوالي 1500 من الجنود الجرحى. ومعروف أن إسرائيل أقرت أيضا بمقتل ثلاثة من المستوطنين، أحدهم على الأقل قتل في موقع عسكري. وواصلت القوات الإسرائيلية اعتداءاتها وارتكاب المجازر في البيوت والمدارس. وبحسب معطيات وزارة الصحة الفلسطينية، فإن عدد الشهداء حتى مساء أمس بلغ 1810 شهداء في قطاع غزة، منهم 401 طفل و238 سيدة و74 مسنا، و9370 جريحا، منهم 2805 أطفال و1823 سيدة. وكان الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون قد دان بشدة استهداف إسرائيل للمدنيين اللاجئين في مدرسة تابعة إلى «الأونروا» في رفح، معتبرا ذلك «عملا إجراميا» و«فضيحة أخلاقية». ودعا إلى محاكمة المسؤولين عن هذا الاستهداف لارتكابهم «انتهاكاً فظاً للقانون الإنساني الدولي»، مؤكدا أنه تم تسليم الجيش الإسرائيلي المواضع الدقيقة لكل مؤسسات الأمم المتحدة في القطاع لتجنب المساس بها. ودعت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية جين بساكي إلى تحقيق في الهجمات على مدارس للأمم المتحدة في غزة. وقالت، في بيان، إن «الولايات المتحدة هالها القصف المشين اليوم (أمس) خارج مدرسة للأونروا في رفح تؤوي حوالي ثلاثة آلاف مشرد، والذي قتل فيه بصورة مأساوية عشرة مدنيين فلسطينيين آخرين على الأقل». وأعلنت «كتائب القسام» أن إطلاق الصواريخ على تل أبيب وبئر السبع وكريات ملاخي هو الرد على استمرار المجازر الإسرائيلية، وآخرها المجزرة المرتكبة في مدرسة تابعة إلى «الاونروا» في رفح. وذكرت بأنها عمدت طوال المواجهة على التركيز على الأهداف العسكرية، وتجنب قدر الإمكان المساس بالمدنيين بعكس تركيز إسرائيل على ضرب المدنيين. وشددت الكتائب على أنها ترى في كل المدن والبلدات الإسرائيلية هدفاً مشروعاً لـ«كتائب القسام»، وتعهدت بأن لا يحظى العدو بأي هدوء ولا استقرار ولا أمن ما لم تتحقق المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني. وكانت قيادة الجيش الإسرائيلي قد حاولت أن تمنح عملية انسحاب جانب من قواتها بعداً احتفالياً، بأن طلبت من الجنود رفع أعلام إسرائيل على كل مدرعاتهم، وحتى كأفراد. لكن فرحة الجنود الإسرائيليين الذين غادروا القطاع كانت غامرة، ليس لأنهم حققوا نصراً بل لأنهم خرجوا من جحيم غزة أحياء. ورغم إعلان إسرائيل رسمياً أن القرار ينهي أي احتمال بالتفاوض مع «حماس» والفصائل الفلسطينية، ولذلك رفضت إرسال وفدها إلى القاهرة للمشاركة في المحادثات الجارية هناك مع وفد الفصائل الفلسطينية، إلا أنها تدير مع القاهرة مفاوضات عن بعد. وتؤكد مصادر إسرائيلية مختلفة أن التنسيق قائم، والاتصالات مكثفة مع مصر بشأن ترتيبات متفق عليها لوقف النار. فهناك قناعة متعاظمة في إسرائيل بأن وقف نار على أساس الردع غير متوافر، وإن توافر فإنه قصير الأجل. لذلك، ورغم كل ما يشاع، تتطلع إسرائيل إلى وقف نار باتفاق، وفي أقرب وقت، لكنها تأمل أن تسهم العداوة القائمة بين «حماس» ومصر في تقليص إنجازات الحركة. ويرى الخبراء أن إسرائيل سترسل وفداً إلى القاهرة خلال يوم أو يومين، بعد أن تهدأ الخواطر داخل الحلبة السياسية الإسرائيلية المعترضة أساسا على وقف النار. ومعلوم أن الفلسطينيين في الوفد الموحد اتفقوا على ورقة من أربعة بنود، تمثل الموقف الوطني، وتشمل وقف العدوان وانسحاب القوات الإسرائيلية وفك الحصار انطلاقا من تفاهمات العام 2012 والإفراج عن الأسرى من صفقة جلعاد شاليت والدفعة الرابعة والنواب وإعادة إعمار غزة برعاية دولية. ويؤمن معلقون إسرائيليون بأن قرار الخروج من غزة اتخذ بعد وقوف الكابينت أمام معضلة الإمكانيات إثر غياب خيار الحسم. ووجد وزراء الحكومة الأشد تطرفاً في تاريخ إسرائيل أنه ليس أمامهم سوى واحد من اثنين: الردع أو التصعيد في ظل صعوبة التوصل إلى اتفاق. وما شجع على هذا الخيار، وفق أمير تيفون في موقع «والا» الإخباري، حقيقة أن إسرائيل تجد نفسها اليوم أقرب إلى مصر والأردن والسعودية مما إلى الدول الغربية. وكتب تيفون أن أهم ما قاله نتنياهو في مؤتمره الصحافي هو ما تعلق بـ«الحلف الإقليمي الذي نشأ في الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، ووجد أفضل تعبير له أثناء العملية: تحالف معارضي الإخوان المسلمين، الذي يضم مصر (عبد الفتاح) السيسي، الأردن، السعودية، دول الخليج (عدا قطر)، وفي الصف الثاني إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وخلال الجرف الصامد وجدت إسرائيل نفسها للمرة الأولى في تاريخها أقرب إلى الدول العربية منها إلى الغرب الذي أصر على إشراك قطر وتركيا واكتوى». وأكد ذلك المراسل السياسي للقناة العاشرة الذي أشار إلى أن إسرائيل تتطلع إلى أن تربح من «الجرف الصامد» أمر توثيق العلاقات مع الدول العربية الخليجية، خصوصا السعودية. لكنه استدرك موضحا أن المفارقة هي أن ما يقرّب هذه الدول العربية المعتدلة لبعضها البعض هو العداء لحركة «حماس» وجماعة «الإخوان المسلمين»، لكن منح العلاقة مع إسرائيل بعداً علنياً يحتاج إلى مقابل سياسي، كتسريع العملية السياسية مع الفلسطينيين أو القبول بالمبادرة العربية.