غيمة سوداء على الشجاعية

غيمة سوداء على الشجاعية
21 Jul
2014

بكل بساطة، قال وزير الجيش الإسرائيلي، أمس، إنهم أطلقوا «مئات القذائف» على «حي سكني» للتغطية على نقل جرحاهم. بكل بساطة أيضاً، هذه القذائف حفرت في الذاكرة الفلسطينية مجزرة جديدة راح ضحيتها 70 شهيداً و250 جريحاً؛ منهم عائلات بأكلمها

 

سناء كمال - الاخبار

 

غزة | هنا الموت في غزة يمشي بين الطرقات ويعانق جدران البيوت. تصعد أرواح الفقراء إلى السماوات في فجر أحد دامٍ. هنا الموت في غزة يمشي رويداً رويداً لا يستعجل رحيل العائلات فرداً فرداً. في غزة لا يشبه الموت أي مكان آخر، فهو رفيق الناس والشجر والحجر. بعبارة واحدة: الموت في غزة مختلف.

حلت غيمة سوداء من دخان القنابل فجر أمس على حي الشجاعية شرق غزة. ذلك الحي الذي أخذ اسمه من جدّ عائلة فلسطينية قطنها واسمه شجاع. قضى أهل الحي الشهداء ليلة قصف عنيفة جاوزت 400 قذيفة وصاروخ في ساعات معدودة. ما إن انبلج الصبح حتى أفاق أهالي قطاع غزة على مجزرة إسرائيلية جديدة، أكثر من سبعين شهيداً و400 جريحاً في مشهد يحاكي المجازر التاريخية التي ارتكبت بحق الفلسطينيين منذ ما قبل عام 1948. عاد الأحد الأسود ليلقي ظلاله من جديد على كل من حي الشجاعية وأجزاء من حي التفاح. ليلة جنون إسرائيلية لم تسلم منها طواقم الدفاع المدني وسيارات الإسعاف. عشر ساعات متواصلة من القصف والدمار حملت في طياتها قصصاً لمدنيين نجوا بأعجوبة من الموت، لكنهم حملوا معهم صوراً لجثث وأشلاء واستغاثات جرحى من أبنائهم وآبائهم قضوا نحبهم لعدم تمكن أحد عن مساعدتهم. ما إن بزغ الفجر حتى حمل المواطن منصور عياد (35 عاماً) طفلتيه حلا وهيام بين ذراعيه، وراح يركض حافياً تحت القذائف المدفعية، لعله يجد مكاناً آمناً يخبئ الطفلتين المرتعشتين فيه، لكن إسرائيل أبت أن يجد الرجل سبيل أمانه، فباغتته بقذيفة باتجاه أحد المنازل ليسقط أرضاً ويسبح بدمائه، كما تطايرت طفلتاه من ذراعيه لتسقط إحداهما على الأرض مقطوعة الرأس وجسدها ممدّد بجانب والدها العاجز أمام هذا المشهد، والأخرى تناثرت أشلاؤها على جدران المنازل المدمرة. هذه تكاد تكون أصغر قصة من بين الحكايات التي تحكيها المواطنة أم محمد شلدان (50 عاماً) وهي تبكي حرقة من هول ما رأت في «الليلة الغبراء»، فباتت صورة جسد الطفلة المرتعش وهو يتطاير في الهواء يشعرها بخنقة شديدة في صدرها. لا تستطيع سوى أن تقول: «حسبنا الله ونعم الوكيل». أما هي فكانت بداية نزوحها من القصف مع عائلتها من بيتهم الواقع في شارع المنصورة في الحي، وهو من أكثر الشوارع الذي شهد القصف العنيف. تروي أنها راحت تجري مع بقية جيرانها وأقدامهم ترتعد خوفاً من أن يكون مصيرهم كالعائلات التي أبيدت تحت الأنقاض، أو التي لحقتها قذائف المدفعيات تحت درج المنازل، حيث كانوا يعتقدون أنه أكثر مكان آمن، فصار قبراً جماعياً وبئراً تمتلئ بدماء النساء والأطفال. كانت النساء يتمسكن بأيدي رجالهن، لعلهن يشعرون بشيء من الأمن المفقود. وتقول أم محمد الحية (40 عاماً) إنها نزحت مع عائلتها المكونة من 15 فرداً، تارة تركض، وطوراً تسير ببطء مقتربة من الجدران لتقي نفسها وأطفالها رصاص الطائرات الحربية التي تطلق في كل صوب، إلى أن وصلت إلى مستشفى الشفاء الذي يبعد عشرة كيلومترات عن بيتها. هي مسيرة رعب حقيقية عاشها من نجا من الموت. ما إن وصلوا إلى المستشفى حتى ارتموا على الأرض. تقول: «هذا إجرام حقيقي، ما بعرف كيف أوصفه.. هادا كفر حقيقي»، وبطريقة هستيرية راحت تصرخ: «أولادي وين ولادي راحوا، دخيلكم شوفيلي ولادي وين». في زاوية ليست بعيدة، جلس الطفل كمال العمارين يتوسط شابين من أقربائه ويذرف الدموع على عائلته التي فارقت الحياة بعدما قتلت بدم بارد. بدا خائفاً يتوشح غطاءً شتوياً برغم شدة الحرارة، لكن جسده يرتجف حينما ينظر حوله ويرى الشهداء والجرحى من دون أن ينطق بحرف، ووجهه مغطى بالدماء التي تغطي ملامحه. على مقربة أيضاً، سيدة أخرى تنزف دماً من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها. يهز صراخها جدران المستشفى وهي تغوص بين الجرحى تبحث عن أبنائها الذين افترقت عنهم في عمليات الإجلاء. لا تعلم من منهم بقي حياً، ومن منهم لقي ربه شهيداً. لم يدم بحثها طويلاً لأن عينيها وقعتا على جثة طفلتها دون رأسها. لم تكن تلك الفتاة تتجاوز عشرة أعوام. حملها المسعفون على نقالة الموتى، لكنهم التفتوا إلى زميل لهم ينادي عليهم ويقول: «يبدو أن هذا هو رأسها». كسرعة البرق، ركضت المرأة نحو ابنتها تحتضن جسدها وتبكيها بحرقة تلتها صرخة قوية أوقعتها مغشياً عليها فوق الجثة. لم يمض وقت طويل حتى أعلن عن وفاة السيدة بسكتة قلبية!

داخل غرف الموتى حكايات أخرى لن تكون أقل قساوة من غيرها، فهذا محمد العرقان يجلس أمام جثة والده الممددة على الأرض، يبكيه ويحدثه كأنه يستمع له: «يابا ماقدرناش نحميك يابا، ايش ذنبنا احنا، ايش عملنا، يابا ارجع وأنا راح ابعدك عن الطخ والقتل، ايش راح نعمل من غيرك». أما جثث الأطفال فكانت ملقاة على الأرض فوق بعضها بعضاً تنتظر ذويها كي يحضروا ليتعرفوا عليها. الثلاجات أيضاً ممتلئة بأشلاء جثث تعود إلى عائلات بأكملها، وحتى كتابة النص لم يجر التعرف عليها. كل هذا الإجرام حتى تتشفى إسرائيل بالفلسطينيين جراء سبتها الأسود الذي عاشته على أيدي المقاومة الفلسطينية حين أوقعت 14 جندياً إسرائيلياً قتلى في كمين نصبته لهم على الحدود الشرقية لحي الشجاعية. العملية أعلنت عنها كتائب الشهيد عز الدين القسام التي أضافت على المشهد أمس إنها أسرت أحد الجنود ويدعى شاؤول آرون. ولأن الحاضنة الشعبية هي سر قوة فصائل المقاومة، أراد جيش الاحتلال أن يهدم تلك الحاضنة، فصب جام غضبه على الأبرياء المدنيين، ولا يختلف على ذلك اثنان من الناس الذين شردوا من منازلهم، وأهالي الشهداء. يقول أحدهم ويدعى إبراهيم الجرو: «احنا بدنا المقاومة... بدنا اياهم يقتلوهم كلهم، يحرقوهم زي ما حرقوا قلوبنا على اولادنا وأهلنا وأحبابنا»، بصوته العالي الجهوري راح يتابع: «احنا مع المقاومة وكلنا وولادنا ونساؤنا فدا فلسطين والمقاومة... سنبقى نقبل أيدي وأقدام رجال المقاومة، ويا إسرائيل ضلك هيك هزمناكِ بدماء أطفالنا، هزمناكِ برجالنا بمقاومتنا، لن تنتصري يا إسرائيل لن تنتصر يا نتنياهو».

استهداف صحافي وعائلته

تأخر تأكيد خبر استشهاد وإصابة أفراد عائلة ضاهر في حي الشجاعية أمس، حتى جرى التأكد من الجثث والمصابين، في ظل الأعداد الكبيرة من الضحايا داخل المستشفيات. تبين أن الزميل الصحافي محمد ضاهر مصاب إصابة خطيرة بعدما استشهدت ابنته الصغيرة «دانا» التي لم يتعدّ عمرها السنة والنصف مع استشهاد والده ووالدته وعدد من إخوته بعد استهداف بيتهم خلال القصف المكثف فجر أمس. محمد يرقد الآن في العناية المركزة في مستشفى الشفاء وهو بحالة حرجة، إضافة إلى زوجته المصابة. وكان ضاهر يعمل في صحيفة وموقع الرسالة محرراً صحافياً. هذا ليس الاستهداف الأول للصحافيين وإن كان غير مباشر، فهم أهداف مرغوبة لدى الإسرائيليين في ساعات عملهم، وأيضاً هم مستهدفون كالمواطنين المدنيين خلال عودتهم إلى بيوتهم. لا يعلم إلى أين ستؤول الحالة الطبية لمحمد في ظل الوضع الإنساني المأزوم داخل المستشفيات، لكن مستقبله كما باقي العائلات الفلسطينية سيكون قاتماً بعد استشهاد جل العائلة.

الأكثر قراءة