هاني عضاضة 15/07/2014 في مفهوم المقاومة، إن مجرّد وجود إسرائيل على الأرض العربية المحتلّة يعتبر اعتداءً، إذ أنّ الاعتداء ليس فقط في حالة القصف أو الحرب، على قطاع غزّة أو الأراضي اللبنانية، بل بوجود هذا الكيان، الذي فرضته الحركة الصهيونية بدعم الحكومة البريطانية ومن ثم الأميركية، من الأصل. الاحتلال اعتداء، وطالما أن الاحتلال موجود، فإنّ التلازم بين كافة القوى الإسلامية واليسارية التي تواجه إسرائيل موجود، رجعيةً كانت أم تقدمية في طرحها السياسي والفكري. لكن التقاطع بين هذه القوى هو تقاطع مرحلي، مؤقّت، تكتيكي وليس استراتيجي. إن ضرورة خوض النضالات الموحّدة يفرض على تلك القوى تفادي العداوات، غير المجدية مع بعضها البعض، ولو اختلفت إيديولوجياً واستراتيجياً. لا ينكر أحد بأن إسرائيل نجحت في فرض شروطها على عدد كبير من الدول العربية، بغية كسر الحصار الاقتصادي الذي المفروض عليها من الستينات، أيّام حركات التحرر العربية. نجحت إسرائيل في تدجين الأسواق العربية والإقليمية لمصلحتها، ممّا كان له الأثر المباشر في فرض الاستسلام على تلك الدول، التي سقطت في فخّ التطبيع والمعاهدات المذلّة غير المتكافئة، وذلك بسبب سقوط حركات التحرر العربية وغياب المقاومة، بمختلف أشكالها، أي غياب قوة التصدي للهيمنة الصهيونية. ولكن على شعبنا، وبخاصة الشّباب الذي يعاني الأمرّين مع تفاقم البطالة والهجرة وازدياد الأوضاع المعيشية سوءاً، تحديد موقعه من هذا الصراع. إذ ليست المقاومة العسكرية سوى شكلٍ واحدٍ من أشكال المقاومة. إنّ تحرير الأرض شرطٌ من شروط تحرير الإنسان، اقتصادياً وفكرياً وثقافياً، لكنه ليس الشرط الوحيد، وإن كان أساسياً. وهذا هو الفخّ الذي وقعت فيه الأنظمة العربية، وهذا هو محور الاختلاف الاستراتيجي بين القوى اليسارية والإسلامية في لبنان وفلسطين. إن محور التوافق بين كافة قوى المقاومة في لبنان، باختلاف إيديولوجياتها، هو نتائج الحروب الإسرائيلية وآثارها المدمّرة على الاقتصاد اللبناني، ومن أهمها التخريب المستمرّ للبنى التحتية المدنيّة، والمرافق الحيوية من الطرقات، الجسور، الأنفاق، شبكات المياه ومعامل الكهرباء، إضافةً لتهجير آلاف العائلات من القرى إلى ضواحي بيروت، بعد تدمير المنازل والمصانع والمؤسسات. أسهم ذلك في تشكّيل أحزمة الفقر وارتفاع معدّلات البطالة. يضاف إلى ذلك سرقة مياه نهريّ الوزّاني والليطاني، لتنمية المستوطنات وتوسيعها، ومحاولة فرض التطبيع من خلال اتفاقية 17 أيار. الاتّفاقية التي كانت ستؤسّس لعلاقة تبعيةٍ تجاريةٍ واقتصاديةٍ مباشرة للاقتصاد الإسرائيلي "المُنتِج"، لتحويل لبنان إلى سوق لتصريف المنتجات الإسرائيلية. وصولاً لاكتشاف "نوبل إنرجي" الأميركية لحقل "كاريش" المشترك، الذي يمكّن إسرائيل من سحب الغاز اللبناني في البحر، لتكتمل عملية سرقة الثروات النفطية والمائية، مع عملية التدمير الممنهج للبنى التحتية الأساسية، ومحاولات فرض التطبيع. أما محور الخلاف، فهو ما يستدعي النقاش، فمفهوم المقاومة لدى الحركات اليسارية شامل لكلّ أوجه الصراع. يعتبر اليسار في لبنان كل حركةٍ ضد السلطة، التي تحرم شعبها أدنى حقوقه، حركةً مقاومة، ولا ترى إلّا فرقاً بسيطاً بين نتائج السياسات المتّبعة من قبل السلطة الحاكمة، ونتائج الحروب الإسرائيلية المدمّرة. "هيئة التنسيق النقابية" حركةً مقاوِمَة، ضد تسلّط حيتان المال واستئثارهم بالثروات المنتَجة، وتلاعب الهيئات الاقتصادية بلقمة عيش الملايين من الناس. "مشاع" حركةٌ مقاوِمَة، ضد احتلال الأملاك العامة البرية والبحرية والنهرية، وضد فساد السياسيين، وخاصة الوزراء، الذين يستغلّون مواقعهم لتمرير صفقات تملّك مشبوهة. تمرّد المياومين في القطاع العام فعلُ مقاومة ضد ظاهرة العمل المياوم، وهي من مخلّفات العبودية، التي تحرم العمال من كافة حقوقهم، وضد الخصخصة، وسياسات التفليس الممنهج للمؤسسات العامة بهدف بيعها، أو مشاركتها مع الشركات الخاصة. تحرّك عمال "سبينيس" ضد ظروف العمل القاسية والأجور المتدنّية، ونضالهم بهدف تنظيم نقابة تتخطى "سبينيس" لتجمع عمّال متاجر التجزئة لحمايتهم من الاستغلال الذي يتعرّضون له، فعلُ مقاومةٍ واضح. إضراب الدكتور علي برّو عن الطعام لمدة 20 يوماً، رغم سنّه الذي يصل إلى 63 عاماً، فعلُ مقاومة ضد الظلم الطبقي اللاحق به كمواطن، وضدّ الفساد الإداري والنهب، الذي شهده كرئيس مصلحة في وزارة الزراعة. نزول آلاف الشبّان والشابات إلى الشارع عام 2011، للمطالبة بتغيير النظام السياسي الطائفي، رافعين شعارات العلمانية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، فعلُ مقاومة وكسرٌ لجدار الخوف والصمت. دفاع المزارعين في البقاع عن محاصيلهم الزراعية وأراضيهم من بطش أجهزة الدولة، فعلُ مقاومةٍ لنهج التفقير، وغياب سياسات التنمية، التي تنتج حرقاً للموارد الطبيعية بدل استثمارها. انخراط الطلاب في سوق العمل في وقتٍ باكرٍ، وتوفيقهم بين ساعات العمل الشاقة وساعات الدراسة الطويلة، مقاومة للفقر والجهل في آن واحد. تحدّي التفجيرات الإرهابية بمزيد من التماسك والتعاضد، مقاومة لا تقلّ قيمةً عن تماسكنا وإيماننا بالنصر تحت صواريخ وقذائف العدو الصهيوني. انتحار العاملات الأجنبيات، تارةً شنقاً وطوراً قفزاً من الشرفات، مقاومة للظلم والظروف الوحشية، والسجن المنزلي، ونظام الكفالة الذي يضمن تعرّضهن للعبودية من قبل "أصحابهنّ"، ليست المقاومة تحريراً للأرض فحسب، بل هي كل فعلٍ نضالي ضدّ كل ظلمٍ يتعرّض له أيّ إنسان. كما قال تشي غيفارا: "إن مقاومة الظلم لا يحدّدها الانتماء لدين أو عرق أو مذهب، بل تحدّدها طبيعة النفس البشرية، التي تأبى الاستعباد وتسعى للحرية."