حلمي موسى - السفير
بعد أيام من المناوشات، وإبداء النية في عدم التصعيد، تدحرجت عجلة الحرب الإسرائيلية الجديدة على قطاع غزة بعد أن أصبحت تحمل اسما: «الجرف الصامد» إسرائيليا، وأسماء بينها «البنيان المرصوص» فلسطينيا. وهكذا انطلقت الحرب الجديدة بدموية بعد أن طلب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو من جيشه «خلع القفازات» أولا وبعدها الاستعداد للتجريف الميداني ضد غزة التي تقاتل وحيدة. وألحقت إسرائيل عدوانها بالإعلان عن بحث تجنيد 40 ألف جندي، للإيحاء بأن التلويح بالحرب ليس مجرد تهديد وإنما يجد ترجمة فعلية له، وأن إسرائيل لا تخشى العملية البرية. لكن من الواضح أنه بعد ساعات على الإعلان عن بدء عملية «الجرف الصامد»، وتوسيع الغارات على غزة، انطلقت صواريخ المقاومة من غزة إلى تل أبيب لتثبت أنها أيضا لا تخشى المواجهة الشاملة. وأطلقت صافرات الإنذار في كل غوش دان، من تل أبيب إلى بيتح تكفا ونيس تسيونا، ووصلت صواريخ المقاومة الى القدس المحتلة وتل ابيب عسقلان واسدود وبئر السبع، فيما اكدت المقاومة انها استهدفت حيفا ايضا. ومن الجائز أن سياسة «ضبط النفس» التي انتهجتها ظاهريا حكومة نتنياهو كانت ترمي إلى الإيحاء بأنها غير معنية بالمواجهة، ما أثار عليها غضب القوى اليمينية. لكن هذه السياسة وجدت تأييدا لها من جانب أوساط واسعة في الجمهور الإسرائيلي، إذ أثبت استطلاع نشرته «معاريف الأسبوع» أن 47 في المئة لا يؤيدون عملا بريا في غزة. وبعد اشتداد المطالبة اليمينية بتوسيع نطاق الحرب ضد المقاومة في قطاع غزة التي تطلق الصواريخ بشكل واسع، قرر الجيش الإسرائيلي توسيع نطاق غاراته. واستهدفت الغارات، خلافا للسياسة السابقة، بيوتا آهلة ومقاومين في تحركاتهم بطريقة تعيد للأذهان المقاربة الإسرائيلية في حرب «الرصاص المسكوب»، والتي أرادت الإيحاء بأن لا حصانة لأحد ولا مكان آمن. وكان من أبرز الخطوات التي أقدمت إسرائيل عليها محاولة ترسيخ قاعدة الردع عبر استهداف بيت آل كوارع في خانيونس، وهو مليء بالمواطنين الذين احتشدوا لمنع تدميره. فالفلسطينيون الذين جربوا في الماضي ويلات النزوح من بيوتهم فقط بسبب تهديد إسرائيلي قرروا الاعتصام في بيوتهم وعدم الخروج منها، بل واحتشاد الجيران والأقارب فيها بقصد وقف هذا النمط من التهجير والتدمير. لكن الجيش الإسرائيلي آثر هذه المرة استعادة «الردع» برفع منسوب الدم، فقصف البيت ما أدى إلى استشهاد ثمانية وإصابة ما يزيد عن 25 فلسطينيا. وتدعي إسرائيل أن البيوت الآهلة التي تقصفها هي جزء من «البنية التحتية» لحركة «حماس»، وأنها بين أكثر من 150 هدفا تعرضت للقصف والغارات في مناطق من رفح جنوبا إلى بيت حانون شمالا. وفي كل حال كان منسوب الدم في غزة قد وصل يوم أمس فقط إلى 17 شهيدا، وهو مرشح للتصاعد بفعل القصف من ناحية وانعدام الرعاية الطبية اللازمة من ناحية أخرى. ومعروف أن مستشفيات القطاع تعاني من أزمة حادة بسبب النقص في المواد الطبية وتدهور الخدمات جراء عدم توزيع الرواتب على مستخدمي هذه الوزارة منذ عدة شهور. وأشارت مصادر طبية في القطاع إلى إصابة 106 اشخاص بجروح. وقال المتحدث باسم حركة «حماس» سامي أبو زهري، في بيان، «مجزرة خانيونس ضد النساء والأطفال هي جريمة حرب بشعة، وكل الإسرائيليين أصبحوا بعد هذه الجريمة أهدافا مشروعة للمقاومة». وحذر من أن «استمرار استهداف الاحتلال الإسرائيلي للبيوت الآمنة وقصف السيارات وسقوط الشهداء هو لعب بالنار»، مشيرا إلى أن «الاحتلال سيدفع الثمن». ورغم أن عددا من المعلقين العسكريين والسياسيين في إسرائيل يؤكدون أن غاية الجيش الإسرائيلي من التصعيد هو دفع «حماس» تحديدا إلى وقف إطلاق الصواريخ، وإلى اتخاذ تدابير لمنع القوى الأخرى من الإطلاق، إلا أن هدف الحكومة الإسرائيلية هو دفع «حماس» نحو تفاهمات جديدة. ويبرر المعلقون هذا الاستنتاج بأن الحكومة الإسرائيلية لا تزال ترغب في وساطة تجري، سواء عبر مصر أو أية دولة أخرى، والمهم هو توقف المواجهة قبل أن يستمر سقوط الصواريخ على تل أبيب والقدس. لكن أوامر استدعاء القوات الاحتياطية، وبالآلاف، بعد أن كان الأمر مقصورا حتى أمس الأول على 1500 جندي، يشير إلى استعدادات واسعة لمعركة تطول. وقد طلب وزير الدفاع موشي يعلون من الحكومة تفويضا باستدعاء حتى 40 ألف جندي بغرض نشرهم في الضفة وعلى الحدود الشمالية بدلا من القوات النظامية التي سيتم نقلها للمشاركة في الحرب على غزة. وقال «نحن نستعد لشن حملة ضد حماس لن تنتهي في بضعة أيام»، مضيفا «في الساعات الأخيرة ضربنا بقوة، وألحقنا أضرارا بعشرات من ممتلكات حماس، وسيواصل الجيش جهوده الهجومية بطريقة من شأنها تدفيع حركة حماس ثمنا باهظا للغاية». وصدرت أوامر لبلدية تل أبيب والبلديات المحيطة بها بفتح الملاجئ وتجهيز وحدات الدفاع المدني والخدمات الصحية. ويتحدث ضباط إسرائيليون للصحافة عن قناعتهم بأن الذراع العسكري في «حماس» هو من يدير التصعيد حاليا، ويقود عمليات إطلاق الصواريخ. ويقول هؤلاء إن الضائقة الاقتصادية والسياسية التي تعاني منها الحركة قادتها إلى توسيع الإطلاقات وعرض شروط لوقف إطلاق النار. ومن الواضح أن البدء بإطلاق الصواريخ على تل أبيب ومحيطها سيزداد، حيث أن الليل حمل معه أشد صلية صواريخ منسقة، لا تقل عن 30 صاروخا متوسط المدى نحو القدس وتل أبيب وبئر السبع دفعة واحدة. وأثارت هذه الصلية الانطباع بأن قيادة المقاومة في غزة تنسق خطواتها رغم السيطرة الجوية الإسرائيلية، وأن «القبة الحديدية» رغم قدرتها على إسقاط عدد من الصواريخ إلا أنها كانت عاجزة عن مواجهة صلية كبيرة. وقد سقطت صواريخ في القدس وبئر السبع وأسدود على أقل تقدير. إضافة لذلك هناك العمليات الهجومية التي شنتها «كتائب عز الدين القسام» بحرا على «كيبوتس زيكيم»، حيث اعلن الاحتلال استشهاد 4 مقاومين واصابة جندي، وبرا عبر الأنفاق نحو «كيبوتس كيرم شالوم». وهنا يطرح السؤال هل سيشكل ذلك اقتراب الحرب الجارية من نهايتها، أم بداية تصعيد أخطر وأكبر. واعلنت «كتائب عز الدين القسام» انها قصفت حيفا والقدس وتل ابيب بالصواريخ. وقالت، في بيان، «للمرة الاولى، كتائب القسام قصفت مدينة حيفا بصاروخ ار 160»، مضيفة انها «قصفت مدينة القدس المحتلة باربعة صواريخ من نوع ام 75، وتل ابيب باربعة صواريخ من نوع ام 75». وتبعد القدس وتل ابيب حوالي 80 كيلومترا عن غزة. ومن المؤكد أن توسيع نطاق الإطلاقات يعني إدخال ملايين جديدة من الإسرائيليين في نطاق النيران، وهو أمر له عواقب، ليس فقط على صعيد الخسائر في الأرواح والممتلكات. فعلى سبيل المثال، ما إن تم الإعلان عن عملية «الجرف الصامد» حتى خسرت بورصة تل أبيب واحدا في المئة من قيمة أسهمها كما تراجع الشيكل أمام الدولار بشكل طفيف. وبديهي أن استمرار المعارك وتحقق توسيعها يعني المزيد من الخسائر، خصوصا أن مطار اللد وموانئ اسدود وعسقلان تقع في مرمى صواريخ غزة. وهكذا فإن الوقت عملة صعبة وجنرال بالغ القوة يحاول كل طرف استغلاله أكثر لصالحه. فالمقاومة الفلسطينية من جهة تراهن على طول المعركة وقدرتها على شل أو تشويش الحياة لأكبر قدر ممكن من الإسرائيليين. أما الدولة العبرية فتراهن على تكثيف الضربات لـ«حماس» ودفعها إلى التراجع عن إطالة المعركة والتوصل إلى تفاهمات بأسرع وقت ممكن. ومن الواضح أن توسيع دائرة المواجهة سوف يدفع العديد من القوى الإقليمية والدولية للتدخل بهدف وقف الحرب. كما أن ازدياد القصف الإسرائيلي على القطاع سيقود بالتأكيد إلى وقوع الكثير من الضحايا في صفوف المدنيين الفلسطينيين، ما يشكل عنصرا ضاغطا على إسرائيل والسلطة الفلسطينية والدول العربية المحيطة. ودعا الرئيس الفلسطيني محمود عباس إسرائيل إلى وقف التصعيد فورا، فيما طالبت الجامعة العربية مجلس الأمن بالانعقاد فورا لوقف العدوان. وأعربت واشنطن كعادتها عن دعمها لإسرائيل في عدوانها. وقال المتحدث باسم البيت الأبيض جوش ارنست «ندين بشدة إطلاق الصواريخ المتواصل على إسرائيل والاستهداف المتعمد للمدنيين من جانب منظمات إرهابية في غزة». وأضاف «لا يمكن أن تقبل أي دولة إطلاق الصواريخ التي تستهدف المدنيين، ونحن نؤيد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد تلك الهجمات الشريرة»، لكنه حث نتنياهو الإبقاء على القنوات الديبلوماسية مع الفلسطينيين مفتوحة لحل الأزمة.