ايلي الفرزلي - السفير
عندما يصبح الفراغ بنيوياً تصبح حركة احتجاجية من هنا أو من هناك أشبه بضرب في الميت. الدكتور علي برو يرفض ذلك. يصر على إيقاظ الميت الذي تختبئ السلطة في جسده. لمن لا يعرف برو، هو مهندس في الـ63 من عمره، يعمل في وزارة الزراعة منذ العام 1995، وقرر في 19 حزيران الحالي (تاريخ انفضاض جلسة «سلسلة الرتب والرواتب» من دون تحديد موعد لجلسة أخرى) أن يُسْمِع ظالميه صوت أمعائه الخاوية، بعدما أيقن أن كل صراخه وزملاءه على مدى ثلاث سنوات لم يصل الى المعنيين. هناك في الساحة الفاصلة بين سلطتين (تشريعية وتنفيذية)... وفراغين. في ساحة رياض الصلح، يبيت برو بلا طعام إلى أن يتحقق أحد أمرين: إقرار «السلسلة» أو الانتقال إلى المستشفى. يسمع برو يومياً صوت الصدى الآتي من عند جيرانه هنا أو هناك. هو صدى لخواء لا يشبه صوت أمعائه. نعم لم يذق برو الطعام منذ 11 يوماً، لكنه مع ذلك، لا يتردد في إعطاء الدعم المعنوي لكل زائر متضامن. يُطمئن الجميع إلى أنه لن ينكسر. سيظل واقفاً يطالب بحقه، بالرغم من التضييق الذي يمارس ضده. من أراد أن يحجّم معركة برو فيجعلها في مواجهة القوى الأمنية لم ينجح. قضيته ليست مع هؤلاء الذين يحرمون من حقوقهم كما يحرم هو. منعته القوى الأمنية من اتقاء حر الشمس في خيمة، كما حرمته من الفيء تحت مظلة. لم يبق أمامه سوى بضع شجيرات منثورة تحت أقدام تمثال رياض الصلح. مع ذلك، فهو يشكر وزير الداخلية نهاد المشنوق لأنه زاد من قدراته. لم يعد يقدر على الصبر في مواجهة الجوع فحسب، إنما على مواجهة الشمس الحارقة أيضاً. مع ذلك، هو يشعر بغصة كبيرة تجاه العسكريين الذي يقولون له، وهم يضيقون عليه: «نحن لسنا سوى عبد مأمور». يصرخ: «هذه ثقافة خطيرة، لا أفهم لماذا يعتبرون أنفســهم عبيداً»! من يزور لبنان مستطلعاً أوضاعه، يسمع مطولاً عن جدول أعمال ضخم وضع على طاولة السلطة، من رئاسة الجمهورية إلى الحكومة إلى «سلسلة الرتب والرواتب» إلى الانتخابات النيابية وقانون الانتخاب... من يسمع يُخيّل له أن السلطة لا تنام لإنجاز هذه المهمات. علي برو ورفاقه لا يرون إلا الخواء: هم عبارة عن مافيا وسلطة فاسدة لا تعمل إلا لحماية نفسها ومصالحها. من أين جاء برو بكل هذه القوة لكي يحتمل؟ يقول: من قوة الحق وتجاوز الظالمين المدى. حتى الآن، يطالب الرجل بحق واحد من حقوقه كموظف في الإدارة العامة. في الأسبوع المقبل، وإذا حافظت السلطة على اللامبالاة تجاه «السلسلة»، سيرفع من سقف مطالبه. عندها، يقول، إنه سيطالب بحقوقه كمواطن، وأولها مواجهة الظلم والفساد. هو يثق أن 95 في المئة من الشعب اللبناني يعانون من الفساد، ويثق أن ساحة رياض الصلح لن تبقى وحيدة: إذا وقعتُ سيحمل كثيرون الراية. مطلب برو، كما «هيئة التنسيق النقابية»، ليس تعجيزياً، لكن ربطه بتأمين الإيرادات هو التعجيزي. يقول: لم يحدث أن رُبطت رواتب الموظفين بتأمين الواردات لها. هي تدفع من الخزينة العامة، التي على الدولة أن تؤمن الواردات لها لتخفيف العجز. أما الإصرار على الربط، فهو إصرار على تغطية الهدر والتمادي في سرقة الشعب خصوصا الفقراء. برو مقتنع أن وقف الهدر كاف لتغطية «السلسلة»، وعليه، فهو يتهم كل من يحور القضية ويربط بين الإيرادات والحقوق بأن هدفه حماية الفساد والفاسدين. في الساعات الطويلة التي يمضيها وحده، يحلو للرجل الذي لا تفارق الابتسامة وجهه أن يكتب بعض العبارات المستمدة من حالته وحالة بلاده. أمس كتب: «إذا ما كنت من 14 أو 8 دور على وطن تاني». تنتهي الجلسة مع علي برو، فيعود سريعاً إلى كتاب «المؤلفات الكاملة للشهيد غسان كنفاني». بلغ خاتمة رواية «رجال في الشمس» عندما أراد «أبو خيزران» أن يتفقد «أبو قيس» ورفاقه... في الخزان الحديدي... فوجدهم جثثاً مهترئة!