أعادت الأحداث التي شهدتها محافظة القطيف في السعودية خلال الأسبوع الحالي تسليط الضوء على لغم سياسي – اجتماعي قد يؤدي انفجاره إلى تحولات دراماتيكية في المملكة التي ما زال حكامها يقاومون بديهيات الإصلاح.
يوم الأحد الماضي، تدهورت الأوضاع في القطيف فجأة، فقد ألقت السلطات الأمنية القبض على رجل الدين الشيعي البارز الشيخ نمر النمر بعد إطلاق النار عليه مباشرة.
ونشر ناشطون صوراً على شبكة الانترنت لرجل ذي لحية بيضاء قالوا إنه الشيخ النمر داخل سيارته، وكانت تغطيه ملاءة بيضاء عليها بقع من الدماء.
وقوبل اعتقال الشيخ بغضب شعبي عارم، إذ نزل الآلاف من شباب المنطقة الشرقية إلى الشارع للاحتجاج على ما حدث، فقُتل اثنان منهم (محمد الفلفل وأكبر الشاخوري). ويقول ناشطون إن الشابين قتلا برصاص قناصة من قوات الشرطة كانوا يتمركزون على أسطح المباني، وهو ما تنفيه وزارة الداخلية التي تقول إن إطلاق النار على الشابين أتى من «مصادر مجهولة».
وبالرغم من تدخل شخصيات بارزة في القطيف لتهدئة الشارع، ونجاحها، حتى الآن، في احتواء الغضب الشعبي المتصاعد، والذي تبدى خلال جنازتي تشييع الشابين، إلا أن أحداث الأسبوع الحالي جددت مخاوف من احتمال أن تخرج الأمور عن نطاق السيطرة، خصوصاً أن الحديث يدور عن أزمة حقيقية تبقى منذ عقود ناراً تحت رماد.
اعتقال النمر
في الظاهر، تعود الأسباب المباشرة للأحداث الأخيرة إلى يوم 16 حزيران الماضي، حين استقبل بعض شباب القطيف خبر وفاة ولي العهد السعودي الأمير نايف بن عبد العزيز بتنظيم مسيرات احتفالية أطلقوا خلالها المفرقعات النارية، وأحرقوا صور ولي العهد الراحل، وهتفوا بسقوط آل سعود.
بعد ذلك بأيام، خرج الشيخ نمر ليدافع عن شباب القطيف قائلاً «كيف لا نفرح؟ الذي قتّل أولادنا ألا نفرح بموته؟ الذي سجّن أولادنا ألا نفرح بموته؟»، مضيفاً «هذه البلد يحكمها أبناء عبد العزيز إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. هذا تصريح نايف. فليحكمها من القبر».
لكن شقيق الشيخ النمر، المعارض السعودي محمد باقر النمر، يقول لـ«السفير» إن الموضوع أبعد من مجرّد رد فعل فردي وسلوك من قبل بعض الأشخاص ممن احتفلوا بوفاة نايف. ويوضح «الإعلام التابع لوزارة الداخلية يتحدث عن حرق لصور الأمير نايف، ولعل ذلك حدث، لكن ثمة قضايا خطيرة يتم تجاهلها، ومن بينها ابتزاز رجال الأمن لشخصيات بارزة في القطيف عند مفارز التفتيش، واستفزاز وسائل الإعلام لمختلف شرائح المجتمع وخصوصاً الشيعة».
في المقابل، يرى الكاتب السعودي جمال الخاشقجي، في حديث إلى «السفير»، أن اعتقال الشيخ نمر جاء على خلفية مطالبته بالانفصال، معتبراً أن السلطات السعودية تأخرت كثيراً في اعتقاله. ويوضح الخاشقجي أن الشيخ النمر «بلغت به الجرأة أن دعا إلى انفصال المنطقة الشرقية، وهذا أمر يرقى إلى ان يكون جريمة»، مشيراً إلى ان «الرجل تجاوز كل الحدود، والدولة أعطته الفرصة تلو الفرصة عبر وساط للتراجع عن هذه المواقف، لكنه استمر بها، وهذا يعد تهديداً لوحدة المملكة لا يرضاه السعوديون».
غير أن محمد باقر النمر ينفي أن يكون شقيقه قد طالب بانفصال المنطقة الشرقية. ويوضح «لو عدت إلى التسجيل، لاكتشفت أن الشيخ نمر قال حرفياً: قال إذا لم تتم الاستجابة إلى مطالبنا المشروعة، وإذا لم تعط لنا حقوقنا، فليدعونا وشأننا»، متسائلاً «عندما تغلق السبل والطرق وتوصد الأبواب ماذا تراه يفعل هذا الشيخ أو العامل أو الفلاح أو الموظف؟».
ويشير محمد باقر النمر إلى أنه «لا يوجد عملياً برنامج بالانفصال لدى أي أحد في المنطقة الشرقية... أما إذا تكلم أحد هنا وآخر هناك فهذا شيء آخر»، مشدداً على أن «ثمة مساعي جادة ومخلصة من قبل أهالي القطيف لتعزيز الاندماج الوطني»، وهو ما تبدّى في عرائض وبرامج عديدة قدمتها فعاليات المنطقة بالاشتراك مع قوى سياسية واجتماعية أخرى.
غير أن الخاشقجي يرى أن الشعور بالإجحاف لا يبرر المطالبة بالانفصال، موضحاً «لكل سعودي الحق في أن يطالب بما يطالب، ونحن نطالب الدولة بما نشاء، ولكن مطالبتنا تأتي في إطار الدولة، إذ لا يحق لأي أحد يشعر بإجحاف أن يدعو إلى التقسيم، وهذا مبدأ سائد في كل الدول».
ويبقى السؤال: لماذا تدهور الوضع بعد فترة هدوء نسبي شهدتها المنطقة الشرقية بعد سلسلة الاحتجاجات التي حركها تفاعل أهالي المنطقة مع موجة «الربيع العربي»؟
يرى محمد باقر النمر أن ثمة جانبين للموضوع، الأول، هو أن «ثمة ضغوطاً مارستها فئات سلفية متشددة على وزارة الداخلية بعدما وجهت إليها اللوم بالتساهل مع المعتقلين الشيعة، علماً أن الحقيقة ليست كذلك». والثاني، هو «رسالة سياسية ربما أرادت السلطات أن تبعث بها إلينا».
ويشير النمر إلى أن «ما حدث شكّل مفاجأة لنا»، موضحاً أنه «بعد تعيين الأمير أحمد بن العزيز وزيراً للداخلية، تم إطلاق 5 أو 6 من معتقلي الرأي، وتوقعنا أن تستمر هذه الانفراجات، ولو بوتيرة بطيئة، لكي يبدأ الأمير أحمد عهداً جديداً، ولكننا فوجئنا بهذا السلوك الأمني الذي لم نشهده حتى مع الأمير نايف». ويضيف أن ما حدث كان «رسالة قاسية لأهالي القطيف والاحساء، فالأمير أحمد بدأ عهده بالدماء، وهي بداية غير موفقة».
في المقابل، يقلل الخاشقجي من أهمية التوقيت، كما ينفي أن يكون اعتقال النمر قد جاء استجابة لأي ضغوط، مشيراً إلى أن «الدولة راعت ظروفاً معينة، بل أن ثمة من يقول إنها تأخرت كثيراً في اعتقاله». ويضيف أن «الرجل تُرك على أمل أن يتوقف عن هذه التصريحات»، ولعل سبب التأخير في اعتقال النمر، بحسب الخاشقجي، يعود إلى أن «تعامل الدولة مع قضية الأقليات يتطلب نوعا من الحرص والعناية».
جذور المشكلة... وآفاق الحل
وبعيداً عن الأحداث المباشرة المرتبطة باعتقال الشيخ النمر، فإنّ ما تشهده المنطقة الشرقية في السعودية من حراك شعبي هو نتيجة طبيعية لمشكلة ما زالت عصية على الحل منذ عقود، ويصطلح البعض على تسميتها بـ«المسألة الشيعية في السعودية».
ويشكل السكان الشيعة البالغ عددهم قرابة مليوني نسمة، ما بين 10 و15 في المئة من إجمالي عدد السكان في السعودية. ويقيم معظم هؤلاء في المنطقة الشرقية (القطيف والاحساء) التي تضم أكبر حقول النفط ومصافي التكرير. وثمة تجمعات شيعية في مكة والمدينة، بالإضافة إلى تجمع اسماعيلي (حوالي مئة ألف) في منطقة نجران على الحدود السعودية – اليمنية.
والواقع أن الشيعة في السعودية كانوا هدفا للتحريض الطائفي منذ تأسيس المملكة في العام 1932، ولعل الاحتجاجات التي شهدتها المنطقة الشرقية في أواخر السبعينيات تعكس بشكل أو بآخر عمق المشكلة التي يميل كثر داخل المملكة إلى تجاهلها.
وفيما اتخذ الملك عبد الله لتحسين العلاقات بين الطوائف المتعددة في المجتمع السعودي، حين كان ولياً للعهد في عهد الملك فهد، فإن نطاق المعالجة السياسية لمشكلة الأقلية الشيعية في المملكة ظلت دون المستوى المطلوب.
وبالرغم من أن السبب الأبرز للحراك الشعبي في المنطقة الشرقية هو سياسة التهميش والتمييز التي تنتهجها الحكومة إزاء الأقلية الشيعية، إلا أن معظم أبناء المنطقة يرون من الظلم وصف تحركهم بـ«الطائفي».
ويقول محمد باقر النمر إن «الحراك في المنطقة الشرقية هو حراك مطلبي بالدرجة الأولى، يطالب برفع التمييز الطائفي ضد شيعة المنطقة الشرقية، وهذا حق مشروع وهو مطلب وطني من قبل كل المخلصين»، مشدداً على أن «أهل المنطقة الشرقية ينشطون ضمن حراك وطني وهم ليسوا في منأى عن باقي مطالب الإصلاح».
أما الخاشقجي فيشدد على أنه «من الخطأ الحديث عن مشكلة تاريخية في القطيف»، موضحاً أن «أبناء المنطقة هم كغيرهم من أبناء السعودية، وبالتالي لا يجوز الحديث عن حالة خاصة تستدعي أن نصفها بأنها أزمة».
ويرى الخاشقجي أن شكل الحراك في المنطقة الشرقية فيه عناصر مختلفة، «فهناك مجموعات تتناغم مع الطرف الخارجي، الإيراني تحديداً، وهؤلاء أقلية مهمشة حتى داخل المجتمع الشيعي، وهناك قوى وطنية شيعية تتفاعل مع غيرها من أجل الإصلاح في السعودية، وثمة تلاقٍ بينها وبين مختلف المثقفين السعوديين، حيث إن الجميع يدرك أهمية الشراكة لتحويل السعودية إلى بلد أفضل».
لكن النمر يرفض التلميح إلى الدور الإيراني في الحراك الشيعي، إذ يعتبر أن المنطقة الشرقية «أصغر من أن تدخل في معادلة إقليمية دولية»، مشدداً على أن «هذا الحراك موجود قبل أن تتوتر العلاقات بين إيران والسعودية، وقبل أن تقوم الثورة الإسلامية». يصف النمر استحضار العامل الخارجي بأنه «شماعة» تعلق عليها أخطاء النظام، مذكراً بأن أهالي القطيف والاحساء «مواطنون عرب أقحاح... ولا يحق لأحد أن يشكك في وطنيتهم».
ولعل النظرة المختلفة في توصيف المشكلة في المنطقة الشرقية مختلفة بين هذا وذاك، وهو أمر ينسحب على الرؤى المطروحة لحل هذه المشكلة.
وفي هذا الإطار، يرى الخاشقجي أن «معالجة المشاكل في القطيف تبدأ بأن يبادر وجهاء القطيف إلى الاتصال بالمسؤولين السعوديين، وأن نسعى جميعاً لنشر ثقافة الاعتدال»، مشيراً في المقابل إلى أنه «لا حاجة تستدعي اتخاذ مبادرة من قبل الحكومة تجاه بضع أشخاص خرجوا على النظام.. فأنت كمن تقول لماذا لا تقدم الحكومة مبادرة لتنظيم القاعدة».
أما النمر فيرى أن حل مشكلة القطيف يبدأ بـ«قرار سياسي شجاع» من القيادة السياسية في البلاد، مشدداً على ضرورة «التخلي عن المعالجة الأمنية» التي أوصلت الحال الى ما هي عليه اليوم. ويضيف «نقول للمسؤولين: لقد جربتم المعالجة الأمنية طوال 70 عاماً ولم تتمكنوا من حل المشكلة، فلماذا لا تجربون المعالجة السياسية؟»، مشيراً إلى أن «المعالجة السياسية اعتمدت في الماضي حين اتخذ الملك فهد مبادرة شجاعة وتحاور مع المعارضة في الخارج». ويتساءل «كيف تطالب الحكومة السعودية أنظمة أخرى، كالنظام السوري، بالتخلي عن الحل الأمني واعتماد الحل السياسي فيما هي عاجزة عن تطبيق ذلك في الداخل؟».
في المقابل، يرفض الخاشقجي الحديث عن «معالجة أمنية» تنتهجها السلطة في مقاربتها لملف المنطقة الشرقية، إذ يرى أن «ما يحدث عملياً هو أن أجهزة الأمن ترد على كل من يخالف الأنظمة، سواء في القطيف أو في أي مكان آخر، من قبيل نصب الحواجز وإلقاء المولوتوف، وهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أن الدولة تستند إلى المعالجات الأمنية».
يرى كثرٌ على أن السعودية ليست بمنأى عن «الربيع العربي»، وإن كانوا يقرون بأن حجم تأثير الثورات العربية على المملكة يبدو ضعيفاً، وهو أمر فيه الكثير من الصواب، خصوصاً أن الحراك المجتمعي السعودي يكاد لا يتجاوز بديهيات الإصلاح السياسي، فيما السقف الأعلى للمطالب لا يتجاوز الدعوة إلى تحويل الحكم إلى ملكية دستورية... ومع ذلك فإن استحضار التجارب التاريخية، سواء في السعودية (سقوط الدولتين الأولى والثانية)، أو في مناطق أخرى في العالم يظهر أن لغماً سياسياً من مثل الحراك الشعبي في المنطقة الشرقية قد يتحول في لحظة ما إلى كرة ثلج تنذر بتحولات دراماتيكية قد تخرج عن السيطرة.