حنفية الحريري لم تعد «زي ما هيي»

على جمهور تيار المستقبل التأقلم مع الحياة الافتراضية. الزعامة «التويترية» لا تقدم خدمات طبية ولا منح تعليمية ولا كراتين إعاشة ولا ثياب شتوية. «تويت»: موقف سياسي. «تويت»: نفي. «تويت»: تضامن سياسي. «تويت»: تصعيد. «تويت»: عليّ وعلى أعدائي. وأنا، أنا زعيم افتراضي. «تويت» أخير: آسف يا جمهوري، سيطالكم ما لا يطالني. من اخترع «تويتر» كان يفكر، تحديداً، بالرئيس سعد الحريري. بعد إخراجه من السلطة، يخرج الحريري نفسه من سوق التقديمات الاجتماعية والصحية والتربوية. يعاني الموظفون الحاليون والسابقون في هذه المؤسسات المشاكل. فيما يكتشف الكثير من المواطنين مفاجأة عظيمة: يمكننا الاستمرار على قيد الحياة من دون مؤسسات الحريري. أما تيار المستقبل فيختار، على طريقة الحريري، الأجوبة الافتراضية بدل مصارحة جمهوره بحقيقة الأزمة التي يعانيها، وخرائط الطريق التي يمكن أن يسلكها، محاولاً وضع الأزمة في سياق تنظيمي مرسوم مسبقاً، داعياً كل من يريد خدمة إلى الالتحاق بالحزب. وكأن الحزبي العادي مكلف بغير الاقتراع «زي ما هيي» مرة كل أربع سنوات صدَق السائرون في مأتم الرئيس رفيق الحريري في هتافهم «أبو الفقير... أبو الفقير». كان الهتاف نبوءة: ابن «أبو الفقير»، الرئيس سعد الحريري، بات... فقيراً! غسان سعود

يفاجأ بائع الصحف قرب المركز الصحي الاجتماعي، التابع لمديرية الصحة الاجتماعية في مؤسسة رفيق الحريري، في منطقة الحدادين في طرابلس، بالسؤال عن مواعيد العمل في المركز. «هذا أقفل قبل ثمانية أشهر. سر خمسين متراً تجد مستوصف جمعية «العزم والسعادة»، الرئيس نجيب ميقاتي يطبّبك». والموظفون؟ «بعضهم طرد وآخرون نقلوا إلى أحد المركزين الآخرين لمؤسسة المستقبل في المدينة». المركز الطبي بات شقة سكنية. يستنفر الجيران لسؤال الزميلة المصورة عما إذا كانت هناك نية لإعادة فتح المستوصف، معتقدين أن الآتي من بيروت يعرف أسراراً لا يعرفها القاطنون في المدينة مهما كانت مواقعهم التنظيمية.

من الحدادين إلى دوار أبي علي. بينه وبين المركز الجديد لسوق الأحد، مركز استشفائي آخر لتيار المستقبل. تعاقُد الأخير مع وزارتي الصحة والشؤون الاجتماعية يجعل العمل داخله شبه طبيعي، يستنفر العاملون فور سؤالهم عن «زوابع الطرد» التي تعصف بمؤسسات التيار، كاشفين عن قلق يهجس به الموظفون الحريريون، طالبين مراجعة المديرة. تجري الأخيرة اتصالاً بالمسؤول عنها لتشير بعده إلى وجوب مراجعته شخصياً، رافضة التعليق على الأنباء عن طرد نحو ثلث الموظفين.في المنية، تراجعت وتيرة العمل المستقبلي. حال المدينة من حال مختلف «المدن الحريرية» الأخرى: لم توزع عام 2011 أية منحة تعليمية هنا. وتوقفت «الخدمات الاجتماعية»: لا كراتين إعاشة باسم الرئيس الشهيد منذ نحو سنتين. ولولا أكياس الثياب التي توزعها «العزم والسعادة»، لكان فقراء المدينة قد لبسوا ما بقي من ثياب العام الماضي.موظفو المستقبل يعيشون أياماً صعبة، أما المواطنون، فلا يجدون أنفسهم أمام مشكلة كبيرة: «ميقاتي هو الحل». يشير أحد مخاتير الزاهرية إلى أن ينابيع الخدمات الخاصة كثيرة في المدينة، يجف نبع الحريري، فينتقل العطاشى إلى نبع ميقاتي أو الصفدي أو حتى حزب الله. وبحسب جار المختار فإن المعونة الطبية أو التربوية لا تلزم أحداً بأحد في طرابلس. يتكرر هذا الحديث أكثر من مرة وفي أكثر من حي. من يراقب الشرفات في طرابلس، يرَ يومياً صورة تهوي لتُرفع أخرى مكانها، من دون أن يعبّر «أهل الشرفة» عن تغيير في آرائهم السياسية أو الانتخابية. كفَّ الحريري يده؟ لا مشكلة، هناك دائماً من هو مستعد ليعلّم ويعمّر ويكبّر.بعد خروج الحريري من السلطة، تخرج خدماته من المجتمع. بالنسبة إلى المناوئين للتيار الأزرق، هي خطوة إضافية نحو انتهاء الحالة الحريرية. أما بالنسبة الى المستقبل نفسه، فهي «أزمة» يجري العمل على حصر تداعياتها السلبية. ويمكن من محادثة هؤلاء تفصيل خطتهم وفق أربعة مستويات:يرى أحد المسؤولين في قطاع الطلاب في تيار المستقبل، أولاً، أن من واجب رجال الأعمال والسياسة الذين حصدوا ثروات بفضل المستقبل أن يردوا بعضاً من جميله. يروي أحد المعنيين أن مجموعة من رجال الأعمال تقدموا قبل بضعة أشهر بمبادرة لإنعاش الحريري مادياً، إلا أن رئيس الحكومة السابق شكرهم بلباقة رافضاً «كرتونة الإعاشة»، لكن، بحسب المصدر، لم يمانع الحريري أو غيره مبادرة أحد الراغبين في الحلول محل النائب كاظم الخير في الانتخابات المقبلة إلى تحمّل كلفة استئجار مكتب المستقبل في منطقة المنية. طلاب مستقبليون يراهنون على تكثيف المبادرات المماثلة، آخذين العبر من تجارب حزبية أخرى «تدبّرت مصاريفها من بيع الروزنامات». أما في أوساط رجال الأعمال القريبين من المستقبل، فيتضح وجود انقسام بين من يرى في عودة الحريري إلى الحكم فرصة ربح إضافية، ومن يرى في سقوطه سقوطاً لدين في أعناقهم. المجموعة الثانية تستفيد من رحابة الصدر الميقاتية، واستعداد رئيس الحكومة لاستقبالهم، من دون شروط سياسية أو التزامات انتخابية.ثانياً، تفعيل العمل النيابي. يوافق النائب هادي حبيش على «وجود مشكلة مادية كبيرة تواجه تيار المستقبل في هذه المرحلة»، لكنه لا يرى الصورة بالسوداوية التي يتخيلها البعض. يشرح أن 20% فقط من عمله الخدماتي كان يرتبط بمؤسسات المستقبل، والـ80 في المئة الباقية يوفرها من علاقاته الخاصة بموظفي القطاع العام. يؤكد أن الخروج من السلطة لم يحدّ من قدرته على التحرك بين المؤسسات الرسمية: «سابقاً كنا نتجنب الهجوم على الوزير إذا تأخر في خدمتنا لأنه يخصنا، أما اليوم، فالله يعين الوزراء إذا تأخروا علينا في خدمة، سنتهمهم بالكيدية وغيرها». ويرى أن على زملائه «تدبير أمورهم» لأن «20% من الخدمات العامة تحتاج إلى موافقة الوزير، و80% يمررها الموظفون من الحاجب إلى المدير العام، إذا عرفوا كيف يوطدون علاقتهم به».ثالثاً، «ترشيد الإنفاق». يقارن أحد المسؤولين الحريريين في هذا السياق بين عدد الموظفين غير المنتمين إلى حزب الله في قناة المنار، وعدد الموظفين غير المنتمين إلى تيار المستقبل في قناة المستقبل. وبين نسبة غير المنتمين إلى الحزب المستفيدين من تقديماته، ونسبة غير المنتمين إلى التيار المستفيدين من تقديماته. يشير إلى أن إعادة النظر في عمل مؤسسات المستقبل قرار عائلي أخذه آل الحريري مجتمعين قبل نحو سنتين، وقرار سياسي ـــــ إداري يقضي بالاستفادة من خبرات الحزب التقدمي وحركة أمل في استغلال وجودهما في السلطة. وأتت أزمة الحريري المادية لتسرع تطبيق هذه الخطة، مع تشديد المصادر الرسمية في المستقبل على أن المنتمي إلى التيار سيجد من يهتم به وبأسرته أفضل اهتمام: «كيف سيميز الحزبي نفسه عن غير الحزبي؟ لا حقوق من دون واجبات. نحن حزب سياسي لا جمعية خيرية أو مؤسسة إنسانية لا تبغي الربح».رابعاً، شد العصب السياسي. هنا يمثل النائب خالد ضاهر نموذجاً عن رؤوس الحربة التي تأمل قيادة المستقبل رؤيتها. «ثمة أزمة مادية صعبة، يجب على قيادة المستقبل معالجتها دون شك»، يقول ضاهر. لكنها في نظره ليست كارثية. فأولويات المواطن اليوم ليست الكهرباء ولا حبة الدواء أو المعاينة الصحية أو المنحة المدرسية. «على المستقبل العمل لإعادة تأمين كل تلك الحاجيات دون شك، لكن الأولوية هي للعمل السياسي والموقف مما يحصل في سوريا». ولو كانت الخدمات شرط الزعامة، لكان الرئيس عصام فارس يمثل اللائحتين المتنافستين في عكار، يقول ضاهر.

عبرة فتفت

بموازاة التراجع الحريريّ خدماتياً بعد التراجع السياسيّ والإعلامي (الذي يبحث في خلوة مستقبلية نهاية الأسبوع)، ثمة فريق سياسي لا يسعى إلى الاستفادة جدياً من إمكان ملء الفراغ الحريريّ. الأمر الذي يشجع نقيب المحامين السابق رشيد درباس على القفز بحماسة أكبر إلى مكتبته، ليعود إلى نتائج الانتخابات النيابية عام 2000. يومها أبلغ عصام فارس رفيق الحريري، قبل 24 ساعة من موعد الانتخابات، عدم قدرة لائحته ـــــ نتيجة توصية سورية ـــــ على تبني مرشحه في دائرة عكار ـــــ الضنية ـــــ بشري، أحمد فتفت. وتزامن «الإبلاغ» مع احتجاز الاستخبارات السورية معظم «مفاتيح المستقبل الانتخابيين» في الشمال، لكن، رغم هزالة التنظيم الحريريّ في الشمال في تلك المرحلة، وضآلة المال السياسي وخدمات التيار في تلك المنطقة، تمكن فتفت من التقدم على فارس بجبروته المالي والخدماتي بنحو ثمانية آلاف صوت. يبتسم درباس، واثقاً من أن فكرته وصلت. ابتسامة تتسع أكثر حين يتذكر كيف بادر الحريري الابن الرئيس ميقاتي بالقول حين التقاه قبيل انتخابات 2009 النيابية بعد انقطاع: «أوعا تفتكر أن خدماتك في الشمال تزعجني، أنت تصرف عنك وعني». هذا تماماً ما يحصل اليوم: يأخذ ميقاتي القرارات الصعبة بالنيابة عن الحريري، ويحمي موظفيه ويصرف المال والخدمات بالنيابة عن تياره.

على طول الطريق بين طرابلس وعكار، تزداد أعداد السيارات التي تسير دون لوحات تسجيل. وكلما اقتربت من مدينة حلبا، تزداد أعداد المخالفين. تلاحظ واحدة فثانية ثم ثالثة ورابعة، لتكتشف أن المستغرب هو العثور على سيارة تحمل لوحة تسجيل، لا العكس. إن دل هذا الأمر على شيء، فيدل على غياب الأجهزة الأمنية أو تقصيرها في منطقة تحمل الكثير من تبعات الصراع الحاصل في سوريا.

الأكثر قراءة